الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 343 ] والأولى أن يكون القاضي مجتهدا ، فإن لم يوجد فيجب أن يكون من أهل الشهادة موثوقا به في دينه وأمانته وعقله وفهمه ، عالما بالفقه والسنة ، وكذلك المفتي ، ولا يطلب الولاية ، ويكره الدخول فيه لمن يخاف العجز عن القيام به ، ولا بأس به لمن يثق من نفسه أداء فرضه ، ومن تعين له تفترض عليه الولاية ، ويجوز التقليد من ولاة الجور .

التالي السابق


قال : ( والأولى أن يكون القاضي مجتهدا ) لأن الحادثة إذا وقعت يجب طلبها من الكتاب ثم من السنة ثم من الإجماع ، فإن لم يوجد في شيء من ذلك استعمل الرأي والاجتهاد ، ويشهد له حديث معاذ حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن وولاه الحكم بها ، فقال له : " كيف تصنع إن عرض لك حكم ؟ " قال : أقضي بما في كتاب الله ، قالت : " فإن لم تجد ؟ " قال : فبسنة رسول الله ، قال : " فإن لم تجد ؟ " قال : أجتهد برأيي ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله " وإنما لم يذكر الإجماع ؛ لأنه لا إجماع مع وجوده عليه الصلاة والسلام ، لأنه بمنزلة القياس مع النص بعده عليه الصلاة والسلام .

قال : ( فإن لم يوجد فيجب أن يكون من أهل الشهادة موثوقا به في دينه وأمانته وعقله وفهمه ، عالما بالفقه والسنة ، وكذلك المفتي ) أما أهلية الشهادة ؛ فلأنها من باب الولاية والقضاء [ ص: 344 ] أقوى وأعم ولاية ، وكل من كان من أهل الشهادة كان من أهل القضاء ، ومن لا فلا; ولا تجوز ولاية الصبي والمجنون والعبد ؛ لأنه لا ولاية لهم ، ولا الأعمى ؛ لأنه ليس من أهل الشهادة ، ولوجود الالتباس عليه في الصوت وغيره; والأطروش يجوز لأنه يفرق بين المدعي والمدعى عليه ويميز بين الخصوم ، وقيل لا يجوز لأنه لا يسمع الإقرار ، فربما ينكر إذا استعاده فتضيع حقوق الناس; والفاسق يجوز قضاؤه كما تجوز شهادته ، ولا ينبغي أن يولي كما لا ينبغي أن يعمل بشهادته . وفي النوادر عن أصحابنا أنه لا يجوز قضاؤه ، ولو فسق بعد الولاية استحق العزل ولا ينعزل ، وقيل ينعزل لأن الذي ولاه ما رضي به إلا عدلا ، ويشترط دينه وأمانته ؛ لأنه يتصرف في أموال الناس ودمائهم ولا يوثق على ذلك من لا أمانة له ، وكذلك العقل ؛ لأنه الأصل في الأمور الدينية . وأما الفهم فلتفهم معاني الكتاب والحديث وما يرد عليه من القضايا والدعاوى وكتب القضاة وغير ذلك .

وأما العلم بالفقه والسنة فلأنه إذا لم يعلم بذلك لا يقدر على القضاء ولا يعلم كيف يقضي .

وعن أبي يوسف : لأن يكون القاضي ورعا أحب إلي من أن يكون مجتهدا . وقال : إذا كان عالما بالفرائض يكفي في جواز القضاء . وقيل يجوز تقليد الجاهل ؛ لأنه يقدر على القضاء بالاستفتاء ، والأولى أن يكون عالما قال - عليه الصلاة والسلام - : " من قلد إنسانا عملا وفي رعيته من هو أولى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين " وكذلك المفتي ؛ لأن الناس يرجعون إلى فتواه في حوادثهم ويقتدون به ويعتمدون على قوله ، فينبغي أن يكون بهذه الأوصاف; والفاسق لا يصلح أن يكون مفتيا ؛ لأنه لا يقبل قوله في أخبار الديانات; وقيل يصلح لأنه يتحرز لئلا ينسب إلى الخطأ .

قال : ( ولا يطلب الولاية ) لقوله - عليه الصلاة والسلام - لعبد الرحمن بن سمرة : " يا عبد الرحمن لا تسأل الولاية ، فإنك إن سألتها وكلت إليها ، وإن أعطيتها أعنت عليها " وقال - عليه الصلاة والسلام - : " من طلب عملا فقد غل " وعن عمر - رضي الله عنه - : ما عدل من طلب القضاء .

قال : ( ويكره الدخول فيه لمن يخاف العجز عن القيام به ) لما فيه من المحذور ، وقيل يكره الدخول لمن يدخله مختارا لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " من ولي القضاء فكأنما ذبح بغير [ ص: 345 ] سكين " قيل معناه إذا طلب ، وقيل إذا لم يكن أهلا .

قال : ( ولا بأس به لمن يثق من نفسه أداء فرضه ) لأن كبار الصحابة والتابعين تقلدوه وكفى بهم قدوة ، والنبي - عليه الصلاة والسلام - ولى عليا ولو كان مكروها لما ولاه . وقال - عليه الصلاة والسلام - : " إذا حكم الحاكم فأصاب فله أجران " واختيار أبي بكر الرازي الامتناع عنه; وقيل الدخول فيه رخصة والترك عزيمة وهو الصحيح .

( ومن تعين له تفترض عليه الولاية ) وقد بيناه ، ولو امتنع لا يجبر عليه; ولو كان في البلد جماعة يصلحون وامتنعوا والسلطان يفصل بين الخصوم لم يأثموا ، وإن كان لا يمكنه ذلك أثموا ، وإن امتنعوا حتى قلد جاهلا أثم الكل .

قال : ( ويجوز التقليد من ولاة الجور ) لأن الصحابة تقلدوه من معاوية وكان الحق مع علي - رضي الله عنه - ، والتابعون تقلدوه من الحجاج مع جوره ؛ ولأن فيه إقامة الحق ودفع الظلم حتى لو لم يمكنه من ذلك لا يجوز له الولاية منه .




الخدمات العلمية