الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 2796 ) مسألة ; قال أبو القاسم ، رحمه الله : ( وكل ما كيل أو وزن من سائر الأشياء ، فلا يجوز التفاضل فيه إذا كان جنسا واحدا ) قوله : " من سائر الأشياء " . يعني من جميعها . وضع سائر موضع جميع تجوزا ، وموضوعها الأصلي لباقي الشيء ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الربا أحاديث كثيرة ، ومن أتمها ما روى عبادة بن الصامت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ ص: 26 ] { الذهب بالذهب مثلا بمثل ، والفضة بالفضة مثلا بمثل ، والتمر بالتمر مثلا بمثل ، والبر بالبر مثلا بمثل ، والملح بالملح مثلا بمثل ، والشعير بالشعير مثلا بمثل ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى ، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد ، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد ، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد } . رواه مسلم . فهذه الأعيان المنصوص عليها يثبت الربا فيها بالنص والإجماع .

                                                                                                                                            واختلف أهل العلم فيما سواها ، فحكي عن طاوس وقتادة أنهما قصرا الربا عليها ، وقالا : لا يجري في غيرها . وبه قال داود ونفاة القياس ، وقالوا : ما عداها على أصل الإباحة ; لقول الله تعالى { : وأحل الله البيع } . واتفق القائلون بالقياس على أن ثبوت الربا فيها بعلة ، وأنه يثبت في كل ما وجدت فيه علتها ; لأن القياس دليل شرعي ، فيجب استخراج علة هذا الحكم ، وإثباته في كل موضع وجدت علته فيه .

                                                                                                                                            وقول الله تعالى : { وحرم الربا } . يقتضي تحريم كل زيادة ، إذ الربا في اللغة الزيادة ، إلا ما أجمعنا على تخصيصه . وهذا يعارض ما ذكروه . ثم اتفق أهل العلم على أن ربا الفضل لا يجري إلا في الجنس الواحد ، إلا سعيد بن جبير ، فإنه قال : كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا ، كالحنطة بالشعير ، والتمر بالزبيب ، والذرة بالدخن ; لأنهما يتقارب نفعهما ، فجريا مجرى نوعي جنس واحد .

                                                                                                                                            وهذا يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم { : بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد ، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم } . فلا يعول عليه . ثم يبطل بالذهب بالفضة ، فإنه يجوز التفاضل فيهما مع تقاربهما . واتفق المعللون على أن علة الذهب والفضة واحدة ، وعلة الأعيان الأربعة واحدة ، ثم اختلفوا في علة كل واحد منهما ; فروي عن أحمد في ذلك ثلاث روايات ، أشهرهن أن علة الربا في الذهب والفضة كونه موزون جنس ، وعلة الأعيان الأربعة مكيل جنس . نقلها عن أحمد الجماعة ، وذكرها الخرقي ، وابن أبي موسى ، وأكثر الأصحاب . وهو قول النخعي ، والزهري ، والثوري ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي .

                                                                                                                                            فعلى هذه الرواية يجري الربا في كل مكيل ، أو موزون بجنسه ، مطعوما كان أو غير مطعوم ، كالحبوب ، والأشنان ، والنورة ، والقطن ، والصوف ، والكتان ، والورس ، والحناء ، والعصفر ، والحديد ، والنحاس ، ونحو ذلك . ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن ; لما روى ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : لا تبيعوا الدينار بالدينارين ، ولا الدرهم بالدرهمين ، ولا الصاع بالصاعين ، فإني أخاف عليكم الرماء . وهو الربا ، فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس ، والنجيبة بالإبل ؟ فقال : لا بأس إذا كان يدا بيد } . رواه الإمام أحمد في المسند ، عن ابن حبان ، عن أبيه ، عن ابن عمر . وعن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ما وزن مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا ، وما كيل مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا . } رواه الدارقطني ، ورواه عن ابن صاعد ، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أحمد بن محمد بن أيوب ، عن أبي بكر بن عياش ، عن الربيع بن صبيح ، عن الحسن ، عن عبادة ، وأنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال : لم يروه عن أبي بكر هكذا غير محمد بن أحمد بن أيوب ، وخالفه غيره فرواه بلفظ آخر . وعن عمار أنه قال { : العبد خير من العبدين ، والثوب خير من الثوبين . فما كان يدا بيد فلا بأس به ، إنما الربا في النساء ، إلا ما كيل أو [ ص: 27 ] وزن . } ولأن قضية البيع المساواة ، والمؤثر في تحقيقها الكيل ، والوزن ، والجنس ، فإن الوزن أو الكيل يسوي بينهما صورة ، والجنس يسوي بينهما معنى ، فكانا علة ، ووجدنا الزيادة في الكيل محرمة دون الزيادة في الطعم ; بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة ، فإنه جائز إذا تساويا في الكيل . والرواية الثانية ، أن العلة في الأثمان الثمنية ، وفيما عداها كونه مطعوم جنس ، فيختص بالمطعومات ، ويخرج منه ما عداها ، قال أبو بكر : روى ذلك عن أحمد جماعة ، ونحو هذا قال الشافعي ، فإنه قال : العلة الطعم ، والجنس شرط .

                                                                                                                                            والعلة في الذهب والفضة جوهرية الثمنية غالبا ، فيختص بالذهب والفضة ; لما روى معمر بن عبد الله ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل } . رواه مسلم . ولأن الطعم وصف شرف ، إذ به قوام الأبدان ، والثمنية وصف شرف ، إذ بها قوام الأموال ، فيقتضي التعليل بهما ، ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لم يجز إسلامهما في الموزونات ; لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النساء . والرواية الثالثة ; العلة فيما عدا الذهب والفضة كونه مطعوم جنس مكيلا أو موزونا ، فلا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن ، كالتفاح والرمان ، والخوخ ، والبطيخ ، والكمثرى ، والأترج ، والسفرجل ، والإجاص ، والخيار ، والجوز ، والبيض ، ولا فيما ليس بمطعوم ، كالزعفران ، والأشنان ، والحديد ، والرصاص ، ونحوه .

                                                                                                                                            ويروى ذلك عن سعيد بن المسيب ، وهو قديم قولي الشافعي ; لما روي عن سعيد بن المسيب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا ربا إلا فيما كيل أو وزن ، مما يؤكل أو يشرب } . أخرجه الدارقطني ، وقال : الصحيح أنه من قول سعيد ، ومن رفعه فقد وهم . ولأن لكل واحد من هذه الأوصاف أثرا ، والحكم مقرون بجميعها في المنصوص عليه ، فلا يجوز حذفه . ولأن الكيل والوزن والجنس لا يقتضي وجوب المماثلة ، وإنما أثره في تحقيقها في العلة ما يقتضي ثبوت الحكم لا ما تحقق شرطه ، والطعم بمجرده لا تتحقق المماثلة به ; لعدم المعيار الشرعي فيه .

                                                                                                                                            وإنما تجب المماثلة في المعيار الشرعي وهو الكيل ، والوزن ، ولهذا وجبت المساواة في المكيل كيلا ، وفي الموزون وزنا ، فوجب أن يكون الطعم معتبرا في المكيل والموزون ، دون غيرهما . والأحاديث الواردة في هذا الباب يجب الجمع بينها ، وتقييد كل واحد منها بالآخر ، فنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام إلا مثلا بمثل يتقيد بما فيه معيار شرعي ، وهو الكيل والوزن ، ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين يتقيد بالمطعوم المنهي عن التفاضل فيه .

                                                                                                                                            وقال مالك : العلة القوت ، أو : ما يصلح به القوت من جنس واحد من المدخرات . وقال ربيعة : يجري الربا فيما تجب فيه الزكاة دون غيره . وقال ابن سيرين : الجنس الواحد علة .

                                                                                                                                            وهذا القول لا يصح ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيع الفرس بالأفراس ، والنجيبة بالإبل { : لا بأس به إذا كان يدا بيد } . وروي { أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع عبدا بعبدين } . رواه أبو داود ، والترمذي ، وقال : هو حديث حسن صحيح .

                                                                                                                                            وقول مالك ينتقض بالحطب والإدام يستصلح به القوت ولا ربا فيه عنده ، وتعليل ربيعة ينعكس [ ص: 28 ] بالملح ، والعكس لازم عند اتحاد العلة . والحاصل أن ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم ، من جنس واحد ، ففيه الربا رواية واحدة ، كالأرز ، والدخن ، والذرة ، والقطنيات ، والدهن ، والخل ، واللبن ، واللحم ، ونحوه .

                                                                                                                                            وهذا قول أكثر أهل العلم . قال ابن المنذر : هذا قول علماء الأمصار في القديم والحديث ، سوى قتادة ، فإنه بلغني أنه شذ عن جماعة الناس ، فقصر تحريم التفاضل على الستة الأشياء .

                                                                                                                                            وما انعدم فيه الكيل ، والوزن ، والطعم ، واختلف جنسه ، فلا ربا فيه ، رواية واحدة . وهو قول أكثر أهل العلم ، كالتين ، والنوى ، والقت ، والماء ، والطين الأرمني ، فإنه يؤكل دواء ، فيكون موزونا مأكولا ، فهو إذا من القسم الأول ، وما عداه إنما يؤكل سفها ، فجرى مجرى الرمل والحصى .

                                                                                                                                            وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة : { لا تأكلي الطين ، فإنه يصفر اللون } . وما وجد فيه الطعم وحده ، أو الكيل أو الوزن ، من جنس واحد ، ففيه روايتان ، واختلف أهل العلم فيه ، والأولى إن شاء الله تعالى حله ; إذ ليس في تحريمه دليل موثوق به ، ولا معنى يقوي التمسك به ، وهي مع ضعفها يعارض بعضها بعضا ، فوجب اطراحها ، أو الجمع بينها ، والرجوع إلى أصل الحل الذي يقتضيه الكتاب ، والسنة ، والاعتبار .

                                                                                                                                            ولا فرق في المطعومات بين ما يؤكل قوتا ، كالأرز ، والذرة ، والدخن ، أو أدما كالقطنيات ، واللبن ، واللحم ، أو تفكها كالثمار ، أو تداويا كالإهليلج ، والسقمونيا ، فإن الكل في باب الربا واحد .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية