الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        فمكث غير بعيد [22]

                                                                                                                                                                                                                                        قراءة عاصم ، وتروى عن الأعمش ، وقراءة سائر القراء (فمكث) قال سيبويه : مكث يمكث مكوثا، كما قالوا: قعد يقعد قعودا. قال: ومكث مثل ظرف، وحجة من ضم عند سيبويه أنه غير متعد كظرف. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول: الدليل على أن مكث أفصح قولهم: ماكث ولا يقولون: مكث فهذا مخالف لظرف. قال أبو جعفر : وهذا احتجاج بين لأن فعل فهو فاعل لا يعرف في كلام العرب إلا في أشياء مختلف فيها، ومنها ما هو مردود. فأما اللواتي اختلف فيها فطلقت المرأة فهي طالق، وقد قيل: طلقت، وحمض الخل فهو حامض، وقد قيل: حمض. وزعم أبو حاتم : أن قولهم فره فهو فاره لا اختلاف فيه. كذا قال، وقد حكى غيره: فره يفره فهو فره وفاره مثل حذر، حكى هذا قطرب. (غير بعيد) قال أبو إسحاق : أي وقتا غير بعيد. فقال أحطت بما لم تحط به فكان في هذا رد على من قال: إن الأنبياء تعلم الغيب، وحكى الفراء (أحط) يدغم التاء في الطاء، وحكى أحت يقلب الطاء تاء ويدغم وجئتك من سبإ بنبإ يقين قراءة المدنيين والكوفيين. وقرأ المكيون والبصريون (من سبأ بنبأ يقين) بغير صرف وزعم الفراء أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء رحمه الله عن سبأ فقال: ما أدري ما هو. وتأول الفراء على أبي عمرو أنه [ ص: 204 ] منعه من الصرف لأنه مجهول وأنه إذا لم يعرف الشيء لم ينصرف واحتج بقوله.


                                                                                                                                                                                                                                        يكن ما أساء النار في رأس كبكبا



                                                                                                                                                                                                                                        وأبو عمرو أجل من أن يقول مثل هذا، وليس في حكاية الرؤاسي عنه دليل أنه إنما منعه من الصرف لأنه لم يعرفه وإنما قال: لا أعرفه، ولو سئل نحوي عن اسم فقال: لا أعرفه، لم يكن في هذا دليل على أنه يمنعه من الصرف بل الحق على غير هذا، والواجب إذا لم تعرفه أن تصرفه لأن أصل الأسماء الصرف، وإنما يمنع الشيء من الصرف لعلة داخلة عليه فالأصل ثابت فلا يزول بما لا يعرف.

                                                                                                                                                                                                                                        واحتجاجه بكبكب لا معنى له لأن كبكب جبل معروف، منع من الصرف لأنه بقعة، وإن كان الصرف فيه حسنا. والدليل على ما قلنا أن أبا عمرو إنما احتج بكلام العرب ولم يحتج بأنه لا يعرفه، وأنشد للنابغة الجعدي.


                                                                                                                                                                                                                                        من سبأ الحاضرين مأرب إذ     يبنون من دون سيله العرما



                                                                                                                                                                                                                                        وإن كان أبو عمرو قد عورض من هذا فروي "من سبأ الحاضرين .." حذف التنوين لالتقاء الساكنين. قال أبو جعفر : سمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: سمعت عمارة يقرأ: {ولا الليل سابق النهار}.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 205 ] بالنصب، حذف التنوين لالتقاء الساكنين. وقد تكلم أبو عبيد القاسم بن سلام في هذا بكلام كثير التخليط ونمليه على نص ما قال، إذ كان كتابه أصلا من الأصول ليوقف على نص ما قال، ويعلم موضع الغلط منه. قال أبو عبيد : وهي قراءتنا التي نختار، يعني "من سبأ بنبأ يقين"، قال أبو عبيد : لأن سبأ اسم مؤنث لامرأة أو قبيلة، وليس بخفيف فيجرى لخفته والذي يجريه يذهب به إلى أنه اسم رجل، ومن ذهب إلى هذا لزمه أن يجري ثمود في كل القرآن فإنه وإن كان اليوم اسم قبيلة فإنه في الأصل اسم رجل وكذلك سبأ فإن قيل: إن ثمود أكثر في العدد من سبأ بحرف، قيل: إن الحركة التي في الباء والهمزة قد زادتا في ثقله أكثر من ذلك الحرف أو مثله، إنما الزيادة في ثمود واو ساكنة. قال أبو جعفر : قوله: "لأن سبأ اسم مؤنث لامرأة أو قبيلة" يوجب أنه ترك صرفه لأحد هذين الأمرين، وأحدهما لا يشبه صاحبه، لأن اسم المرأة تأنيث حقيقي واسم القبيلة تأنيث غير حقيقي، والاختيار عند سيبويه في أسماء القبائل إذا كان لا يستعمل فيها "بنو" الصرف نحو ثمود وقوله: "ليس بخفيف فيجرى لخفته" ليس بحجة على من صرفه؛ لأنه لم يقل أحد علمناه: صرفته لأنه خفيف: وقوله والذي يجريه يذهب به إلى أنه اسم رجل" ليس هذا حجة من أجراه، إنما حجته أنه اسم للحي وإن كان أصله على الحقيقة أنه اسم لرجل. روى فروة بن مسيك وعبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو معروف في النسب "سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان" وإن كان أبو إسحاق قد زعم أنه من صرفه جعله اسما للبلد. وقوله: [ ص: 206 ] "فإن قيل: إن ثمود أكثر في العدد من سبأ قيل: إن الحركتين اللتين في الباء والهمزة قد زادتا في ثقله أكثر من ذلك الحرف أو مثله" فهذا موضع التخليط لأن الحركة التي في الباء والهمزة في ثمود وسبأ بالحركة لا معنى له لأنهما جميعا متحركان. قال أبو جعفر : والقول في سبأ ما جاء التوقيف فيه أنه اسم رجل في الأصل، فإن صرفته فلأنه قد صار اسما للحي، وإن لم تصرفه جعلته اسما للقبيلة مثل ثمود؛ إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف، وحجته في ذلك قاطعة لأن هذا الاسم لما كان يقع للتذكير والتأنيث كان التذكير أولى لأنه الأصل والأخف.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية