الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط ( 47 ) )

قال أبو جعفر : وهذا تقدم من الله جل ثناؤه إلى المؤمنين به وبرسوله ، أن لا يعملوا عملا إلا لله خاصة ، وطلب ما عنده ، لا رئاء الناس ، كما فعل القوم من المشركين في مسيرهم إلى بدر طلب رئاء الناس . وذلك أنهم أخبروا بفوت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقيل لهم : " انصرفوا فقد سلمت العير التي جئتم لنصرتها ! " ، فأبوا وقالوا : " نأتي بدرا فنشرب بها الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتتحدث بنا العرب فيها " ، فسقوا مكان الخمر كؤوس المنايا ، كما -

16171 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا أبان قال ، حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة قال : كانت قريش قبل أن يلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، قد جاءهم راكب من أبي سفيان والركب الذين معه : إنا قد أجزنا القوم ، وأن ارجعوا . فجاء الركب الذين بعثهم أبو سفيان الذين يأمرون قريشا بالرجعة بالجحفة ، فقالوا : " والله لا نرجع حتى ننزل بدرا ، فنقيم فيه ثلاث ليال ، ويرانا من غشينا من أهل الحجاز ، فإنه لن يرانا أحد من العرب وما جمعنا فيقاتلنا " . وهم الذين قال الله : " الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس " ، والتقوا هم والنبي صلى الله عليه وسلم ، ففتح الله على رسوله ، وأخزى أئمة الكفر ، [ ص: 579 ] وشفى صدور المؤمنين منهم .

16172 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني ابن إسحاق في حديث ذكره قال ، حدثني محمد بن مسلم ، وعاصم بن عمر ، وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا ، عن ابن عباس قال : لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره ، أرسل إلى قريش : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، فقد نجاها الله ، فارجعوا ! فقال أبو جهل بن هشام : والله لا نرجع حتى نرد بدرا - وكان " بدر " موسما من مواسم العرب ، يجتمع لهم بها سوق كل عام - فنقيم عليه ثلاثا ، وننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمور ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا أبدا ، فامضوا .

16173 - قال ابن حميد حدثنا سلمة قال ، قال ابن إسحاق : " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس " ، أي : لا تكونوا كأبي جهل وأصحابه الذين قالوا : " لا نرجع حتى نأتي بدرا ، وننحر الجزر ، ونسقي بها الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا " ، أي : لا يكونن أمركم رياء ولا سمعة ، ولا التماس ما عند الناس ، وأخلصوا لله النية والحسبة في نصر دينكم ، وموازرة نبيكم ، أي : لا تعملوا إلا لله ، ولا تطلبوا غيره .

16174 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال ، أخبرنا إسرائيل وحدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، [ ص: 580 ] حدثنا إسرائيل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس " ، قال : أصحاب بدر .

16175 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " بطرا ورئاء الناس " ، قال : أبو جهل وأصحابه يوم بدر .

16176 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله قال ابن جريج ، وقال عبد الله بن كثير : هم مشركو قريش ، وذلك خروجهم إلى بدر .

16177 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس " ، يعني : المشركين الذي قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر .

16178 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : " خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس " ، قال : هم قريش وأبو جهل وأصحابه ، الذين خرجوا يوم بدر .

16179 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط " ، قال : كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبي الله يوم بدر ، خرجوا ولهم بغي وفخر . وقد قيل لهم يومئذ : " ارجعوا ، فقد انطلقت عيركم ، وقد ظفرتم " . قالوا : " لا والله ، حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا ! " . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ : " اللهم إن قريشا أقبلت بفخرها وخيلائها لتحادك ورسولك " !

16180 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، [ ص: 581 ] حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ذكر المشركين وما يطعمون على المياه فقال : " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله " .

16181 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " الذين خرجوا من ديارهم بطرا " ، قال : هم المشركون ، خرجوا إلى بدر أشرا وبطرا .

16182 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي قال : لما خرجت قريش من مكة إلى بدر ، خرجوا بالقيان والدفوف ، فأنزل الله : " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط " . * * *

قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذا : ولا تكونوا ، أيها المؤمنون بالله ورسوله ، في العمل بالرياء والسمعة ، وترك إخلاص العمل لله ، واحتساب الأجر فيه ، كالجيش من أهل الكفر بالله ورسوله الذين خرجوا من منازلهم بطرا ومراءاة الناس بزيهم وأموالهم وكثرة عددهم وشدة بطانتهم " ويصدون عن سبيل الله " ، يقول : ويمنعون الناس من دين الله والدخول في الإسلام ، بقتالهم إياهم ، وتعذيبهم من قدروا عليه من أهل الإيمان بالله " والله بما يعملون " ، من الرياء والصد عن سبيل الله ، وغير ذلك من أفعالهم " محيط " ، يقول : عالم بجميع ذلك ، لا يخفى عليه منه شيء ، وذلك أن الأشياء كلها له متجلية ، لا يعزب عنه منها شيء ، فهو لهم بها معاقب ، وعليها معذب .

التالي السابق


الخدمات العلمية