الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          فصل

                                                                                                                          في تعليقه بالكلام

                                                                                                                          إذا قال : إن كلمتك فأنت طالق ، فتحققي ذلك أو زجرها ، فقال : تنحي أو اسكتي ، أو قال : إن قمت فأنت طالق - طلقت ، ويحتمل ألا يحنث بالكلام المتصل بيمينه ؛ لأن إتيانه به يدل على إرادته الكلام المنفصل عنها وإن قال : إن بدأتك بالكلام فأنت طالق ، فقالت : إن بدأتك به فعبدي حر - انحلت يمينه ، إلا أن ينوي ، ويحتمل أن يحنث ببداءته إياها بالكلام في وقت آخر ؛ لأن الظاهر أنه أراد ذلك بيمينه ، وإن قال : إن كلمت فلانا ، فأنت طالق ، فكلمته ، فلم يسمع لتشاغله أو غفلته ، أو كاتبته ، أو راسلته - حنث ، وإن أشارت إليه ، احتمل وجهين ، وإن كلمته سكران أو أصم بحيث يعلم أنها تكلمه ، أو مجنونا يسمع كلامها - حنث ، وقيل : لا يحنث .

                                                                                                                          وإن كلمته ميتا ، أو غائبا ، أو مغمى عليه ، أو نائما ، لم يحنث ، وقال أبو بكر : يحنث ، وإن قال لامرأتيه : إن كلمتما هذين فأنتما طالقتان فكلمت كل واحدة واحدا منهما - طلقتا ، ويحتمل ألا يحنث حتى يكلما جميعا كل واحد منهما ، وإن قال : إن أمرتك فخالفتني فأنت طالق ، فنهاها ، فخالفته - لم يحنث ، إلا أن ينوي مطلق المخالفة ، ويحتمل أن تطلق ، وقال أبو الخطاب : إن لم يعرف حقيقة الأمر والنهي - حنث .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل

                                                                                                                          في تعليقه بالكلام

                                                                                                                          ( إذا قال : إن كلمتك فأنت طالق ، فتحققي ذلك ، أو زجرها ، فقال : تنحي أو اسكتي ، أو قال : إن قمت فأنت طالق - طلقت ) ؛ لأنه علق طلاقها على كلامها ، وقد وجد ؛ لأن قوله : تحققي ، وتنحي ، واسكتي ، وإن قمت فأنت طالق - كلام لها بعد عقد اليمين إلا أن ينوي كلاما ( ويحتمل ألا يحنث بالكلام المتصل بيمينه ) وعلله بقوله : ( لأن إتيانه به يدل على إرادته الكلام المنفصل عنها ) ؛ لأن القرينة تصرف عموم اللفظ إلى خصوصه ، إذ الحال تجعل المطلق كالمقيد بالمقال ، [ ص: 354 ] وإن سمعها تذكره ، فقال : الكاذب عليه لعنة الله - حنث ، نص عليه ؛ لأنه كلمها .

                                                                                                                          فرع : إذا قال : إن كلمتك فأنت طالق ، إن قمت فأنت طالق - طلقت في الحال طلقة ، وأخرى بالقيام إن كان دخل بها ، فلو قال : إن كلمتك فأنت طالق وأعاده ثانية - فواحدة ، وإن ثالثا ، فثانية ، وإن رابعا ، فثالثة ، وتبين غير المدخول بها بطلقة ، ولا ينعقد ما بعدها .

                                                                                                                          ذكر القاضي ، وجزم به في " المغني " ، وقدمه في " المحرر " ، ثم قال : وعندي تنعقد الثانية بحيث إذا تزوجها وكلمها ، طلقت ، إلا على قول التميمي : تحل الصفة مع البينونة ، فإنها قد انحلت بالثالثة ؛ لأنه قد كلمها ، ولا يجيء مثله في الحلف بالطلاق ؛ لأنه لا ينعقد لعدم إمكان إيقاعه ، قال في " الفروع " : ويتوجه أنه لا فرق بينها وبين مسألة الحلف السابقة .



                                                                                                                          ( وإن قال : إن بدأتك بالكلام فأنت طالق ، فقالت : إن بدأتك به فعبدي حر - انحلت يمينه ) في الأصح ؛ لأنها كلمته ، فلم يكن كلامه لها بعد ذلك ابتداء ( إلا أن ينوي ) أنه لا يبدؤها في مرة أخرى ، وبقيت يمينها معلقة ، فإن بدأها بكلام انحلت يمينها ، وإن بدأته هي عتق عبدها ، ذكره الأصحاب ( ويحتمل أن يحنث ببداءته إياها بالكلام في وقت آخر ) وعلله بقوله ( لأن الظاهر أنه أراد ذلك بيمينه ) ؛ لأن الحلف بمثل ذلك يفهم منه قصد هجران بداءته كلامها ، وذلك يقتضي تعميم البداءة في المجلس وغيره .

                                                                                                                          ( وإن قال : إن كلمت فلانا ، فأنت طالق ، فكلمته ، فلم يسمع لتشاغله وغفلته ) أو لفظه ، أو ذهوله حنث ، نص عليه ؛ لأنها كلمته ، وإنما لم يسمع لشغل قلبه وغفلته ( أو كاتبته أو راسلته ، حنث ) ؛ لأن [ ص: 355 ] الكلام يطلق ، ويراد به ذلك بدليل صحة استثنائه منه في قوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا [ الشورى 15 ] ؛ لأن القصد بيمينه هجرانه ، ولا يحصل ذلك مع مواصلته بالكتابة والرسول إلا أن يكون قصد أن تشافهه ، نص عليه ، ويحتمل ألا يحنث إلا أن ينوي ترك ذلك ؛ لأن هذا ليس بكلام حقيقة بدليل الحلف بالله .

                                                                                                                          فرع : إذا أرسلت إنسانا ليسأل أهل العلم عن حديث أو مسألة ، فجاء الرسول ، فسأل المحلوف عليه - لم يحنث ( وإن أشارت إليه ) برمز ( احتمل وجهين ) كذا في " الفروع " أولهما : لا تطلق ؛ لأنه لم يوجد الكلام ، والثاني : بلى ؛ لأنه يحصل به مقصود الكلام .

                                                                                                                          ( وإن كلمته سكران أو أصم بحيث يعلم أنها تكلمه ، أو مجنونا يسمع كلامها - حنث ) ؛ لأن الطلاق معلق على الكلام ، وقد وجد ، فإن كان السكران أو المجنون مصروعا - لم يحنث ، وكذا إذا كانا لا يعلم واحد منهما أنها تكلمه ، والمجنون إذا لم يسمع كلامها ، صرح به في " المغني " ( وقيل : لا يحنث ) اختاره القاضي وغيره ؛ لأن السكران والمجنون لا عقل لهما ، والأصم لا سمع له ، فلم يحنث بكلامها ، وقيل : لا السكران .

                                                                                                                          فرع : إذا جنت هي وكلمته ، لم يحنث ؛ لأن القلم رفع عنها ، وإن كلمته سكرانة ، فقال في " الشرح " : يحنث ؛ لأن حكمها حكم الصاحي ، وإن كلمت صبيا يسمع ويعلم أنها تتكلم - حنث ، وكذا إن سلمت عليه ؛ لأنه كلام ، فإن [ ص: 356 ] كان تسليم الصلاة ، فلا حنث ؛ لأنه للخروج منها إلا أن ينوي بتسليمه على المأمومين ، فيكون كما لو سلم عليهم في غير الصلاة ، ويحتمل لا حنث بحال ؛ لأن هذا يعد تكليما ، ولا يريده الحالف .

                                                                                                                          ( وإن كلمته ميتا ، أو غائبا ، أو مغمى عليه ، أو نائما ، لم يحنث ) في الأصح ؛ لأن التكلم فعل يتعدى المتكلم ، وقيل : هو مأخوذ من الكلم ، وهو الجرح ؛ لأنه يؤثر فيه كتأثير الجرح ، ولا يكون ذلك إلا باستماعه ( وقال أبو بكر ) وحكاه رواية ( يحنث ) ؛ لأن إشعاره بالكلام غير معتبر ؛ لقوله : كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ، وجوابه بأن تكليمه لهم كانت من معجزاته - عليه السلام - ، فإنه قال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولم يثبت هذا لغيره ، مع أن قول الصحابة له حجة لنا ، فإنهم قالوا ذلك استبعادا ، وسؤالا عما خفي عليهم سببه ، حتى كشف لهم حكمة ذلك بأمر مختص به ، فبقي الأمر فيمن سواه على النفي .

                                                                                                                          تتمة : إذا حلف لا يكلم إنسانا ، فكلم غيره وهو يسمع ، يقصد بذلك إسماعه كما يقال : إياك أعني واسمعي يا جارة - حنث ، نص عليه ، وعنه : لا ، كنية غيره ، والأول أصح ؛ لأنه أسمعه كلامه ، يريده به ، أشبه ما لو خاطبه به ؛ ولأن مقصود تكليمه قد حصل بإسماعه كلامه ، وإن حلف لا يكلم امرأته ، فجامعها ، لم يحنث إلا أن تكون نيته هجرانها .

                                                                                                                          فرع : إذا حلف لا يقرأ كتاب زيد ، فقرأه في نفسه ، ولم يحرك شفتيه به ، حنث ؛ لأن هذا قراءة الكتب في عرف الناس ، إلا أن ينوي حقيقة القراءة .



                                                                                                                          ( وإن قال لامرأتيه : إن كلمتما هذين فأنتما طالقتان ) وقلنا : لا يحنث ببعض [ ص: 357 ] المحلوف عليه ( فكلمت كل واحدة واحدا منهما - طلقتا ) ؛ لأن تكليمهما وجد منهما ، وكما لو قال : إن ركبتما هاتين الدابتين ، فأنتما طالقتان ، فركبت كل واحدة دابة ( ويحتمل ألا يحنث حتى يكلما جميعا كل واحد منهما ) ؛ لأنه علق طلاقهما بكلامه لهما ، فلا تطلق واحدة بكلام الأخرى وحدها ، كقوله : إن كلمتما زيدا ، وكلمتما عمرا ، وهذا أظهر الوجهين ، وهو أولى - إن شاء الله تعالى - إذا لم يكن له نية .

                                                                                                                          قال في " المغني " : هذا معنى الخلاف فيما لم تجر العادة بانفراد الواحدة به ، فأما ما جرى العرف فيه بانفراد الواحدة به ، كلبس ثوبيهما ، وتقليد سيفيهما ونحوه ؛ لأن اليمين تحمل على العرف ، فأما إن قال : إن أكلتما هذين الرغيفين ، فأكلت كل واحدة منهما رغيفا ، فإنه يحنث ؛ لأنه يستحيل أن تأكل واحدة منهما الرغيفين .

                                                                                                                          مسألة : إذا قال : لا أكلت هذا الخبز وهذا اللحم ، فكقوله : لا أكلتهما ، هل يحنث بأحدهما ؛ فيه وجهان ، وكذا لو قال : ولا هذا اللحم ، وقيل : يحنث كما لو قال : لا آكل شيئا منهما .



                                                                                                                          ( وإن قال : إن أمرتك فخالفتني فأنت طالق ، فنهاها ، فخالفته - لم يحنث ، إلا أن ينوي مطلق المخالفة ) وهو المذهب ؛ لأنها خالفت نهيه لا أمره ؛ ولأنه يحنث إذا نوى مطلق المخالفة بغير خلاف ؛ لأن مخالفة النهي مخالفة ( ويحتمل أن تطلق ) قدمه في " الرعاية " ؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، والنهي عنه أمر بضده ، فإذا تكون خالفت أمره ( وقال أبو الخطاب : إن لم يعرف حقيقة الأمر والنهي - حنث ) ؛ لأنه إذا كانت كذلك ، فإنما يريد نفي المخالفة ، فلو قال : إن [ ص: 358 ] نهيتني عن نفع أمي فأنت طالق ، فقالت له : لا تعطها شيئا من مالي - لم يحنث ؛ لأنه نفع محرم ، فلا يتناوله يمينه ، وقيل : يحنث ؛ لأن لفظه عام .

                                                                                                                          فرع : إذا قال : أنت طالق إن كلمت زيدا ومحمد مع خالد - لم تطلق حتى تكلم زيدا في حال كون محمد مع خالد ؛ لأنها حال من الجملة الأولى ، وقال القاضي : تطلق بكلام زيد ؛ لأن الجملة الثانية استئناف لا تعلق لها بالأولى ، والأول أصح كما لو تقدم الشرط ؛ ولأنه متى أمكن جعل الكلام متصلا كان أولى ، فلو قال : أنت طالق إن كلمت زيدا إلى أن يقدم فلان ، فكلمته قبل قدومه - طلقت ، وإلا فلا ؛ لأن الغاية رجعت إلى الكلام لا إلى الطلاق ، بخلاف ما لو قدم الشرط ، فإنها تطلق بكلامه قبل قدوم فلان أو بعده ؛ لأن الغاية عادت إلى الطلاق ، والطلاق لا يرتفع بعد وقوعه .




                                                                                                                          الخدمات العلمية