الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله : ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى

قوله تعالى : ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي تقدم الكلام في هذا مستوفى فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا أي يابسا لا طين فيه ولا ماء . وقد مضى في ( البقرة ) ضرب موسى البحر وكنيته إياه وإغراق فرعون فلا معنى للإعادة لا تخاف دركا أي لحاقا من فرعون وجنوده . ولا تخشى قال ابن جريج قال أصحاب موسى : هذا فرعون قد أدركنا ، وهذا البحر قد غشينا ، فأنزل الله تعالى لا تخاف دركا ولا تخشى أي لا تخاف دركا من فرعون ولا تخشى غرقا من البحر أن يمسك إن غشيك . وقرأ حمزة ( لا تخف ) على أنه جواب الأمر . التقدير إن تضرب لهم طريقا في البحر لا تخف . ولا تخشى مستأنف على تقدير : ولا أنت تخشى . أو يكون مجزوما والألف مشبعة من فتحة ؛ كقوله : فأضلونا السبيلا أو يكون على حد قول الشاعر [ عبد يغوث بن وقاص ] :


كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا



على تقدير حذف الحركة كما تحذف حركة الصحيح . وهذا مذهب الفراء . وقال آخر :


هجوت زبان ثم جئت معتذرا     من هجو زبان لم تهجو ولم تدع



وقال آخر [ قيس بن زهير العبسي ] :


ألم يأتيك والأنباء تنمي     بما لاقت لبون بني زياد


[ ص: 144 ] قال النحاس : وهذا من أقبح الغلط أن يحمل كتاب الله - عز وجل - على الشذوذ من الشعر ؛ وأيضا فإن الذي جاء به من الشعر لا يشبه من الآية شيئا ؛ لأن الياء والواو مخالفتان للألف ؛ لأنهما تتحركان والألف لا تتحرك ، وللشاعر إذا اضطر أن يقدرهما متحركتين ثم تحذف الحركة للجزم ، وهذا محال في الألف ؛ والقراءة الأولى أبين لأن بعده ولا تخشى مجمع عليه بلا جزم ؛ وفيها ثلاث تقديرات : الأول : أن يكون ( لا تخاف ) في موضع الحال من المخاطب ، التقدير فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا غير خائف ولا خاش . الثاني : أن يكون في موضع النعت للطريق ؛ لأنه معطوف على يبس الذي هو صفة ، ويكون التقدير لا تخاف فيه ؛ فحذف الراجع من الصفة . والثالث : أن يكون منقطعا خبر ابتداء محذوف تقديره وأنت لا تخاف .

قوله تعالى : فأتبعهم فرعون بجنوده أي اتبعهم ومعه جنوده ، وقرئ ( فاتبعهم ) بالتشديد فتكون الباء في بجنوده عدت الفعل إلى المفعول الثاني ؛ لأن اتبع يتعدى إلى مفعول واحد . أي تبعهم ليلحقهم بجنوده أي مع جنوده كما يقال : ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه . ومن قطع ( فأتبع ) يتعدى إلى مفعولين : فيجوز أن تكون الباء زائدة ، ويجوز أن يكون اقتصر على مفعول واحد . يقال : تبعه وأتبعه ولحقه وألحقه بمعنى واحد . وقوله : بجنوده في موضع الحال ؛ كأنه قال : فأتبعهم سائقا جنوده . فغشيهم من اليم ما غشيهم أي أصابهم من البحر ما غرقهم ، وكرر على معنى التعظيم والمعرفة بالأمر .

وأضل فرعون قومه وما هدى أي أضلهم عن الرشد وما هداهم إلى خير ولا نجاة ؛ لأنه قدر أن موسى - عليه السلام - ومن معه لا يفوتونه ؛ لأن بين أيديهم البحر . فلما ضرب موسى البحر بعصاه انفلق منه اثنا عشر طريقا وبين الطرق الماء قائما كالجبال . وفي سورة الشعراء فكان كل فرق كالطود العظيم أي الجبل الكبير ؛ فأخذ كل سبط طريقا . وأوحى الله إلى أطواد الماء أن تشبكي فصارت شبكات يرى بعضهم بعضا ويسمع بعضهم كلام بعض ، وكان هذا من أعظم المعجزات ، وأكبر الآيات ، فلما أقبل فرعون ورأى الطرق في البحر والماء قائما أوهمهم أن البحر فعل هذا لهيبته ، فدخل هو وأصحابه فانطبق البحر عليهم . وقيل إن قوله : وما هدى تأكيد لإضلاله إياهم . وقيل هو جواب قول فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد فكذبه الله تعالى . وقال ابن عباس وما هدى أي ما هدى نفسه بل أهلك نفسه وقومه .

التالي السابق


الخدمات العلمية