الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  4853 ( باب قول الله تعالى : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة وكثرة المهر وأدنى ما يجوز من الصداق ، وقوله تعالى : وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا وقوله جل ذكره : أو تفرضوا لهن وقال سهل قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ولو خاتما من حديد " )

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  أي هذا باب في بيان ما يدل عليه قول الله : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوا النساء مهورهن ، وكأن البخاري أشار بهذا وبما ذكر بعده أن المهر لا يقدر أقله ، وسيجيء الكلام فيه مفصلا ، والصدقات جمع صدقة بفتح الصاد وضم الدال وهو مهر المرأة وقرئ : صدقاتهن ، بفتح الصاد وسكون الدال ، وصدقاتهن بضم الصاد وسكون الدال ، وصدقاتهن بضم الصاد وضم الدال ، قوله : نحلة منصوب على المصدر ; لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء والتقدير أنحلوهن مهورهن نحلة ، ويجوز أن يكون منصوبا على الحال من المخاطبين ، أي آتوهن مهورهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء ، ويجوز أن يكون حالا من الصدقات ويكون معنى نحلة ملة ، يقال نحلة الإسلام خير النحل ويكون التقدير : وآتو النساء صدقاتهن منحولة معطاة ، ويجوز أن يكون منصوبا على التعليل أي آتوهن صدقاتهن للنحلة والديانة ، قوله : ( وكثرة المهر ) بالجر عطفا على قول الله تعالى ، أي في بيان كثرة المهر ، وأشار به إلى جواز كثرة المهر فلأجل ذلك ذكر قوله تعالى : وآتيتم إحداهن قنطارا [ ص: 137 ] والقنطار المال العظيم من قنطرت الشيء إذا رفعته ، ومنه القنطرة ، قاله الزمخشري ، واختلفوا فيه هل هو محدود أم لا ، فقال أبو عبيد : هو وزن لا يحد ، وقيل : هو محدود . ثم اختلفوا فيه فقيل : هو ألف ومائتا أوقية ، رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبه قال معاذ بن جبل وابن عمر ، وقيل : اثنا عشر ألف أوقية ، رواه أبو هريرة ، وقيل : ألف ومائتا دينار ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقيل : سبعون ألف دينار ، وروي عن ابن عمر ومجاهد ، وقيل : ثلاثون ألف درهم أو مائة رطل من الذهب ، وقيل : سبعة آلاف دينار ، وقيل : ثمانية آلاف دينار ، وقيل : ألف مثقال ذهب أو فضة ، وقيل : ملء مسك ثور ذهبا ، وكل ذلك تحكم إلا ما روي عن خبر ، وعن ابن عباس في هذه الآية : وإن كرهت امرأتك وأردت أن تطلقها وتتزوج غيرها فلا تأخذ منها شيئا من مهرها ولو كان قنطارا من الذهب .

                                                                                                                                                                                  قوله : أو تفرضوا لهن وزاد أبو ذر فريضة ، قوله: وقال سهل بن سعد في حديث الواهبة نفسها : ولو خاتما من حديد ، وقد مضى حديث سهل مرارا عديدة ، وذكر هنا طرفا منه وأشار به البخاري أيضا إلى أن المهر لا يقدر بشيء .

                                                                                                                                                                                  وقد اختلف العلماء في أكثر الصداق وأقله ، فزعم المهلب أنه لا حد لأكثره لقوله تعالى : وآتيتم إحداهن قنطارا وذكر عبد الرزاق عن قيس بن الربيع عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : لا تغالوا في صدقات النساء ، فقالت امرأة : ليس ذلك لك يا عمر ، إن الله عز وجل قال : وآتيتم إحداهن قنطارا فقال : إن امرأة خاصمت عمر فخصمته . وذكر أبو الفرج الأموي وغيره أن عمر أصدق أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أربعين ألفا ، وأن الحسن بن علي تزوج امرأة فأرسل إليها مائة جارية ومائة ألف درهم ، وتزوج مصعب بن الزبير عائشة بنت طلحة فأرسل إليها ألف ألف درهم ، فقيل في ذلك :


                                                                                                                                                                                  بضع الفتاة بألف ألف كامل وتبيت سادات الجيوش جياعا

                                                                                                                                                                                  وأصدق النجاشي أم حبيبة رضي الله تعالى عنها عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكره أبو داود أربعة آلاف درهم ، وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الحربي : وقيل : أصدقها أربعمائة دينار ، وقيل : مائتي دينار ، وفي مسلم قالت عائشة : كان صداق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثنتي عشرة أوقية ونشا فذلك خمسمائة درهم . وقال الحربي : أصدق صلى الله عليه وسلم سودة بيتا ورثه ، وعائشة على متاع بيت قيمته خمسون درهما ، رواه عطية عن أبي سعيد . وأصدق زينب بنت خزيمة ثنتي عشرة أوقية ونشا ، وأم سلمة على متاع قيمته عشرة دراهم ، وقيل : كان جرتين ورحى ووسادة حشوها ليف ، وعند أبي الشيخ : على جرار خضر ورحى يد ، وعند الترمذي : على أربعمائة درهم ، وفي مسلم لما قال للأنصاري وقد تزوج : بكم تزوجتها؟ قال : على أربع أواق ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أربع أواق كأنكم تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل " وعند ابن حبان عن أبي هريرة : كان صداقنا إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أواق ، زاد أبو الشيخ في كتاب النكاح : فطبق يده وذاك أربعمائة درهم .

                                                                                                                                                                                  وعن عدي بن حاتم : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صداق بناته أربعمائة درهم ، وبسند لا بأس به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ربيعة بن كعب الأسلمي امرأة من الأنصار على وزن نواة من ذهب . وروي عن أنس : قيمة النواة خمسة دراهم . وفي رواية : ثلاثة دراهم وثلث درهم ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل . وعن بعض المالكية : النواة ربع دينار ، وقال أبو عبيدة : لم يكن هناك ذهب إنما هي خمسة دراهم تسمى نواة كما تسمى الأربعون أوقية ، وبسند جيد عند أبي الشيخ عن جابر : إنا كنا لننكح المرأة على الحفنة أو الحفنتين من الدقيق ، ولما ذكره المرزباني استغربه .

                                                                                                                                                                                  وعند البيهقي قال صلى الله عليه وسلم : " لو أن رجلا تزوج امرأة على ملء كفه من طعام لكان ذلك صداقا " ، وفي لفظ : قال صلى الله عليه وسلم : " من أعطى في صداق امرأة ملء الحفنة سويقا أو تمرا فقد استحل " ، قال البيهقي : رواه ابن جريج فقال فيه : كنا نستمتع بالقبضة ، وابن جريج أحفظ ، وفي كتاب أبي داود عن يزيد عن موسى عن مسلم بن رومان عن أبي الزبير عن جابر يرفعه : " من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل " ، وقال ابن القطان : وموسى لا يعرف ، وقال أبو محمد : لا يعول عليه .

                                                                                                                                                                                  وروى الترمذي من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرضيت من نفسك ومالك بنعلين ؟ قالت : نعم ، فأجازه " وروى البيهقي في المعرفة والدارقطني في سننه والطبراني في معجمه عن محمد بن عبد الرحمن السلماني عن أبيه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 138 ] قال : " أدوا العلائق ، قالوا : يا رسول الله ما العلائق ؟ قال : ما تراضى عليه الأهلون ولو قضيبا من أراك " ، قلت : هو معلول بمحمد بن عبد الرحمن السلماني ، قال ابن القطان : قال البخاري : منكر الحديث . وقال ابن القاسم : لو تزوجها بدرهمين ثم طلقها قبل الدخول لم يرجع إلا بدرهم . وعن الثوري : إذا تراضوا على درهم في المهر فهو جائز ، وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عكرمة عن ابن عباس قال : النكاح جائز على جوزة إذا هي رضيت . وذهب ابن حزم إلى جوازه بكل ما له نصف قل أو كثر ، ولو أنه حبة بر أو حبة شعيرة وشبههما ، وسئل ربيعة عما يجوز من النكاح فقال درهم ، قيل : فأقل ، قال : ونصف ، قيل : فأقل ، قال : حبة حنطة أو قبضة حنطة ، وقال الشافعي : سألت الدراوردي هل قال أحد بالمدينة لا يكون صداق أقل من ربع دينار ؟ فقال : لا والله ما علمت أحدا قاله قبل مالك . قال الدراوردي : أخذه عن أبي حنيفة يعني في اعتبار ما يقطع به اليد . قال الشافعي : روى بعض أصحاب أبي حنيفة في ذلك عن علي فلا يثبت مثله لو لم يخالفه غيره أنه لا يكون مهرا أقل من عشرة دراهم . قلت : قال أصحابنا : أقل المهر عشرة دراهم سواء كانت مضروبة أو غيرها حتى يجوز وزن عشرة تبرا وإن كانت قيمته أقل بخلاف السرقة لما روى الدارقطني من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تنكحوا النساء إلا للأكفاء ، ولا يزوجهن إلا الأولياء ، ولا مهر دون عشرة دراهم " .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : فيه مبشر بن عبيد متروك الحديث أحاديثه لا يتابع عليها ، قاله الدارقطني ، وقال البيهقي في المعرفة عن أحمد بن حنبل أنه قال : أحاديث بشر بن عبيد موضوعة كذب . قلت : رواه البيهقي من طرق ، والضعيف إذا روي من طريق يصير حسنا فيحتج به ، ذكره النووي في شرح المهذب ، وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال : أقل ما يستحل به المرأة عشرة دراهم ، ذكره البيهقي وأبو عمر بن عبد البر .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية