الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله - تعالى - : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان .

                                                                                                                                                                                                                                      بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي أنزل الكتاب في حال كونه متلبسا بالحق الذي هو ضد الباطل ، وقوله : الكتاب اسم جنس مراد به جميع الكتب السماوية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أوضحنا في سورة " الحج " أن المفرد الذي هو اسم الجنس يطلق مرادا به الجمع ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك مع الشواهد العربية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : والميزان يعني أن الله - جل وعلا - هو الذي أنزل الميزان ، والمراد به العدل والإنصاف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض أهل العلم : الميزان في الآية هو آلة الوزن المعروفة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يؤيد ذلك أن الميزان مفعال ، والمفعال قياسي في اسم الآلة .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى التفسير الأول - وهو أن الميزان العدل والإنصاف - فالميزان الذي هو آلة الوزن المعروفة داخل فيه ; لأن إقامة الوزن بالقسط من العدل والإنصاف .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 65 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله - تعالى - هو الذي أنزل الكتاب والميزان - أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في سورة " الحديد " : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [ 57 \ 25 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فصرح - تعالى - بأنه أنزل مع رسله الكتاب والميزان لأجل أن يقوم الناس بالقسط ، وهو العدل والإنصاف . وكقوله - تعالى - في سورة " الرحمن " : والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان [ 55 \ 7 - 9 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله - تعالى - أعلم : أن الميزان في سورة " الشورى " وسورة " الحديد " هو العدل والإنصاف ، كما قاله غير واحد من المفسرين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأن الميزان في سورة " الرحمن " هو الميزان المعروف ، أعني آلة الوزن التي يوزن بها بعض المبيعات .

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يدل على ذلك أنه في سورة " الشورى " وسورة " الحديد " عبر بإنزال الميزان لا بوضعه ، وقال في سورة " الشورى " : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان . وقال في " الحديد " : وأنزلنا معهم الكتاب والميزان [ 57 \ 25 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما في سورة " الرحمن " فقد عبر بالوضع لا الإنزال ، قال : والسماء رفعها ووضع الميزان [ 55 \ 7 ] . ثم أتبع ذلك بما يدل على أن المراد به آلة الوزن المعروفة ، وذلك في قوله : وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان [ 55 \ 9 ] لأن الميزان الذي نهوا عن إخساره هو أخو المكيال ، كما قال - تعالى - : أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم [ 26 \ 181 - 183 ] . وقال - تعالى - : ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون [ 83 \ 1 - 3 ] . وقال - تعالى - عن نبيه شعيب : ولا تنقصوا المكيال والميزان الآية [ 11 \ 84 ] . وقال - تعالى - عنه أيضا : قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان الآية [ 7 \ 85 ] . وقال - تعالى - في سورة " الأنعام " : وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها [ 6 \ 152 ] . وقال - تعالى - في سورة " بني [ ص: 66 ] إسرائيل " : وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل : قد اخترتم أن المراد بالميزان في سورة " الشورى " وسورة " الحديد " - هو العدل والإنصاف ، وأن المراد بالميزان في سورة " الرحمن " هو آلة الوزن المعروفة ، وذكرتم نظائر ذلك من الآيات القرآنية ، وعلى هذا الذي اخترتم يشكل الفرق بين الكتاب والميزان ; لأن الكتب السماوية كلها عدل وإنصاف .

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب من وجهين : الأول منهما : هو ما قدمنا مرارا من أن الشيء الواحد إذا عبر عنه بصفتين مختلفتين جاز عطفه على نفسه تنزيلا للتغاير بين الصفات منزلة التغاير في الذوات ، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله - تعالى - : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى [ 87 \ 1 - 4 ] . فالموصوف واحد والصفات مختلفة ، وقد ساغ العطف لتغاير الصفات . ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم



                                                                                                                                                                                                                                      وأما الوجه الثاني : فهو ما أشار إليه العلامة ابن القيم - رحمه الله - في أعلام الموقعين ، من المغايرة في الجملة بين الكتاب والميزان .

                                                                                                                                                                                                                                      وإيضاح ذلك : أن المراد بالكتاب هو العدل والإنصاف المصرح به في الكتب السماوية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الميزان : فيصدق بالعدل والإنصاف الذي لم يصرح به في الكتب السماوية ، ولكنه معلوم مما صرح به فيها .

                                                                                                                                                                                                                                      فالتأفيف في قوله - تعالى - : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] . من الكتاب ; لأنه مصرح به في الكتاب ، ومنع ضرب الوالدين مثلا المدلول عليه بالنهي على التأفيف من الميزان ، أي من العدل والإنصاف الذي أنزله الله مع رسله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقبول شهادة العدلين في الرجعة والطلاق المنصوص في قوله - تعالى - : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] من الكتاب الذي أنزله الله ; لأنه مصرح به فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 67 ] وقبول شهادة أربعة عدول في ذلك من الميزان الذي أنزله الله مع رسله .

                                                                                                                                                                                                                                      وتحريم أكل مال اليتيم المذكور في قوله : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا الآية [ 4 \ 10 ] - من الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                      وتحريم إغراق مال اليتيم وإحراقه المعروف من ذلك - من الميزان الذي أنزله الله مع رسله .

                                                                                                                                                                                                                                      وجلد القاذف الذكر للمحصنة الأنثى ثمانين جلدة ورد شهادته ، والحكم بفسقه المنصوص في قوله : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة إلى قوله إلا الذين تابوا الآية [ 24 \ 4 - 5 ] - من الكتاب الذي أنزله الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وعقوبة القاذف الذكر لذكر مثله ، والأنثى القاذفة للذكر أو لأنثى بمثل تلك العقوبة المنصوصة في القرآن - من الميزان المذكور .

                                                                                                                                                                                                                                      وحلية المرأة التي كانت مبتوتة ، بسبب نكاح زوج ثان وطلاقه لها بعد الدخول ، المنصوص في قوله - تعالى - : فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا [ 2 \ 230 ] أي فإن طلقها الزوج الثاني بعد الدخول وذوق العسيلة - فلا جناح عليهما ، أي لا جناح على المرأة التي كانت مبتوتة ، والزوج الذي كانت حراما عليه - أن يتراجعا بعد نكاح الثاني وطلاقه لها - من الكتاب الذي أنزل الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما إن مات الزوج الثاني بعد أن دخل بها وكان موته قبل أن يطلقها ، فحليتها للأول الذي كانت حراما عليه - من الميزان الذي أنزله الله مع رسله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أشرنا إلى كلام ابن القيم المذكور ، وأكثرنا من الأمثلة لذلك في سورة " الأنبياء " في كلامنا الطويل على قوله - تعالى - : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية [ 21 \ 78 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية