الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2180 - مسألة : اختلاف الشهود في الحدود ؟ قال أبو محمد : فلما اختلفوا في ذلك ، فنظرنا في ذلك ، فالذي نقول به : أن كل ما تمت به الشهادة ، ووجب القضاء بها ، فإن كل ما زاده الشهود على ذلك فلا حكم له ، ولا يضر الشهادة اختلافهم ، كما لا يضرها سكوتهم عنه - وأن كل ما لا تتم الشهادة إلا به - : فهذا هو الذي يفسدها اختلافهم ، فالشهادة إذا تمت من أربعة عدول بالزنى على إنسان بامرأة يعرفونها أجنبية ، لا يشكون في ذلك ، ثم اختلفوا في المكان ، أو في الزمان ، أو في المزني بها ، فقال بعضهم : أمس بامرأة سوداء ، وقال بعضهم : بامرأة بيضاء اليوم - : فالشهادة تامة ، والحد واجب ، لأن الزنى قد تم عليه ، ولا يحتاج في الشهادة إلى ذكر مكان ولا زمان ، ولا إلى ذكر التي زنى بها - فالسكوت عن ذكر ذلك وذكره سواء - وكذلك في السرقة ، ولو قال أحدهما : أمس ، وقال الآخر : عام أول ، أو قال أحدهما : بمكة ، وقال الآخر : ببغداد ، فالسرقة قد صحت ، وتمت الشهادة فيها - ولا معنى لذكر المكان ، ولا الزمان ، ولا الشيء المسروق منه - سواء اختلفا فيه ، أو اتفقا فيه ، أو سكتا عنه ، لأنه لغو ، وحديث زائد ، ليس من الشهادة في شيء . [ ص: 48 ]

                                                                                                                                                                                          وكذلك في شرب الخمر ، وفي القذف : فالحد قد وجب ، ولا معنى لذكر المكان ، والمقذوف في ذلك ، والمسكوت عنه وذكره ، والاتفاق عليه والاختلاف فيه سواء .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : ومن ادعى الخلاف في ذلك ؟ فيلزمه أن يراعي اختلاف الشهود في لباس الزاني ، والسارق ، والشارب ، والقاذف ، فإن قال أحدهما : كان في رأسه قلنسوة ، وقال الآخر : عمامة ، أو قال أحدهما : كان عليه ثوب أخضر ، وقال الآخر : بل أحمر ، وقال أحدهما : في غيم ، وقال الآخر : في صحو - فهذا كله لا معنى له .

                                                                                                                                                                                          فإن قال قائل : إن الغرض في مراعاة الاختلاف إنما هو أن تكون الشهادة على عمل واحد فقط ، وإذا اختلفوا في المكان ، أو الزمان ، أو المقذوف ، أو المزني بها ، أو المسروق منه ، أو الشيء المسروق : فلم يشهدوا على عمل واحد ؟ قلنا : من أين وقع لكم أن تكون الشهادة في كل ذلك على عمل واحد ، وأي قرآن ، أو سنة ، أو إجماع أوجب ذلك ؟ وأي نظر أوجبه ؟ وهذا ما لا سبيل إلى [ ص: 49 ] وجوده ، بل الغرض إثبات الزنى المحرم ، والقذف المحرم ، والسرقة المحرمة ، والشرب المحرم ، والكفر المحرم فقط ، ولا مزيد ، وبيان ذلك : قول الله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } الآية .

                                                                                                                                                                                          فصح بهذه الآية : أن الواجب إنما هو إثبات الزنى فقط ، وهو الذي رماها به ، ولا معنى لذكره التي رماها ولا سكوته عنه ، فليس عليه أن يأتي بأكثر من أربعة شهداء : على أن الذي رماها به من الزنى حق ، ولا نبالي عملا واحدا كان أو أربعة أعمال ، لأن كل ذلك زنا .

                                                                                                                                                                                          وكذلك إن شهد عليه بالقذف لمحصنة ، فقد ثبت عليه بالقرآن ثمانون جلدة ، ولم يحد الله تعالى أن يكون في الشهادة ذكر الزمان ، ولا ذكر المكان فالزيادة لهذا باطل بيقين ، لأن الله تعالى لم يأمر به ، ولا بمراعاته .

                                                                                                                                                                                          وكذلك قال الله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } فحسبنا ، وصحة الشهادة بأنها سارقة ، أو أنه سارق ، ولم نجد الله تعالى ذكر الزمان ، أو المكان ، أو المسروق منه ، أو الشيء المسروق ، فمراعاة ذلك باطل بيقين لا شك فيه .

                                                                                                                                                                                          وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا شرب الخمر فاجلدوه } فأوجب الجلد بشرب [ ص: 50 ] الخمر ، فإذا صحت الشهادة بشرب الخمر فقد وجب الحد ، بنص أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ولا معنى لمراعاة ذكر مكان ، أو زمان ، أو صفة الخمر ، أو صفة الإناء - إذ لم يأت نص بذلك عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم فمراعاة ذلك باطل بلا شك - والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وقد جاء نحو ذلك عن السلف : كما حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا ابن مفرج حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا ابن وضاح حدثنا سحنون حدثنا ابن وهب أنا السري بن يحيى قال : حدثنا الحسن البصري قال : شهد الجارود على قدامة بن مظعون أنه شرب الخمر - وكان عمر قد أمر قدامة على البحرين - فقال عمر للجارود : من يشهد معك ؟ قال : علقمة الخصي ؟ فدعا علقمة ، فقال له عمر : بم تشهد ؟ فقال علقمة : وهل تجوز شهادة الخصي ؟ قال عمر : وما يمنعه أن تجوز شهادته إذا كان مسلما ، قال علقمة : رأيته يقيء الخمر في طست ، قال عمر : فلا وربك ما قاءها حتى شربها : فأمر به فجلد الحد ، فهذا حكم عمر بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - لا يعرف له منهم مخالف في إقامة الحد بشهادتين مختلفتين إحداهما : أنه رآه يشرب الخمر ، والأخرى : أنه لم يره يشربها ، لكن رآه يتقيؤها - وعهدناهم يعظمون خلاف الصاحب إذا وافق تقليدهم ، وهم هاهنا قد خالفوا عمر بن الخطاب ، والجارود ، وجميع من بحضرتهما من الصحابة ، فلا مؤنة عليهم - وحسبنا الله ونعم الوكيل .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية