الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب

                                                                                                                                                                                                "أخي" بدل من هذا، أو خبر لـ "أن"، والمراد أخوة الدين، أو أخوة الصداقة والألفة، أو أخوة الشركة والخلطة; لقوله تعالى: وإن كثيرا من الخلطاء [ص: 24] كل واحدة من هذه الأخوات تدلي بحق مانع من الاعتداء والظلم. وقرئ: (تسع وتسعون)، بفتح التاء. و (نعجة) بكسر النون، وهذا من اختلاف اللغات، نحو نطع ونطع، ولقوة ولقوة. [ ص: 255 ] "أكفلنيها" ملكنيها. وحقيقته: اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي. "وعزني" وغلبني، يقال: عزه يعزه. قال [من الوافر]:


                                                                                                                                                                                                قطاة عزها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح



                                                                                                                                                                                                يريد: جاءني بحجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أرده به. وأراد بالخطاب: مخاطبة المحاج المجادل، أو أراد: خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطابا، أي: غالبني في الخطبة فغلبني، حيث زوجها دوني، وقرئ: (وعازني) من المعازة وهي المغالبة. وقرأ أبو حيوة: (وعزني) بتخفيف الزاي طلبا للخفة، وهو تخفيف غريب، وكأنه قاسه على نحو: ظلت، ومست. فإن قلت: ما معنى ذكر النعاج؟ قلت: كأن تحاكمهم في نفسه تمثيلا وكلامهم تمثيلا; لأن التمثيل أبلغ في التوبيخ; لما ذكرنا، وللتنبيه على أمر يستحيا من كشفه، فيكنى عنه كما يكنى عما يستحيا الإفصاح به، وللستر على داود عليه السلام والاحتفاظ بحرمته، ووجه التمثيل فيه أن مثلت قصة أوريا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون، فأراد صاحبه تتمة المائة فطمع في نعجة خليطه وأراده على الخروج من ملكها إليه، وحاجه في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده، والدليل عليه قوله: وإن كثيرا من الخلطاء [ص: 24] وإنما خص هذه القصة لما فيها من الرمز إلى الغرض بذكر النعجة. فإن قلت: إنما يستقيم طريقة التمثيل إذا فسرت الخطاب بالجدال، فإن فسرته بالمفاعلة من الخطبة لم يستقم. قلت: الوجه مع هذا التفسير أن أجعل النعجة استعارة عن المرأة، كما استعاروا لها الشاة في نحو قوله [من الكامل]:


                                                                                                                                                                                                يا شاة ما قنص لمن حلت له



                                                                                                                                                                                                [ ص: 256 ] [من الكامل]:


                                                                                                                                                                                                فرميت غفلة عينه عن شاته



                                                                                                                                                                                                وشبهها بالنعجة من قال [من الخفيف]:


                                                                                                                                                                                                كنعاج الفلا تعسفن رملا



                                                                                                                                                                                                [ ص: 257 ] لولا أن الخلطاء تأباه، إلا أن يضرب داود الخلطاء ابتداء مثلا لهم ولقصتهم. فإن قلت: الملائكة عليهم السلام كيف صح منهم أن يخبروا عن أنفسهم بما لم يلتبسوا منه بقليل ولا كثير ولا هو من شأنهم؟ قلت: هو تصوير للمسألة وفرض لها، فصوروها في أنفسهم وكانوا في صورة الأناسي، كما تقول في تصوير المسائل: زيد له أربعون شاة، وعمر له أربعون، وأنت تشير إليهما، فخلطاها وحال عليه الحول، كم يجب فيها؟ وما لزيد وعمرو سبد ولا لبد وتقول أيضا في تصويرها: لي أربعون شاة وأربعون فخلطناها. وما لكما من الأربعين أربعة ولا ربعها. فإن قلت: ما وجه قراءة ابن مسعود : (ولي نعجة أنثى)؟ قلت: يقال لك: امرأة أنثى للحسناء الجميلة. والمعنى: وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها، وذلك أملح لها وأزيد في تكسرها وتثنيها. ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال، وقوله [من المتقارب]:

                                                                                                                                                                                                [ ص: 258 ]

                                                                                                                                                                                                فتور القيام قطوع الكلام



                                                                                                                                                                                                وقوله [من المنسرح]:


                                                                                                                                                                                                تمشي رويدا تكاد تنغرف



                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية