الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                      فصل الشرط الخامس لوجوب الحج والعمرة دون إجزائها ( الاستطاعة ) .

                                                                                                                      لقوله تعالى { : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ف ( من ) " بدل من الناس " فتقديره : ولله على المستطيع ولانتفاء تكليف ما لا يطاق شرعا وعقلا ( وهي ) أي : الاستطاعة ( أن [ ص: 387 ] يملك زادا وراحلة لذهابه وعوده أو ) يملك ( ما يقدر به على تحصيل ذلك ) أي : الزاد والراحلة : من نقد أو عرض لما روي عن ابن عمر قال { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما يوجب الحج ؟ قال : الزاد والراحلة } رواه الترمذي .

                                                                                                                      وقال : العمل عليه عند أهل العلم وعن أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن السبيل فقال : الزاد والراحلة } وكذا رواه جابر وابن عمر وعبد الله بن عمرو وعائشة رضي الله عنهم رواه الدارقطني ; ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فكان ذلك شرطا لها كالجهاد ( فيعتبر الزاد مع قرب المسافة وبعدها إن احتاج إليه ) ; لأنه لا بد منه فإن لم يحتج إليه لم يعتبر قال في الفنون : الحج بدني محض ولا يجوز أن يدعى أن المال شرط في وجوبه ; لأن الشرط لا يحصل المشروط دونه ، وهو المصحح للمشروط ، ومعلوم أن المكي يلزمه ولا مال له ( فإن وجده ) أي : الزاد ( في المنازل لم يلزمه حمله ) من بلده عملا بالعادة ( إن وجده ) أي : الزاد ( يباع بثمن مثله في الغلاء والرخص أو بزيادة يسيرة ) كما الوضوء ( وإلا ) بأن لم يجد بالمنازل أو وجده بزيادة كثيرة على ثمن مثله ( لزمه حمله ) معه من بلده ( والزاد : ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وكسوة ) .

                                                                                                                      وظاهر كلامه : لا يعتبر أن يكون صالحا لمثله قال في الإنصاف : وهو صحيح قال في الفروع : ويتوجه احتمال أنه كالراحلة ا هـ وجزم به في الوجيز فقال : ووجد زادا وراحلة صالحين لمثله قال في الفروع : والمراد بالزاد : أن لا يحصل معه ضرر لرداءته ( وينبغي أن يكثر من الزاد والنفقة عند إمكانه ليؤثر محتاجا ورفيقا وأن تطيب نفسه بما ينفقه ) ; لأنه أعظم في أجره قال تعالى { : وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه } ( ويستحب أن لا يشارك غيره في الزاد وأمثاله ) ; لأنه ربما أفضى إلى النزاع أو أكل أكثر من رفيقه ، وقد لا يرضى به ( واجتماع الرفاق كل يوم على طعام أحدهم على المناوبة أليق بالورع من المشاركة ) في الزاد ، ( ويشترط أيضا القدرة على وعاء الزاد ) ; لأنه لا بد منه ( وتعتبر الراحلة مع بعد المسافة فقط ولو قدر على المشي ) لعموم ما سبق .

                                                                                                                      ( وهو ) أي : بعد المسافة ( ما تقصر فيه الصلاة ) أي : مسيرة يومين معتدلين ، و ( لا ) تعتبر الراحلة ( فيما دونها ) أي : دون المسافة التي تقصر فيها الصلاة ( من مكي وغيره ) بينه وبين مكة دون المسافة ( ويلزمه المشي ) للقدرة على المشي فيها [ ص: 388 ] غالبا ; ولأن مشقتها يسيرة ولا يخشى فيها عطب على تقدير الانقطاع بها بخلاف البعيد ; ولهذا خص الله تعالى المكان البعيد بالذكر في قوله { : وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق } ، ( إلا مع عجز لكبر ونحوه ) كمرض فتعتبر الراحلة حتى فيما دون المسافة للحاجة إليها إذن ، ( ولا يلزمه الحبو ) أي السير إلى الحج حبوا ( وإن أمكنه ) لمزيد مشقة .

                                                                                                                      ( و ) يعتبر ( ما يحتاج إليه من آلتها ) أي : الراحلة حيث اعتبرت إذ لا بد للراحلة من آلة فتعتبر القدرة عليهما ( بكراء أو شراء ) حال كون ذلك ( صالحا لمثله عادة لاختلاف أحوال الناس ) في ذلك ، ( فإن كان ممن يكفيه الرحل والقتب ولا يخشى السقوط ) بركوبه كذلك ( اكتفى بذلك ) أي : بالرحل والقتب عن المحمل ، ( فإن كان ممن لم تجر عادته بذلك أو يخشى السقوط عنها ) أي : عن الراحلة إن اكتفى بالرحل والقتب ( اعتبر وجود محمل ) صالح له .

                                                                                                                      ( وما أشبهه مما لا يخشى سقوطه عنه ولا مشقة فيه ) عليه دفعا للحرج والمشقة لقوله تعالى { : وما جعل عليكم في الدين من حرج } حرج وينبغي أن يكون المركوب جيدا ( لئلا يتضرر به بعد ذلك ) ، وإن لم يقدر على خدمة نفسه والقيام بأمره اعتبر من يخدمه ( قاله الموفق ) ، قال في الفروع : وظاهره لو أمكنه لزمه عملا بظاهر النص وكلام غيره يقتضي أنه كالراحلة لعدم الفرق .

                                                                                                                      قال في الفروع : وكذا دابته إن كانت ملكه إذا لم يقدر على خدمتها والقيام بأمرها اعتبر من يخدمها ; ( لأنه من سبيله ) فاعتبرت قدرته عليه ، ( فإن تكلف الحج من لا يلزمه ) وحج أجزأه ; لأن خلقا من الصحابة حجوا ولا شيء لهم ولم يؤمر أحد منهم بالإعادة ولأن الاستطاعة إنما شرعت للوصول فإذا وصل وفعل أجزأه كالمريض .

                                                                                                                      ( و ) من لم يستطع و ( أمكنه ذلك من غير ضرر يلحق بغيره مثل من يكتسب بصناعة ) في سفره ( كالخراز أو مقارنة من ينفق عليه أو يكتري لزاده ) وله قوة على المشي .

                                                                                                                      ( ولا يسأل الناس استحب له الحج ) خروجا من الخلاف ( ولم يجب عليه ) ; لأنه ليس بمستطيع لما تقدم من أن الاستطاعة : ملك الزاد والراحلة ، ويكره الحج ( لمن حرفته المسألة قال ) الإمام ( أحمد فيمن يدخل البادية بلا زاد ولا راحلة لا أحب له ذلك يتوكل على أزواد الناس ) .

                                                                                                                      قلت فإن توكل على الله وحسن [ ص: 389 ] ذلك منه ولم يسأل الناس فلا كراهة ، ( ويعتبر كونه ) أي : ما تقدم من الزاد والراحلة وآلتهما أو ما يقدر به على تحصيل ذلك ( فاضلا عما يحتاج إليه من كتب ) ; لأنها في معنى المسكن ونحوه .

                                                                                                                      ( ومسكن للسكنى ) ; لأنه من حاجته الأصلية ; لأن المفلس يقدم به على غرمائه فههنا أولى ( أو ) مسكن ( يحتاج إلى أجرته لنفقته أو نفقة عياله ) لتأكد حقهم لقوله صلى الله عليه وسلم { كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول } رواه أبو داود ، أو أي ويعتبر أيضا أن يكون ذلك فاضلا عن ( بضاعة يختل ربحها المحتاج إليه ) لو صرف فيه شيئا منها لما فيه من الضرر عليه عليه ( و ) يعتبر أيضا : أن يكون فاضلا عن خادم ; لأنه من الحوائج الأصلية بدليل أن المفلس يقدم به على غرمائه .

                                                                                                                      ( و ) يعتبر أيضا : أن يكون فاضلا ( عن قضاء دينه حالا كان ) الدين ( أو مؤجلا لله أو لآدمي ) ; لأن ذمته مشغولة به وهو محتاج إلى براءتها .

                                                                                                                      ( و ) يعتبر أيضا : أن يكون فاضلا عما ( لا بد له ) منه كمؤنته ومؤنة عياله الذين تلزمه مؤنتهم ; لأن ذلك مقدم على الدين فلأن يقدم على الحج بطريق الأولى ، ( لكن إن فضل منه عن حاجته ) وأمكن بيعه وشراؤه ما يكفيه ( بأن كان المسكن واسعا أو الخادم نفيسا فوق ما يصلح له وأمكن بيعه وشراء قدر الكفاية منه ) ، ويفضل ما يحج به لزمه ( ذلك ) ، وكذا إن استغنى بإحدى نسختي كتاب باع الأخرى ( ويقدم النكاح مع عدم الوسع ) للنكاح والحج ( من خاف العنت نصا ) وقوله ( ومن احتاج إليه ) أي : ويقدم النكاح مع عدم الوسع من احتاج إليه لم أره لغيره ، بل قال في المستوعب : وإن كان لا يخاف العنت فلا اعتبار بهذه الحاجة قولا واحدا ا هـ .

                                                                                                                      لأنه لا تعارض بين واجب ومسنون ( ويعتبر ) في الاستطاعة ( أن يكون له إذا رجع ) من حجه ( وما يقوم بكفايته وكفاية عياله على الدوام ) لتضرره بذلك كالمفلس ( ولم يعتبر ما بعد رجوعه عليها ) يعني ولم يعتبر على رواية ما يكفيه بعد رجوعه فيعتبر إذن أن يكون له ما يقوم بكفايته وكفاية عياله إلى أن يعود جزم به في الكافي والروضة وقدمه في الرعاية قال في المبدع : فيتوجه أن المفلس ومثله أولى ( من أجور عقار أو ربح بضاعة أو ) من ( صناعة ونحوها ) كثمار وعطاء من ديوان ، ( ولا يصير العاجز ) عن ذلك ( مستطيعا ببذل غيره له مالا أو مركوبا ولو ) كان الباذل ولدا أو والدا لما فيه من المنة كبذل الرقبة في الكفارة .

                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                      الخدمات العلمية