الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما جاء في توبة القاتل والتشديد في القتل 3043 - ( عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء } رواه الجماعة إلا أبا داود ) .

                                                                                                                                            3044 - ( وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            3045 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه آيس من رحمة ربه } رواه أحمد وابن ماجه ) .

                                                                                                                                            3046 - ( وعن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا } رواه أحمد والنسائي . ولأبي داود من حديث أبي الدرداء كذلك ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث أبي هريرة أخرجه أيضا البيهقي ، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف . وقد روي عن الزهري مرسلا أخرجه البيهقي من طريق فرج بن فضالة عن الضحاك عن [ ص: 56 ] الزهري يرفعه ، وفرج ضعيف وقد قواه أحمد . وبالغ ابن الجوزي فذكر الحديث في الموضوعات وسبقه إلى ذلك أبو حاتم فإنه قال في العلل : إنه باطل موضوع .

                                                                                                                                            وقد رواه أبو نعيم في الحلية من طريق حكيم بن نافع عن خلف بن حوشب عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن المسيب سمعت عمر فذكره ، وقال : تفرد به حكيم عن خلف ، ورواه الطبراني من حديث ابن عباس نحوه . وأورده ابن الجوزي من طريق أخرى عن أبي سعيد الخدري بلفظ { يجيء القاتل يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله } وأعله بعطية ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة . قال الحافظ : ومحمد لا يستحق أن يحكم على أحاديثه بالوضع ، فأما عطية فضعيف ، لكن حديثه يحسنه الترمذي إذا توبع .

                                                                                                                                            وحديث معاوية جميع رجال إسناده ثقات ويشهد له ما في هذا الباب من الأحاديث القاضية بعدم المغفرة للقاتل . وحديث أبي الدرداء الذي أشار إليه المصنف لفظه : قال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { كل ذنب عسى الله أن يغفره لا من مات مشركا ، أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا } .

                                                                                                                                            وروى أبو داود أيضا عن عبادة بن الصامت أنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من قتل مؤمنا فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا } قال الخطابي : فاعتبط : أي فقتله بغير سبب ، وفسره يحيى بن يحيى الغساني بأنه الذي يقتل صاحبه في الفتنة فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله من ذلك . وهذان الحديثان سكت عنهماأبو داود والمنذري في مختصر السنن ، ورجال إسناد كل واحد منهما موثقون قوله : ( أول ما يقضى بين الناس . . . إلخ ) فيه دليل على عظم ذنب القتل ، لأن الابتداء إنما يكون بالأهم وعائد الموصول محذوف ، والتقدير أول ما يقضى فيه ، ويجوز أن تكون مصدرية ويكون تقديره : أول قضاء في الدماء . أو يكون المصدر بمعنى اسم المفعول : أي أول مقضي فيه الدماء . وقد استشكل الجمع بين هذا الحديث وبين الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن عن أبي هريرة بلفظ " أول ما يحاسب العبد عليه صلاته " . وأجيب بأن الأول يتعلق بمعاملات العباد والثاني بمعاملات الله .

                                                                                                                                            قال الحافظ : على أن النسائي أخرجهما في حديث واحد أورده من طريق أبي وائل عن ابن مسعود رفعه { أول ما يحاسب العبد به الصلاة ، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء } وقد استدل بحديث ابن مسعود الأول المذكور على أن القضاء يختص بالناس ولا يكون بين البهائم وهو غلط ، لأن مفاده حصر الأولية في القضاء بين الناس ، وليس فيه نفي القضاء بين البهائم مثلا بعد القضاء بين الناس .

                                                                                                                                            قوله : ( على ابن آدم الأول ) هو قابيل عند الأكثر ، وعكس القاضي جمال الدين واصل في تاريخه فقال : اسم المقتول قابيل اشتق من قبول قربانه . وقيل اسمه قابن بنون بدل اللام بغير ياء . وقيل قبن مثله بغير ألف . وعن الحسن : لم يكن ابن آدم المذكور وأخوه المقتول من صلب [ ص: 57 ] آدم وإنما كانا من بني إسرائيل ، أخرجه الطبري . وعن مجاهد أنهما كانا ولدي آدم لصلبه وهذا هو المشهور وهو الظاهر من حديث الباب لقوله الأول : أي أول من ولد لآدم .

                                                                                                                                            ويقال : إنه لم يولد لآدم في الجنة غيره وغير توأمته ، ومن ثم فخر على أخيه هابيل فقال : نحن من أولاد الجنة وأنتم من أولاد الأرض ، ذكر ذلك ابن إسحاق في المبتدإ قوله : ( كفل من دمها ) بكسر الكاف وسكون الفاء وهو النصيب . وأكثر ما يطلق على الأجر كقوله تعالى : { كفلين من رحمته } ويطلق على الاسم كقوله تعالى : { ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها } قوله : ( لأنه أول من سن القتل ) فيه دليل على أن من سن شيئا كتب له أو عليه ، وهو أصل في أن المعونة على ما لا يحل حرام .

                                                                                                                                            وقد أخرج مسلم من حديث جرير { من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة } .

                                                                                                                                            وهو محمول على من لم يتب من ذلك الذنب قوله : ( بشطر كلمة ) قال الخطابي : قال ابن عيينة : مثل أن يقول اق من قوله اقتل ، وفي هذا من الوعيد الشديد ما لا يقدر قدره ، فإذا كان شطر الكلمة موجبا لكتب الإياس من الرحمة بين عيني قائلها ، فكيف بمن أراق دم المسلم ظلما وعدوانا بغير حجة نيرة ؟ . وقد استدل بهذا الحديث وبحديث معاوية وأبي الدرداء المذكورين بعده على أنها لا تقبل التوبة من قاتل العمد ، وسيأتي بيان ما هو الحق إن شاء الله تعالى




                                                                                                                                            الخدمات العلمية