الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2175 - مسألة : الاستتابة في الحدود وترك سجنه ؟ حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج قال : حضرت عبد العزيز بن عبد الله جلد إنسانا الحد في فرية ، فلما فرغ من ذلك قال له أبو بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن ربيعة : إن من الأمر أن يستتاب عند ذلك ، فقال عبد العزيز للمجلود : تب ، فحسبته أنه قال : أتوب إلى الله .

                                                                                                                                                                                          قال ابن جريج : وأخبرني بعض علماء أهل المدينة أنهم لا يختلفون أنه يستتاب كل من عمل عمل قوم لوط ، أو زنى ، أو افترى ، أو شرب ، أو سرق ، أو حارب ، قال عبد الرزاق : وأخبرني أبو بكر عن غير واحد عن ابن المسيب أنه قال : سنة الحد أن يستتاب صاحبه إذا فرغ من جلده ، قال سعيد بن المسيب : إن قال : قد تبت - وهو غير رضي - لم تقبل شهادته .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : وبهذا نقول ، لأن التوبة فرض من الله تعالى على كل [ ص: 36 ] مذنب ، ولأن الدعاء إلى التوبة فرض على كل مسلم قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم } الآية .

                                                                                                                                                                                          وإذا كان هذا الإصرار على الذنب حراما بإجماع الأمة كلها المتيقن : فالتوبة والإقلاع فرض بإجماع الأمة كلها ، لا خلاف في ذلك ، قال الله تعالى { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } الآية .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : فلما كانت التوبة من سبيل الله تعالى المفترض سلوكها وكانت من الخير والمعروف : كان فرضا على كل مسلم أن يدعو إليها بالنصوص التي ذكرنا ، واستتابة المذنب قبل إقامة الحد عليه واجبة ، لقول الله تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } فالمسارعة إلى الفرض فرض ، فإن لم يستتبه الإمام ، أو من حضره إلا حتى أقيم عليه الحد ، فواجب أن يستتاب بعد الحد - على ما ذكرنا - فإن لم يتب فأقيم عليه استتيب ، فإن تاب أطلق ، ولا سبيل عليه بحبس أصلا ، لأنه قد أخذ حق الله تعالى منه الذي لا حق له قبله سواه ، فالزيادة على ذلك تعد لحدود الله تعالى ، وهذا حرام . 2176 - مسألة : قال أبو محمد رحمه الله : فإن قال : لا أتوب ، فقد أتى منكرا ، فواجب أن يعزر على ما نذكره في " كتاب التعزير " إن شاء الله تعالى ، لقول رسول الله [ ص: 37 ] صلى الله عليه وسلم { من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان } فيجب أن يضرب أبدا حتى يتوب ، هذا إن صرح بأن لا يتوب ، فإذا أدى ذلك إلى منيته ، فذلك عقيرة الله ، وقتيل الحق ، لا شيء على متولي ذلك ، لأنه أحسن فيما فعل به ، وقد قال الله تعالى { ما على المحسنين من سبيل } فإن سكت ولم يقل : أتوب ، ولا : لا أتوب ، فواجب حبسه وإعادة الاستتابة عليه أبدا حتى ينطق بالتوبة ، فيطلق . [ ص: 38 ]

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك : أنه قد صح منه الذنب ، ووجبت عليه التوبة ، ولا تعرف توبته إلا بنطقه بها ، فهو ما لم ينطق بها وبالإصرار : فممكن أن يتوب في نفسه ، وممكن أن لا يتوب ، فلما كان كلا الأمرين ممكنا لم يحل ضربه ، لأنه لم يأت بمنكر تيقن أنه أتى به ، ولم يجز تسريحه ، لأن فرضا عليه دعاؤه إلى التوبة حتى يتوب ، ولا سبيل إلى إمساكه - وبالله تعالى التوفيق وهكذا أبدا متى تاب ثم واقع الذنب أو غيره ، فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبران مرسلان في أنه استتاب السارق بعد قطع يده : كما حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج ، وسفيان الثوري ، ومعمر ، قال ابن جريج ، وسفيان ، كلاهما : عن أبي خصفة ، عن محمد بن عثمان بن ثوبان ، وقال معمر : عن أيوب السختياني ، قال أيوب ، وابن ثوبان : { أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل سرق شملة فقيل يا رسول الله هذا سرق ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما إخاله ، أسرقت ؟ قال : نعم ، قال : فاذهبوا فاقطعوا يده ، ثم احسموها ، ثم ائتوني به ، فأتوه به ، فقال : إني أتوب إلى الله ، فقال : اللهم تب عليه } .

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى عبد الرزاق عن معمر عن ابن المنكدر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم { قطع رجلا ثم أمر به فحسم قال له تب إلى الله تعالى ؟ فقال : أتوب إلى الله تعالى ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن السارق إذا قطعت يده وقعت في النار ، فإن عاد تبعها ، وإن تاب استشالها } .

                                                                                                                                                                                          قال عبد الرزاق يقول استشالها استرجعها .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : هذان مرسلان ولا حجة في مرسل ، وإنما الحجة فيما أوردنا من النصوص قبل ، وإنما أوردناهما لئلا يموه مموه بما فيهما من الاستتابة بعد القطع - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية