الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
العبد المسلم يأبق إلى أهل دار الحرب .

سألت الشافعي عن العدو يأبق إليهم العبد أو يشرد البعير أو يغيرون فينالونهما أو يملكونهما أسهما ؟ قال : لا فقلت للشافعي : فما تقول فيهما إذا ظهر عليهم المسلمون فجاء أصحابهما قبل أن يقتسما ؟ فقال : هما لصاحبهما فقلت أرأيت إن وقعا في المقاسم ؟ فقال : اختلف فيهما المفتون فمنهم من قال هما قبل المقاسم وبعدها سواء لصاحبهما ومنهم من قال هما لصاحبهما قبل المقاسم فإذا وقعت المقاسم وصارا في سهم رجل فلا سبيل إليهما ومنهم من قال صاحبهما أحق بهما ما لم يقسما فإذا قسما فصاحبهما أحق بهما بالقيمة : قلت للشافعي : فما اخترت من هذا ؟ قال : أنا أستخير الله عز وجل فيه قلت فمع أي القولين الآثار والقياس ؟ فقال : دلالة السنة والله تعالى أعلم . فقلت للشافعي : فاذكر السنة فقال : أخبرنا الثقفي عن أيوب عن أبي قلابة عن عمران بن حصين قال { سبيت امرأة من الأنصار وكانت الناقة قد أصيبت قبلها } ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى : كأنه يعني ناقة النبي صلى الله عليه وسلم لأن آخر حديثه يدل على ذلك قال عمران بن حصين { : فكانت تكون فيهم وكانوا يجيئون بالنعم إليهم فانفلتت ذات ليلة من الوثاق فأتت الإبل فجعلت كلما أتت بعيرا منها فمسته رغا فتركته حتى أتت تلك الناقة فمستها فلم ترغ وهي ناقة هدرة فقعدت في عجزها ثم صاحت بها فانطلقت وطلبت من ليلتها فلم يقدر عليها فجعلت لله عليها إن [ ص: 269 ] الله أنجاها عليها لتنحرنها فلما قدمت المدينة عرفوا الناقة وقالوا : ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إنها قد جعلت لله تعالى عليها لتنحرنها فقالوا والله لا تنحريها حتى نؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوه فأخبروه أن فلانة قد جاءت على ناقتك وأنها قد جعلت لله عليها إن نجاها الله عليها لتنحرنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبئس ما جزتها إن أنجاها الله عليها لتنحرنها لا وفاء لنذر في معصية الله ولا وفاء لنذر فيما لا يملك العبد أو قال ابن آدم } ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى : وهذا الحديث يدل على أن العدو قد أحرز ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الأنصارية انفلتت من إسارهم عليها بعد إحرازهموها ورأت أنها لها فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قد نذرت فيما لا تملك ولا نذر لها وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته ولو كان المشركون يملكون على المسلمين لم يعد أخذ الأنصارية الناقة أن تكون ملكها بأنها أخذتها ولا خمس فيها لأنها لم توجف عليها وقد قال بهذا غيرنا ولسنا نقول به أو تكون ملكت أربعة أخماسها وخمسها لأهل الخمس أو تكون من الفيء الذي لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فيكون أربعة أخماسها للنبي صلى الله عليه وسلم وخمسها لأهل الخمس ولا أحفظ قولا لأحد أن يتوهمه في هذا غير أحد هذه الثلاثة الأقاويل . قال : فلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته دل هذا على أن المشركين لا يملكون شيئا على المسلمين وإذا لم يملك المشركون على المسلمين ما أوجفوا عليه بخيلهم فأحرزوه في ديارهم أشبه والله تعالى أعلم أن لا يملك المسلمون عنهم ما لم يملكوا هم لأنفسهم قبل قسم الغنيمة ولا بعده ، قلت للشافعي رحمه الله تعالى فإن كان هذا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف اختلف فيه ؟ فقال : قد يذهب بعض السنن على بعض أهل العلم ولو علمها إن شاء الله تعالى قال بها ، قلت للشافعي : أفرأيت من لقيت ممن سمع هذا كيف تركه ؟ فقال : لم يدعه كله ولم يأخذ به كله ، فقلت : فكيف كان هذا ؟ قال : والله تعالى أعلم ولا يجوز هذا لأحد ، فقلت فهل ذهب فيه إلى شيء ؟ فقال : كلمني بعض من ذهب هذا المذهب فقال : وهكذا يقول فيه المقاسم فيصير عبد رجل في سهم رجل فيكون مفروزا من حقه وبتفرق الجيش فلا يجد أحدا يتبعه بسهمه فينقلب لا سهم له . فقلت له : أفرأيت لو وقع في سهمه حر أو أم ولد لرجل ؟ قال يخرج من يده ويعوض من بيت المال فقلت له : وإن لم يستحق الحر الحرية ولا مالك أم الولد إلا بعد تفرق الجيش ؟ قال : نعم ويعوض من بيت المال . فقلت له : وما يدخل على من قال هذا القول في عبد الرجل المسلم يخرج من يدي من صار سهمه ويعوض منه قيمته . فقال من أين يعوض ؟ قلت : من الخمس خاصة . قال : ومن أي الخمس ؟ قلت سهم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يضعه في الأنفال ومصالح المسلمين ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : فقال لي قائل : تول الجواب عمن قال صاحب المال أحق به قبل المقاسم وبعده قلت فاسأل فقال : ما حجتك فيه ؟ قلت : ما وصفت من السنة في حديث عمران بن حصين والخبر عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن السنة إذا دلت أن المشركين لا يملكون على المسلمين شيئا بحال لم يجز أن يملكوا عليهم بحال أخرى إلا بسنة مثلها . فقال ومن أين ؟ قلت : إني إذا أعطيت أن مالك العبد إذا وجد عبده قبل ما يحرزه العدو ثم يحرزه المسلمون على العدو قبل أن يقسمه المسلمون فقد أعطيت أن العدو لم يملكوه ملكا يتم لهم ولو ملكوه [ ص: 270 ] ملكا يتم لهم لم يكن العبد لسيده إذا ملكه الموجفون عليه من المسلمين قبل القسم ولا بعده أرأيت لو كان أسرهم إياه وغلبتهم عليه كبيع مولاه له منهم أو هبته إياه ثم أوجف عليه ألا يكون للموجفين ؟ قال : بلى قلت : أفتعدو غلبة العدو عليه أن تكون ملكا فيكون كمال لهم سواء مما وهب لهم أو اشتروه أو تكون غصبا لا يملكونه عليه ؟ فإذا كانت السنة والآثار والإجماع تدل على أنه كالغصب قبل أن يقسم فكذلك ينبغي أن يكون بعدما يقسم ، ألا ترى أن مسلما متأولا أو غير متأول لو أوجف على عبد ثم أخذ من يد من قهره عليه كان لمالكه الأول فإذا لم يملك مسلم على مسلم بغصب كان المشرك أولى أن لا يكون مالكا مع أنك لم تجعل المشرك مالكا ولا غير مالك ( قال الشافعي ) : فقال : إن هذا ليدخله ولكنا قلنا فيه بالأثر ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : أرأيت إن قال لك قائل : هذه السنة والأثر تجامع ما قلنا وهو القياس والمعقول فكيف صرت إلى أن تأخذ بشيء دون السنة وتدع السنة وشيء من الأثر أقل من الآثار وتدع الأكثر فما حجتك فيه ؟ قال : إنا قد قلنا بالسنة والآثار التي ذهبت إليها ولم يكن فيها بيان أن ذلك بعد القسمة كهو قبلها ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى قلت له : أما فيها بيان أن العدو لو ملكوا على المسلمين ما أحرزوا من أموالهم ملكا تاما كان ذلك لمن ملك من المسلمين على المشركين دون مالكه الأول ؟ قال : بلى قلت : أولا يكون مملوكا لمالكه الأول بكل حال أو للعدو إذا أحرزوه ؟ فقال : إن هذا ليدخل ذلك ولكن صرنا إلى الأثر وتركنا القياس ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى : فقلت له فهذه السنة والآثار والقياس عليها فقال : قد يحتمل أن يكون حكمه قبل ما يقسم حكمه بعد ما يقسم حكمه ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : فقلت له : أما في قياس أو عقل فلا يجوز أن يكون هذا لو كان إلا بالأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء ويروى عمن دونه فليس في أحد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة قال : أفيحتمل من روى عنه قولنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ذهب عليه هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت : أفيحتمل عندك ؟ فقال : نعم فقلت : فما مسألتك عن أمر تعلم أن لا مسألة فيه ؟ قال فأوجدني مثل هذا فقلت : نعم وأبين قال مثل ماذا ؟ ( قال الشافعي ) : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السن بخمس وقضى عمر في الضرس ببعير فكان يحتمل لذاهب لو ذهب مذهب عمر أن يقول السن ما أقبل والضرس ما أكل عليه ثم يكون هذا وجها محتملا يصح المذهب فيه ؟ فلما كانت السن داخلة في معنى الأسنان في حال فإن باينتها باسم منفرد دونها كما تباين الأسنان بأسماء تعرف بها صرنا وأنت إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم جملة وجعلنا الأعم أولى بقول النبي صلى الله عليه وسلم من الأخص وإن احتمل الأخص من حكم كثير غير هذا نقول فيه نحن وأنت بمثل هذا قال : هذا في هذا وغيره كما تقول قلت فما أحرز المشركون ثم أحرز عنهم فكان لمالكه قبل القسم ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس له بعد القسم أثر غير هذا فأحرى لا يحتمل معنى إلا أن المشركين لا يحرزون على المسلمين شيئا قال : فإنا نأخذ قولنا من غير هذا الوجه إذا دخل من هذا الوجه فأخذه من أنا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم { من أسلم على شيء فهو له } وروينا عنه أن المغيرة أسلم على مال قوم قد قتلهم وأخفاه فكان له ( قال الشافعي ) : أرأيت ما رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه من أسلم على شيء فهو له " أيثبت ؟ قال هو من حديثكم قلت نعم منقطع ونحن نكلمك على تثبيته فنقول لك أرأيت إن كان ثابتا أهو عام [ ص: 271 ] أو خاص ؟ قال : فإن قلت هو عام ؟ قلت : إذا نقول لك أرأيت عدوا أحرز حرا أو أم ولد أو مكاتبا أو مدبرا أو عبدا مرهونا فأسلم عليهم ؟ قال : لا يكون له حر ولا أم ولد ولا شيء لا يجوز ملكه ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى فقلت له فتركت قولك : إنه عام ؟ قال : نعم وأقول من أسلم على شيء يجوز ملكه لمالكه الذي غصبه عليه قلنا فأم الولد يجوز ملكها لمالكها إلى أن يموت أفتجعل للعدو ملكها إلى موت سيدها ؟ قال : لا لأن فرجها لا يحل لهم قلت : إن أحللت ملك رقبتها بالغصب حين تقيم الغاصب مقام سيدها إنك لشبيه أن تحل فرجها أو ملكها وإن منعت فرجها ، أو رأيت إن جعلت الحديث خاصا وأخرجته من العموم أيجوز لك فيه أن تقول فيه بالخاص بغير دلالة عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ( قال الشافعي ) : فقال : فأستدل بحديث المغيرة على أن المغيرة ملك ما يجوز له تملكه فأسلم عليه فلم يخرجه النبي صلى الله عليه وسلم من يده لم يخمسه قال : فقلت له الذين قتلوا المغيرة مشركون فإن زعمت أن حكم أموال المسلمين حكم أموال المشركين كلمناك على ذلك ، قال : ما حكم أموال المشركين حكم أموال المسلمين وإنه ليدخل على هذا القول ما وصفت ، فهل تجد إن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { من أسلم على شيء فهو له } مخرجا صحيحا لا يدخل فيه شيء مثل ما دخل هذا القول ؟ ( قال الشافعي ) : فقلت له : نعم من أسلم على شيء يجوز له ملكه فهو له فقال هذا جملة فأبنه فقلت له : إن شاء الله تبارك وتعالى أعز أهل دينه إلا بحقها فهي من غير أهل دينه أولى أن تكون ممنوعة أو أقوى على منعها فإذا كان المسلم لو قهر مسلما على عبد ثم ورث عن القاهر أو غلبه عليه متأول أو لص أخذه المقهور عليه بأصل ملكه الأول وكان لا يملكه مسلم بغصب فالكافر أولى أن لا يملكه بغصب ، وذلك أن الله جل ثناؤه خول المسلمين أنفس الكافرين المحاربين وأموالهم فيشبه والله تعالى أعلم أن يكون المشركون إن كانوا إذا قدروا عليهم وأموالهم خولا لأهل دين الله عز وجل أن لا يكون لهم أن يتحولوا من أموال أهل دين الله شيئا يقدر على إخراجه من أيديهم ولا يجوز أن يكون المتخول متخولا على ممن يتخوله إذا قدر عليه قال : فما الذي يسلمون عليه فيكون لهم ؟ فقلت ما غصبه بعض المشركين بعضا ثم أسلم عليه الغاصب كان له أخذه المغيرة من أموال المشركين وذلك أن المشركين الغاصبين والمغصوبين لم يكونوا ممنوعي الأموال بدين الله عز وجل فلما أخذها بعضهم لبعض أو سبى بعضهم بعضا ثم أسلم السابي الآخذ للمال كان له ما أسلم عليه لأنه أسلم على ما لو ابتدأ أخذه في الإسلام كان له ولم يكن له أن يبتدئ في الإسلام أخذ شيء لمسلم فقال لي : أرأيت من قال هذا القول كيف زعم في المشركين إذا أخذوا لمسلم عبدا أو مالا غيره أو أمته أو أم ولده أو مدبره أو مكاتبه أو مرهونه أو أمة جانية أو غير ذلك ثم أحرزها المسلمون ؟ فقلت هذا يكون كله لمالكه على الملك الأول وبالحال الأول قبل أن يحرزها العدو وتكون أم الولد أم ولد وإن مات سيدها عتقت بموته في بلاد الحرب أو بعد والمدبرة مدبرة ما لم يرجع فيها سيدها والعبد الجاني والأمة الجانية جانيين في رقابهما الجناية لا يغير السباء منهما شيئا وكذلك الرهن وغيره قال : أفرأيت إن أحرز هذا المشركون ثم أحرزه عليهم مشركون غيرهم ثم أحرزه المسلمون ثم أحرزه المشركون عليهم ؟ قلت : كيف كان هذا وتطاول ؟ فهذا قول لا يدخل بحال هو على الملك الأول وكل حادث فيه بعده لا يبطله ويدفعون إلى مالكيهم الأولين المسلمين فقلت للشافعي رحمه الله تعالى : فأجب على هذا القول أرأيت إن أحرز العدو جارية رجل فوطئها المحرز لها فولدت ثم [ ص: 272 ] ظهر عليها المسلمون فقال هي وأولادها لمالكها ؟ فقلت : فإن أسلموا عليها ؟ قال : تدفع الجارية إلى مالكها ويأخذ ممن وطئها عقرها وقيمة أولادها يوم سقطوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية