الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في الصداق والحباء

                                                                                                          حدثني يحيى عن مالك عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك فقامت قياما طويلا فقام رجل فقال يا رسول الله زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل عندك من شيء تصدقها إياه فقال ما عندي إلا إزاري هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك فالتمس شيئا فقال ما أجد شيئا قال التمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل معك من القرآن شيء فقال نعم معي سورة كذا وسورة كذا لسور سماها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكحتكها بما معك من القرآن

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          3 - باب ما جاء في الصداق والحباء

                                                                                                          بفتح الصاد في لغة الأكثر ، والثانية : كسرها ويجمع على صدق بضمتين ، والثالثة : لغة الحجاز صدقة بفتح الصاد وضم الدال وتجمع على صدقات على لفظها ، وفي التنزيل : وآتوا النساء صدقاتهن [ سورة النساء : الآية 4 ] والرابعة : لغة تميم صدقة والجمع صدقات مثل غرفة وغرفات في وجوهها .

                                                                                                          والخامسة : صدقة وجمعها صدق مثل قرية وقرى ، وأصدقها بالألف أعطاها صداقها ، والحباء بالكسر والمد الإعطاء بلا عوض .

                                                                                                          1118 1096 - ( مالك عن أبي حازم ) بالمهملة والزاي ، سلمة ( بن دينار ) المدني العابد الثقة ( عن سهل بن سعد ) بن مالك الأنصاري الخزرجي ( الساعدي ) الصحابي ابن الصحابي ، مات وقد جاوز المائة ، سنة ثمان وثمانين ، وقيل بعدها ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة ) قال الحافظ : لم أقف على اسمها ، وقول ابن القطاع في الأحكام : إنها خولة بنت حكيم أو أم شريك أو ميمونة - نقله من اسم الواهبة في قوله تعالى : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي [ سورة الأحزاب : الآية 50 ] وقال في المقدمة : ولا يثبت شيء من ذلك ( فقالت : يا رسول الله إني قد [ ص: 194 ] وهبت نفسي لك ) بلام التمليك استعملت هنا في تمليك المنافع ، أي وهبت أمر نفسي لك أو نحو ذلك ، وإلا فالحقيقة غير مرادة لأن رقبة الحر لا تملك فكأنها قالت : أتزوجك بلا صداق ، وزاد في رواية للشيخين : فنظر إليها - صلى الله عليه وسلم - فصعد النظر فيها وصوبه ثم طأطأ رأسه ( فقامت طويلا ) نعت للمصدر أي قياما ، سمي مصدرا لأنه اسم الفعل أو عدده أو ما يقوم مقامه ، وهذا قام فسمي باسم ما وقع موقعه ، زاد في رواية للشيخين " فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست " ( فقام رجل ) لم يعرف الحافظ اسمه ( فقال : يا رسول الله زوجنيها ) لم يقل هبها لي لأن ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى : خالصة لك من دون المؤمنين [ سورة الأحزاب : الآية 50 ] فلا بد لهم من صداق ، قال تعالى : وآتوا النساء صدقاتهن قال أبو عبيد : أي عن طيب نفس بالفريضة التي فرضها الله ، وقال تعالى : والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن [ سورة المائدة : الآية 5 ] وقال في الإماء فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن [ سورة المائدة : الآية 5 ] يعني مهورهن ، وإن اقتضى القياس أن كل ما يجوز البدل به والعوض يجوز هبته ، لكنالله حرم بضع النساء إلا بالمهر وأن الموهوبة لا تحل لغيره - صلى الله عليه وسلم - قاله أبو عمر وغيره .

                                                                                                          ( إن لم تكن ) بفوقية ( لك بها حاجة ) بزواجها وفيه حسن أدبه ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل عندك من شيء ) بزيادة من في المبتدأ ، والخبر متعلق الظرف ، وجملة ( تصدقها إياه ) في موضع رفع صفة لـ " شيء " ، ويجوز جزمه على جواب الاستفهام وتصدق يتعدى لمفعولين ، ثانيهما " إياه " ، وهو العائد من الصفة على الموصوف .

                                                                                                          ( فقال : ما عندي إلا إزاري هذا ) زاد في رواية لهما : فلها نصفه قال وما له رداء ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك ) جواب الشرط ولا نافية والاسم مبني مع لا ، ولك يتعلق بالخبر أي ولا إزار كائن لك فتنكشف عورتك ، وفيه أن إصداق الشيء يخرجه عن ملكه ، فمن أصدق جاريته حرمت عليه ، وأن شرط المبيع القدرة على تسليمه شرعا ، سواء امتنع حسا كالطير في الهواء أو شرعا فقط كالمرهون ، ومثل هذا الذي لو زال إزاره انكشف وفيه نظر الكبير في مصالح القوم وهدايتهم لما فيه من الرفق بهم ، وفي رواية لهما : ما تصنع - أي : المرأة - بإزارك ، إن لبسته لم يكن عليها منه شيء ، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء اذهب إلى أهلك ( فالتمس شيئا ) فذهب ثم رجع ( فقال : ما أجد شيئا ، قال : التمس ) اطلب ( ولو خاتما [ ص: 195 ] من حديد ) قال عياض : هو على المبالغة لا التحديد لأن الرجل نفى قبل ذلك وجود شيء ولو أقل من خاتم حديد ، وقيل : لعله إنما طلب منه ما يقدمه لا أن جميع المهر خاتم حديد ، وهذا يضعفه استحباب مالك تقديم ربع دينار لا أقل ، وفيه جواز التختم بالحديد واختلف فيه السلف فأجازه قوم إذ لم يثبت النهي عنه ، ومنعه قوم وقالوا : كان هذا قبل النهي وقبل قوله " إنه حلية أهل النار " ( فالتمس فلم يجد شيئا ) وفي رواية لهما : فذهب ثم رجع فقال لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد ، وفي أخرى : فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه - صلى الله عليه وسلم - موليا فأمر به فدعي له ( فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل معك من القرآن شيء ؟ قال : نعم ) معي ( سورة كذا وسورة كذا ) بالتكرار وفي رواية ثلاثا ( لسور سماها ) في فوائد تمام : أنها سبع من المفصل ، ولأبي داود والنسائي من حديث أبي هريرة : سورة البقرة أو التي تليها بأو ، وللدارقطني عن ابن مسعود : البقرة وسورة من المفصل ، ولأبي الشيخ وغيره عن ابن عباس : إنا أعطيناك الكوثر وفي فوائد أبي عمر بن حيويه عن ابن عباس قال : معي أربع سور أو خمس سور ، وفي أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة قال : قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك ، وجمع بينها بأن كلا من الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر أو تعددت القصة ، وهو بعيد جدا .

                                                                                                          ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد أنكحتكها ) وللتنيسي : زوجناكها .

                                                                                                          وفي رواية لهما : ملكتكها ، قال الدارقطني : هي وهم والصواب زوجتكها وهي رواية الأكثرين .

                                                                                                          وقال النووي : يحتمل صحة الوجهين بأن يكون جرى ذكر التزويج أولا ثم لفظ التمليك ثانيا أي إنه ملك عصمتها بالتزويج السابق ( بما معك من القرآن ) الباء للعوض كبعتك ثوبي بدينار ولم يرد أنه أنكحها بحفظه القرآن أي إن الباء سببية إكراما للقرآن لأنها تكون بمعنى الموهوبة وذلك لا يجوز إلا له - صلى الله عليه وسلم - قاله المازري ، وقال عياض : يحتمل وجهين ، أظهرهما أن يعلمها ما معه من القرآن أو قدرا منه ويكون صداقها تعليمه إياها ، وجاء هذا عن مالك ، واحتج به من قال إن منافع الأعيان تكون صداقا .

                                                                                                          وفي رواية لمسلم : اذهب فعلمها من القرآن .

                                                                                                          وفي أبي داود : فعلمها عشرين آية .

                                                                                                          وقال الطحاوي والأبهري وغيرهما والليث ومكحول : هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والباء على هذا بمعنى اللام أي لما حفظت من القرآن وصرت لها كفؤا في الدين وهذا يحتاج إلى دليل . انتهى .

                                                                                                          وقد حكي أيضا عن أبي حنيفة وأحمد ومالك ، وهما قولان مرجحان في مذهبه ، ودليله ما أخرجه سعيد بن منصور وابن السكن عن أبي النعمان الأزدي الصحابي قال : " زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة على سورة من [ ص: 196 ] القرآن وقال : لا يكون لأحد بعدك مهرا " والقول الثاني لمالك والشافعي وغيرهما جواز جعل الصداق منافع على ظاهر الحديث .

                                                                                                          قال عياض : ويمكن أنه أنكحها له لما معه من القرآن إذ رضيه لها ويبقى ذكر المهر مسكوتا عنه إما لأنه أصدق عنه كما كفر عن الواطئ في رمضان وودى المقتول بخيبر إذ لم يحلف أهله رفقا بأمته ، أو أبقى الصداق في ذمته وأنكحه تفويضا حتى يجد صداقا أو يتكسبه بما معه من القرآن وليحرص على تعلم القرآن وفضل أهله وشفاعتهم به .

                                                                                                          وأشار الداودي إلى أنه أنكحها بلا مشورتها ولا صداق لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وإذا احتمل هذا كله لم يكن فيه حجة لجواز النكاح بلا صداق وبما لا قدر له ا هـ .

                                                                                                          وفي حديث ابن مسعود عند الدارقطني : " وقد أنكحتكها على أن تقريها وتعلمها وإذا رزقك الله عوضتها ، فتزوجها الرجل على ذلك " وهذا قد يقوي ذلك الاحتمال ، وفيه جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، وبه قال الجمهور والأئمة الثلاثة ، ويدل له أيضا حديث الصحيح : " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " وكرهه أبو حنيفة وأصحابه وجماعة لحديث ابن عباس مرفوعا : " معلمي صبيانكم شراركم أقله رحمة باليتيم وأغلظه على المسكين " وحديث أبي هريرة : " قلت : يا رسول الله ما تقول في المعلمين ؟ قال : درهمهم حرام وقوتهم سحت وكلامهم رياء " .

                                                                                                          وحديث عبادة بن الصامت أنه علم رجلا من أهل الصفة فأهدى له قوسا فقال له - صلى الله عليه وسلم - : " إن سرك أن يطوقك الله طوقا من نار فاقبله " .

                                                                                                          وعن أبي بن كعب مرفوعا مثله .

                                                                                                          وأجاب ابن عبد البر بأن هذه أحاديث منكرة لا يصح منها شيء ، قال : واحتجوا أيضا بحديث : " اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به ولا تستكثروا " قال : وهذا يحتمل التأويل بأنه علمه لله ثم أخذ عليه أجرا ونحو هذا .

                                                                                                          وروى حديث الباب جماعة كثيرة عن أبي حازم ، وأحسنهم له سياقة مالك وهو يدخل في التفسير المسند لقوله : وامرأة مؤمنة [ سورة الأحزاب : الآية 50 ] الآية . انتهى .

                                                                                                          وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف والترمذي من طريق إسحاق بن عيسى وعبد الله بن نافع الثلاثة عن مالك به ، وتابعه عبد العزيز بن أبي حازم ويعقوب بن عبد الرحمن وسفيان بن عيينة عند الشيخين ، وأبو غسان وفضيل بن سليمان عند البخاري ، وحماد بن زيد والدراوردي وزائدة وحسين بن علي كلهم عن أبي حازم عن سهل عند مسلم ، قائلا : يزيد بعضهم على بعض ، غير أن في حديث زائدة قال : " انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن " ورواه البخاري أيضا وابن ماجه مختصرا من طريق سفيان الثوري عن أبي حازم عن سهل : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل : تزوج ولو بخاتم من حديد " .




                                                                                                          الخدمات العلمية