الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ( 59 ) )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق : " ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم " بكسر الألف من "إنهم" ، وبالتاء في "تحسبن" بمعنى : ولا تحسبن ، يا محمد ، الذين كفروا سبقونا ففاتونا بأنفسهم ، ثم ابتدئ الخبر عن قدرة الله عليهم فقيل : إن هؤلاء الكفرة لا يعجزون ربهم ، إذا طلبهم وأراد تعذيبهم وإهلاكهم ، بأنفسهم فيفوتوه بها .

وقرأ ذلك بعض قرأة المدينة والكوفة : ( ولا يحسبن الذين كفروا ) ، بالياء في "يحسبن" ، وكسر الألف من ( إنهم ) .

وهي قراءة غير حميدة ، لمعنيين ، أحدهما خروجها من قراءة القرأة وشذوذها عنها ، والآخر : بعدها من فصيح كلام العرب . وذلك أن "يحسب" يطلب في كلام العرب منصوبا وخبره ، كقوله : "عبد الله يحسب أخاك قائما" و"يقوم" و"قام" ، فقارئ هذه القراءة أصحب "يحسب" خبرا لغير مخبر عنه مذكور ، وإنما كان مراده ، ظني : ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزوننا فلم يفكر في صواب مخرج الكلام وسقمه ، واستعمل في قراءته ذلك كذلك ، ما ظهر له من مفهوم الكلام ، وأحسب أن الذي دعاه إلى ذلك ، الاعتبار بقراءة عبد الله . وذلك أنه فيما ذكر في مصحف عبد الله : " ولا يحسبن الذين كفروا [ ص: 29 ] أنهم سبقوا إنهم لا يعجزون " ، وهذا فصيح صحيح ، إذا أدخلت "أنهم" في الكلام ، لأن "يحسبن" عاملة في "أنهم" ، وإذا لم يكن في الكلام "أنهم" كانت خالية من اسم تعمل فيه .

وللذي قرأ من ذلك من القرأة وجهان في كلام العرب ، وإن كانا بعيدين من فصيح كلامهم :

أحدهما : أن يكون أريد به : ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا ، أو : أنهم سبقوا ثم حذف "أن" و"أنهم" ، كما قال جل ثناؤه : ( ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا ) ، [ الروم : 24 ] . بمعنى : أن يريكم ، وقد ينشد في نحو ذلك بيتا لذي الرمة :


أظن ابن طرثوث عتيبة ذاهبا بعاديتي تكذابه وجعائله

[ ص: 30 ]

بمعنى : أظن ابن طرثوث أن يذهب بعاديتي تكذابه وجعائله؟ وكذلك قراءة من قرأ ذلك بالياء ، يوجه "سبقوا" إلى "سابقين" على هذا المعنى .

والوجه الثاني : على أنه أراد إضمار منصوب ب"يحسب" ، كأنه قال : ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا ثم حذف "أنهم" وأضمر .

وقد وجه بعضهم معنى قوله : ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ) ، [ سورة آل عمران : 175 ] : إنما ذلكم الشيطان يخوف المؤمن من أوليائه ، وأن ذكر المؤمن مضمر في قوله : "يخوف" ، إذ كان الشيطان عنده لا يخوف أولياءه .

وقرأ ذلك بعض أهل الشأم : "ولا تحسبن الذين كفروا " بالتاء من "تحسبن" ( سبقوا أنهم لا يعجزون ) ، بفتح الألف من "أنهم" ، بمعنى : ولا تحسبن الذين كفروا أنهم لا يعجزون .

قال أبو جعفر : ولا وجه لهذه القراءة يعقل ، إلا أن يكون أراد القارئ ب"لا" التي في "يعجزون" "لا" التي تدخل في الكلام حشوا وصلة ، فيكون معنى الكلام حينئذ : ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا أنهم يعجزون ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله إلى التطويل ، بغير حجة يجب التسليم لها ، وله في الصحة مخرج .

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندي ، قراءة من قرأ : [ ص: 31 ] ( لا تحسبن ) ، بالتاء ( الذين كفروا سبقوا إنهم ) ، بكسر الألف من "إنهم" ، ( لا يعجزون ) ، بمعنى : ولا تحسبن أنت ، يا محمد ، الذين جحدوا حجج الله وكذبوا بها ، سبقونا بأنفسهم ففاتونا ، إنهم لا يعجزوننا أي : يفوتوننا بأنفسهم ، ولا يقدرون على الهرب منا ، كما : -

16223 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ) ، يقول : لا يفوتون .

التالي السابق


الخدمات العلمية