الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن أبواب الربا الشرعي السلم في الحيوان

قال عمر - رضي الله عنه -: "إن من الربا أبوابا لا تخفى؛ منها السلم في السن"؛ ولم تكن العرب تعرف ذلك ربا؛ فعلم أنه قال ذلك توقيفا؛ فجملة ما اشتمل عليه اسم الربا في الشرع النساء؛ والتفاضل؛ على شرائط قد تقرر معرفتها عند الفقهاء؛ والدليل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: [ ص: 185 ] "الحنطة بالحنطة؛ مثلا بمثل؛ يدا بيد؛ والفضل ربا؛ والشعير بالشعير؛ مثلا بمثل؛ يدا بيد؛ والفضل ربا"؛ وذكر التمر؛ والملح؛ والذهب؛ والفضة؛ فسمى الفضل في الجنس الواحد من المكيل؛ والموزون؛ ربا؛ وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أسامة بن زيد ؛ الذي رواه عنه عبد الرحمن بن عباس: "إنما الربا في النسيئة"؛ وفي بعض الألفاظ: "لا ربا إلا في النسيئة"؛ فثبت أن اسم الربا في الشرع يقع على التفاضل تارة؛ وعلى النساء أخرى؛ وقد كان ابن عباس يقول: " لا ربا إلا في النسيئة ؛ ويجوز بيع الذهب بالذهب؛ والفضة بالفضة؛ متفاضلا"؛ ويذهب فيه إلى حديث أسامة بن زيد ؛ ثم لما تواتر عنده الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريم التفاضل في الأصناف الستة ؛ رجع عن قوله؛ قال جابر بن زيد : رجع ابن عباس عن قوله في الصرف؛ وعن قوله في المتعة؛ وإنما معنى حديث أسامة: النساء في الجنسين؛ كما روى في حديث عبادة بن الصامت ؛ وغيره؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الحنطة بالحنطة؛ مثلا بمثل؛ يدا بيد"؛ وذكر الأصناف الستة؛ ثم قال: " بيعوا الحنطة بالشعير كيف شئتم؛ يدا بيد "؛ وفي بعض الأخبار: " وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم؛ يدا بيد "؛ فمنع النساء في الجنسين من المكيل؛ والموزون ؛ وأباح التفاضل؛ فحديث أسامة بن زيد محمول على هذا؛ ومن الربا المراد بالآية شراء ما يباع بأقل من ثمنه؛ قبل نقد الثمن ؛ والدليل على أن ذلك ربا حديث يونس بن إسحاق؛ عن أبيه؛ عن أبي العالية قال: كنت عند عائشة ؛ فقالت لها امرأة: إني بعت زيد بن أرقم جارية لي إلى عطائه بثمانمائة درهم؛ وإنه أراد أن يبيعها فاشتريتها منه بستمائة؛ فقالت: "بئسما شريت؛ وبئسما اشتريت؛ أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب"؛ فقالت: يا أم المؤمنين; أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فقالت: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ؛ فدلت تلاوتها لآية الربا عند قولها: أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ أن ذلك كان عندها من الربا؛ وهذه التسمية طريقها التوقيف؛ وقد روى ابن المبارك عن حكم بن زريق؛ عن سعيد بن المسيب قال: سألته عن رجل باع طعاما من رجل إلى أجل؛ فأراد الذي اشترى الطعام أن يبيعه بنقد من الذي باعه منه؛ فقال: هو ربا؛ ومعلوم أنه أراد شراءه بأقل من الثمن الأول؛ إذ لا خلاف على أن شراءه بمثله؛ أو أكثر منه؛ جائز؛ فسمى سعيد بن المسيب ذلك ربا؛ وقد روي النهي عن ذلك عن ابن عباس ؛ والقاسم بن محمد ؛ ومجاهد ؛ وإبراهيم؛ والشعبي ؛ وقال الحسن؛ وابن سيرين ؛ في آخرين: "إن باعه بنقد جاز أن يشتريه؛ فإن كان باعه بنسيئة لم [ ص: 186 ] يشتره بأقل منه إلا بعد أن يحل الأجل"؛ وروي عن ابن عمر أنه إذا باعه؛ ثم اشتراه بأقل من ثمنه جاز؛ ولم يذكر فيه قبض الثمن؛ وجائز أن يكون مراده إذا قبض الثمن؛ فدل قول عائشة وسعيد بن المسيب أن ذلك ربا؛ فعلمنا أنهما لم يسمياه ربا إلا توقيفا؛ إذ لا يعرف ذلك اسما له من طريق اللغة؛ فلا يسمى به إلا من طريق الشرع؛ وأسماء الشرع توقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ والله أعلم بالصواب.

التالي السابق


الخدمات العلمية