الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2195 - مسألة : بكم من مرة من الإقرار تجب الحدود على المقر ؟ قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في هذا ، فقالت طائفة : بإقراره مرة واحدة تجب إقامة الحدود - وهو قول الحسن بن حي ، وحماد بن أبي سليمان ، وعثمان البتي ; ومالك ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأبي سليمان ، وجميع أصحابهم

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا يقام على أحد حد الزنى بإقراره حتى يقر على نفسه أربع مرات ، ولا يقام عليه حد القطع ، والسرقة حتى يقر به مرتين ، وحد الخمر مرتين - وأما في القذف فمرة واحدة - وهو قول روي عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا - كما ذكرنا - نظرنا فيما احتجت به [ ص: 92 ] كل طائفة لقولها ، فنظرنا في قول من رأى أن الحد لا يقام في الزنا بأقل من أربع مرات : فوجدناهم يحتجون بطريق مسلم ني عبد الملك بن شعيب عن الليث بن سعد ني أبي عن جدي ني عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وسعيد بن المسيب كلاهما عن أبي هريرة { أنه أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد - فناداه فقال : يا رسول الله إني قد زنيت ؟ فأعرض عنه ، فتنحى تلقاء وجهه فقال : يا رسول الله إني قد زنيت فأعرض عنه حتى كرر ذلك أربع مرات ، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبك جنون ؟ قال : لا ، قال : فهل أحصنت قال : نعم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهبوا به فارجموه }

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن حاتم بن نعيم أنا حبان - هو ابن موسى - أنا عبد الله - هو ابن المبارك - عن حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن عبد الرحمن بن مضاض عن أبي هريرة { أن ماعزا أتى رجلا يقال له : هزال ، فقال : يا هزال إن الآخر قد زنى ، قال : ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل فيك قرآن ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه زنى ؟ فأعرض عنه ، ثم أخبره فأعرض عنه ، ثم أخبره فأعرض عنه - أربع مرات - فلما كان الرابعة أمر برجمه ، فلما رجم أتي إلى شجرة فقتل }

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن حاتم بن نعيم أنا حبان - وهو ابن موسى - أنا عبد الله بن المبارك عن زكريا أبي عمران البصري - هو ابن سليم - صاحب اللؤلئي قال : سمعت شيخا يحدث عمرو بن عثمان القرشي قال : أنا عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال { : شهدت النبي عليه السلام - وهو واقف على بغلته - فجاءته امرأة حبلى فقالت : إنها قد بغت فارجمها ؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم استتري بستر الله فذهبت ثم رجعت إليه - وهو واقف على بغلته - فقالت : ارجمها ؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم استتري بستر الله فرجعت ثم جاءت الثالثة - وهو واقف على بغلته - فأخذت باللجام فقالت : أنشدك الله إلا رجمتها ، فقال : انطلقي حتى تلدي فانطلقت فولدت غلاما ، فجاءت به النبي صلى الله عليه وسلم فكفله النبي عليه السلام - ثم قال [ ص: 93 ] انطلقي فتطهري من الدم فانطلقت فتطهرت من الدم ، ثم جاءت فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى نسوة فأمرهن أن يستبرئنها وأن ينظرن أطهرت من الدم ؟ فجئن فشهدن عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطهرها ، فأمر لها عليه السلام بحفرة إلى ثندوتها ، ثم أقبل هو والمسلمون فقال بيده : فأخذ حصاة - كأنها حمصة - فرماها بها ، ثم قال للمسلمين : ارموها وإياكم ووجهها ، فرموها حتى طفيت ، فأمر بإخراجها حتى صلى عليها }

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق مسلم نا محمد بن عبد الله بن نمير ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، كلاهما يقول : إن عبد الله بن نمير حدثه قال : أنا بشر بن المهاجر أنا عبد الله بن بريدة عن أبيه { أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت ، وإني أريد أن تطهرني ، فرده ، فلما كان من الغد أتاه فقال : يا رسول الله إني قد زنيت ، فرده الثانية فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قومه فقال : أتعلمون بعقله بأسا ؟ أتنكرون منه شيئا ؟ فقالوا : ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى ، فأتاه الثالثة ، فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه ، فأخبروه أنه لا بأس به ، ولا بعقله ، فلما كان الرابعة : حفر له حفرة ثم أمر به فرجم ، فجاءت الغامدية فقالت : يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني ، وأنه ردها ، فلما كان الغد قالت : يا رسول الله أتردني ، لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزا ، فوالله إني لحبلى ، قال لها : لا ، أما الآن فاذهبي حتى تلدي ، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت : هذا قد ولدته قال : فاذهبي فأرضعيه حتى تفطميه ، فلما فطمته أتت بالصبي في يده كسرة خبز قالت : هذا يا رسول الله قد فطمته ، وقد أكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها }

                                                                                                                                                                                          فهذا هو البيان الجلي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأي شيء رد ماعزا لأن الغامدية قررته عليه السلام على أنه رد ماعزا ، وأنه لا يحتاج إلى ترديدها ، لأن الزنى الذي أقرت به صحيح ثابت ، وقد ظهرت علامته - وهي حبلها - فصدقها [ ص: 94 ] رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ، وأمسك عن ترديدها - ولو كان ترديده عليه السلام ماعزا من أجل أن الإقرار لا يصح بالزنى حتى يتم أربع مرات لأنكر عليها هذا الكلام ، ولقال لها : لا شك إنما أردك كما رددت ماعزا لأن الإقرار لا يتم إلا بأربع مرات - وهو عليه السلام لا يقر على خطأ ، ولا على باطل

                                                                                                                                                                                          فصح يقينا أنها صادقة ، فإنها لا تحتاج من الترديد إلى ما احتاج إليه ماعز ، ولذلك لم يردها عليه السلام بعد هذا الكلام

                                                                                                                                                                                          وصح يقينا أن ترديده عليه السلام ماعزا إنما كان لوجهين : أحدهما - ما نص عليه السلام من تهمته لعقله فسأل عليه السلام قومه المرة بعد المرة هل به جنون ؟ وسؤاله عليه السلام هل شرب خمرا

                                                                                                                                                                                          كما روينا من طريق مسلم أنا محمد بن العلاء أنا يحيى بن يعلى بن الحارث المحاربي عن غيلان بن جامع عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن يزيد عن أبيه قال { جاء ماعز بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له طهرني ، قال : ويحك ارجع فاستغفر الله وتب ، قال : فرجع غير بعيد ، ثم جاء فقال : يا رسول الله طهرني ؟ فقال له مثل ذلك ، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فيم أطهرك ؟ قال : من الزنى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أبه جنة ؟ فأخبر أنه ليس بمجنون ، فقال : أشرب خمرا ؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أزنيت ؟ قال : نعم ، فأمر به فرجم ، } وذكر باقي الخبر

                                                                                                                                                                                          والوجه الآخر { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتهمه أنه لا يدري ما الزنى ؟ فردده لذلك وقرره } : كما أنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن شعيب أرنا سويد بن نصر أرنا عبد الله بن المبارك عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس { أن الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعترف بالزنى ، فقال : لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت }

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى أحمد بن شعيب أخبرني عبد الله بن الهيثم عن عثمان البصري أرنا [ ص: 95 ] وهب بن جرير بن حازم قال : حدثني أبي قال سمعت يعلى بن حكيم يحدث عن عكرمة عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لماعز بن مالك : ويحك لعلك قبلت ، أو غمزت ، أو نظرت ؟ قال : لا ، قال : فنكتها ؟ قال : نعم ، فعند ذلك أمر برجمه }

                                                                                                                                                                                          فقد صح يقينا أن ترديد النبي عليه السلام لماعز لم يكن مراعاة لتمام الإقرار أربع مرات أصلا ، وإنما كان لتهمته إياه في عقله ، وفي جهله ما هو الزنى - فبطل تعلقهم بحديث ابن بريدة - والحمد لله رب العالمين

                                                                                                                                                                                          وأما حديث أبي هريرة من طريق ابن مضاض ، فإن ابن مضاض مجهول لا يدرى من هو ؟ وقد جاء عن أبي هريرة خبر صحيح ببيان بطلان ظنهم نذكره بعد تمام كلامنا في هذه الأخبار - إن شاء الله تعالى ، وهو - : ما أنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن شعيب أنا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - أنا عبد الرزاق أنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير قال : إن عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول { : جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشهد على نفسه أربع مرات بالزنى يقول : أتيت امرأة حراما ، وكل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل في الخامسة فقال له : أنكحتها ؟ قال : نعم ، قال : فهل تدري ما الزنى ؟ قال : نعم ، أتيت منها حراما مثل ما يأتي الرجل من أهله حلالا ، قال : فما تريد بهذا القول ؟ قال : أريد أن تطهرني ؟ فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجم فرجم ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه : انظروا إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ، فسكت عنهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساعة فمر بجيفة حمار شائل برجليه ، فقال : أين فلان وفلان ؟ فقالا : نحن يا رسول الله ، فقال لهما : كلا من جيفة هذا الحمار ، فقالا : يا رسول الله غفر الله لك من يأكل هذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما نلتما من عرض هذا آنفا أشد من هذه الجيفة ، فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة } [ ص: 96 ]

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : فهذا خبر صحيح ، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتف بتقريره أربع مرات ، ولا بإقراره أربع مرات ، حتى أقر في الخامسة ، ثم لم يكتف بذلك حتى سأله السادسة : هل تعرف ما الزنى ؟ فلما عرف عليه السلام أنه يعرف الزنى لم يكتف بذلك حتى سأله السابعة ، ما يريد بهذا إلا ليختبر عقله ، فلما عرف أنه عاقل صحيح العرض أقام عليه الحد - وفي هذا الخبر بيان بطلان الرأي من الصاحب وغيره ، لأنه عليه السلام أنكر عليهما ما قالاه برأيهما مجتهدين قاصدين إلى الحق - فهذا يبطل احتجاج من احتج بما روي عن بريدة وبالله تعالى التوفيق

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم أنا أبو غسان المسمعي أنا معاذ - يعني ابن هشام الدستوائي - ني أبي عن يحيى بن أبي كثير ني أبو قلابة أن أبا المهلب حدثه عن عمران بن الحصين { أن امرأة من جهينة أتت نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم - وهي حبلى من الزنى - فقالت : يا نبي الله أصبت حدا فأقمه علي ؟ فدعا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وليها فقال : أحسن إليها ، فإذا وضعت فأتني بها ، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشكت عليها ثيابها ، وأمر بها فرجمت ، ثم صلى عليها ، فقال له عمر : أتصلي عليها يا نبي الله وقد زنت ؟ قال : لقد تابت توبة لو قسمت بين أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى ؟ } "

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم أنا قتيبة أنا الليث عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة ، وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا { إن رجلين من الأعراب أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله ؟ فقال له الآخر - وهو أفقه منه - : نعم ، فاقض بيننا بكتاب الله ، وإيذن لي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قل ، فقال : إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وذكر الحديث وفيه - أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله : أما الوليدة والغنم رد عليك ، وعلى ابنك جلد مائة ، وتغريب عام ، [ ص: 97 ] واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ؟ فغدا عليها فاعترفت ، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجمت }

                                                                                                                                                                                          فوجدنا بريدة ، وعمران بن الحصين ، وأبا هريرة ، وزيد بن خالد ، كلهم قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إقامة الحد في الزنى على : الغامدية ، والجهينية ، بغير ترديد ، وعلى امرأة هذا المذكور بالاعتراف المطلق ، وهو يقتضي - ولا بد - رجمها بما يقع عليه اسم اعتراف ، وهو مرة واحدة فقط

                                                                                                                                                                                          وصح أن كتاب الله يوجب ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من إقامة الحد في الزنى بالاعتراف المطلق دون تحديد عدد ، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى } وأقسم على ذلك ، ثم قضى بالرجم في الاعتراف دون عدد

                                                                                                                                                                                          فصح أنه إذا صح الاعتراف مرة أو ألف مرة فهو كله سواء ، وأن إقامة الحد واجب ولا بد - وبالله تعالى التوفيق

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية