الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3322 (18) باب

                                                                                              كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام

                                                                                              [ 1289 ] عن ابن عباس: أن أبا سفيان أخبره من فيه إلى فيه. قال: انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، قال: فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل ، ( يعني : عظيم الروم)، قال: وكان دحية الكلبي جاء به ، فدفعه إلى عظيم بصرى ، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل ، فقال هرقل: هل هاهنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم ، فدعيت في نفر من قريش ، فدخلنا على هرقل . فأجلسنا بين يديه. فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا ، فأجلسوني بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي ، ثم دعا بترجمانه فقال له: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ، فإن كذبني فكذبوه. قال: فقال أبو سفيان: وايم الله ، لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت ! ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب، قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا ، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا ، قال: ومن تبعه ؟ أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال: قلت: بل ضعفاؤهم ، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قال: قلت: لا بل يزيدون ، قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال: قلت: لا ، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم ، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالا ، يصيب منا ونصيب منه ، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا ، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها ، قال: فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه ، قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قال: قلت: لا ، قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه ، فزعمت أنه فيكم ذو حسب ، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها ، وسألت: هل كان في آبائه ملك؟ فزعمت أن لا ، فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك آبائه ، وسألتك عن أتباعه ، أضعفاؤهم أم أشرافهم ، فقلت: بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل ، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا ، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ، ثم يذهب فيكذب على الله ، وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة له؟ فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب ، وسألتك هل يزيدون أم ينقصون ، فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم ، وسألتك هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قد قاتلتموه ، فيكون الحرب بينكم وبينه سجالا ، ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة ، وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر ، وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت أن لا ، فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله ، قلت: رجل ائتم بقول قيل قبله. ثم قال: بم يأمركم؟ قال : قلت: يأمرنا بالصلاة ، والزكاة ، والصلة ، والعفاف. قال: إن يكن ما تقول فيه حقا ، فإنه نبي ، وقد كنت أعلم أنه خارج ، ولم أكن أظنه منكم ، ولو أني أعلم أني أخلص إليه ، لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي. قال: ثم دعا بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله إلى قوله : فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [آل عمران : 64] فلما فرغ من قراءة الكتاب ، ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط ، وأمر بنا فأخرجنا ، فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، إنه ليخافه ملك بني الأصفر! ......... قال: فما زلت موقنا بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه سيظهر ، حتى أدخل الله علي الإسلام .

                                                                                              وفي رواية : وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس ، مشى من حمص إلى إيلياء ، شكرا لما أبلاه الله. وقال فيها : من محمد عبد الله ورسوله. وقال: "إثم اليريسيين". وقال: "بداعية الإسلام" .

                                                                                              رواه أحمد ( 1 \ 263 ) والبخاري (4553)، ومسلم (1773)، والترمذي (2717).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (18) ومن باب: كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل

                                                                                              قول أبي سفيان : ( في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ; يعني به : صلح النبي -صلى الله عليه وسلم- مع قريش بالحديبية ، وكانوا تعاقدوا على صلح عشر سنين ، فاستمر ذلك إلى أن نقضت قريش العقد ، فكان ذلك سبب فتح مكة .

                                                                                              و ( دحية ) : يقال بفتح الدال وكسرها . قال ابن السكيت : هو بالكسر لا غير . وقال أبو حاتم : هو بالفتح لا غير . وقال المطرز : الدحى : الرؤساء ، واحدهم : دحية .

                                                                                              قلت : وعلى هذا فالكسر هو الصواب ، كما قال ابن السكيت ; لأن : دحية ، ودحى ، كلحية ، ولحى ، وفدية ، وفدى ، وهو القياس ; لأن نظيره من الصحيح : قربة وقرب ، لكن لا يبعد أن يقال : إنه لما نقل إلى العلمية غير بالفتح ، كما قد فعلت العرب في كثير [ ص: 602 ] من الأعلام .

                                                                                              و ( بصرى ) - بضم الباء- : وهي من مدن الشام ، وهي مدينة حوران . و (الترجمان) : هو المعبر عن القوم . يقال : بضم التاء وفتحها. و ( هرقل ) - بكسر الهاء ، وفتح الراء ، وسكون القاف- : وهو اسم لكل ملك للروم ، كالنجاشي : اسم لكل ملك للحبشة . وكسرى : اسم لكل ملك للفرس . وقد قدمنا هذا في كتاب : الجنائز .

                                                                                              قلت : إذا تأملت هذا الحديث علمت فطنة هذا الرجل ، وجودة قريحته ، وحسن نظره ، وسياسته ، وتثبته . وأنه علم صحة نبوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وصدقه . غير أنه ظهر منه بعد هذا ما يدل : على أنه لم يؤمن ، ولم ينتفع بذلك العلم الذي حصل له ، فإنه هو الذي جيش الجيوش على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وقاتلهم ، وألب عليهم ، ولم يقصر في تجهيز الجيوش عليهم ، وإرساله إليهم الجموع العظيمة من الروم وغيرهم الكرة بعد الكرة ، فيهزمهم الله ، ويهلكهم ، ولا يرجع إليهم منهم إلا فلهم ، واستمر على ذلك إلى أن مات ، وقد فتح الله على المسلمين أكثر بلاد الشام ، ثم ولي ولده بعده ، وعليه فتحت جميع البلاد الشامية ، وبهلاكه هلكت المملكة الرومية .

                                                                                              [ ص: 603 ] وقوله : ( فإن كذبني فكذبوه ) ; كذبني- بفتح الذال ، وتخفيفها ، وبالنون- : يعني : أنه إن كذب لي فأظهروا كذبه ، وهو مما يعدى بحرف الجر وبغيره ، يقال : كذبته ، وكذبت له . و (كذبوه) - مشدد الذال- ; أي : عرفوني بكذبه ، وأظهروا كذبه ، ولذلك أجلس أصحابه خلفه . وإنما سأل عن أقربهم نسبا منه ; لأنه أعلم بدخلة أمر صاحبه في غالب الحال . وهذه كلها التفاتات من هرقل تدل على قوة عقله .

                                                                                              وقول أبي سفيان : ( وايم الله ) هي كلمة محذوفة من (ايمن الله) تستعملها العرب اسما مرفوعا في القسم على الابتداء ، والخبر محذوف . وقد اختلف النحويون فيها . هل هي : اسم مفرد همزته همزة وصل ، وإنما فتحت همزته لأنه غير منصرف ، فخالف جميع همزات الوصل ، وهو مذهب سيبويه؟ أو هل هي : جمع يمين ، وهمزته همزة قطع ; لأنها همزة جمع . وهو قول الفراء ، وهي عنده جمع يمين؟ وقول سيبويه أشبه ، بدليل : أنهم كسروا همزتها ، وأنهم تصرفوا فيها بلغات مختلفة ، منها : ايمن بالكسر ، وبالفتح : ايمن . وبحذف النون والهمزة وضم الميم من (م الله) وكسرها . وقد أبدل بعضهم من الهمزة (هاء) ، فقال : هيمن الله . وهذا النحو من التصرف لم تفعله العرب في صيغ الجموع .

                                                                                              وقوله : ( لولا أن يؤثر علي الكذب لكذبت عليه ) ; يعني : لولا أن يتحدث وينقل عنه الكذب . وإنما وقع له هذا في ذلك الوقت لشدة عداوته للنبي -صلى الله عليه وسلم- [ ص: 604 ] وحسده ، وحرصه على إطفاء نوره ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره . وفيه ما يدل: على أن الكذب مذموم في الجاهلية ، والإسلام ، وأنه ليس من خلق الكرام .

                                                                                              و (الحسب) : الشرف . والحسيب من الرجال : هو الذي يحسب لنفسه آباء أشرافا ومآثر جميلة . وهو من الحساب ، وهو العدد .

                                                                                              و (السجال) مصدر : ساجله ، يساجله ، سجالا : إذا ناوبه ، وقاومه . وأصله من السجل : وهو : الدلو العظيمة التي لا يستقل واحد برفعها من البئر . وقد فسر معناه بقوله : يصيب منا ، ونصيب منه .

                                                                                              وقوله : ( والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة ) ; يعني : أنه كان يعلم من خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الوفاء ، والصدق ، وأنه يفي بما عاهدهم عليه ، لكن لما كان المستقبل غير حاصل في وقته ذلك لبس بتطريق الاحتمال ، تمويها بما يعلم خلافه .

                                                                                              وقول هرقل في الضعفاء : ( هم أتباع الرسل ) ، إنما كان ذلك لاستيلاء الرئاسة على الأشراف ، وصعوبة الانفكاك عنها ، والأنفة من الانقياد للغير ، والضعيف خلي عن تلك الموانع ، وهذا غالب أحوال أهل الدنيا ، وإلا فقد ظهر أن السباق [ ص: 605 ] للإسلام كانوا أشرافا في الجاهلية والإسلام ، كأبي بكر ، وعمر ، وحمزة ، وغيرهم من الكبراء والأشراف.

                                                                                              وقوله : ( وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها ) ; إنما كان ذلك لما خص الله به الأشراف من مكارم الأخلاق ، والتباعد عن سفسافها . والصدق والأمانة ، ولتنجذب النفوس إليهم ، فإن الأبصار مع الصور ، وأقل ما في الوجود إدراك البصائر .

                                                                                              وقوله : ( وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب ) ; هكذا وقعت هذه الرواية هنا ، وفي البخاري : (حين تخالط بشاشته القلوب) ، وهي أوضح . وأصل البشاشة : التلطف والتأنس عند اللقاء . يقال : بش به ، وبشبش. ومعنى هذا : أن القلوب المنشرحة إذا سمعت الإيمان ، وأصغت إليه بشت له ، ورحبت بلقائه ، كما يفعل بالغائب عن اللقاء ، ثم إذا حل الإيمان في القلب انكشفت له محاسنه ، وتوالت عليه أنواره ، حتى يكره أن يعود في الكفر ، كما يكره أن يقذف في النار .

                                                                                              [ ص: 606 ] وقوله : ( وكذلك الرسل تبتلى ، ثم تكون لهم العاقبة ) ; ابتلاء الرسل بنحو ما ذكر إنما هو ترفيع لدرجاتهم ، وستر لأحوالهم ، حتى لا يصير العلم بهم ضروريا . والله تعالى أعلم .

                                                                                              و ( العاقبة ) : العقبى : الخاتمة الحسنة .

                                                                                              وقوله : ( هل قال هذا القول أحد قبله ؟) يعني : من عرب قومه ، وإلا فالرسل كثير ، وقد كان في العرب غير قومه رسل ، كهود ، وصالح ، كما ذكر في حديث أبي ذر ، ولذلك قال تعالى : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [يس: 6] ; أي : لم يبعث في آبائهم المشهورين عندهم رسول ينذرهم . وهو قول المحققين من المفسرين . وقد دل عليه قوله تعالى في آية أخرى : لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك

                                                                                              و ( الصلة ) : يعني بها : صلة الأرحام . و ( العفاف ) يعني به : عن الفواحش .

                                                                                              وقوله : ( إن يكن ما تقول حقا فإنه نبي ) ; هذا الكلام محذوف المقدمة الاستثنائية لدلالة الكلام عليها ، وتقديرها : لكن ما تقول حق فهو نبي . ويدل [ ص: 607 ] على أن هذا مراده قطعا الذي بعده فإنه قطع فيه بنبوته ، فتأمله .

                                                                                              وقوله : ( وقد كنت أعلم أنه خارج ) ; أي : بما في الكتب التي اطلع عليها ، والبشائر به ، والإخبار بمجيئه ، ووقته ، وعلاماته .

                                                                                              وقوله : ( ولم أكن أظن أنه منكم ) ; كأنه استبعد أن يكون نبي من العرب ، لما كانوا عليه من الأعمال الجاهلية ، والطبيعة الأمية ، والحالة الضعيفة الزرية ، وتمسكا بكثرة الرسل في الملة الإسرائيلية ، وقد كان كل ذلك ، لكن جبر الله صدع هذه الأمة ; بأن اختصهم بهذا الرسول العظيم ; الذي شرفهم به ، وكرمهم حتى صيرهم خير أمة ، والحمد لله على هذه النعمة .

                                                                                              وقوله : ( ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ) ; هكذا جاءت هذه الرواية عند جميع رواة مسلم ، وفيها بعد . وأوضح منها ما جاء في البخاري : (لتجشمت لقاءه) ; أي : لتكلفت ذلك على مشقة.

                                                                                              وقوله : ( ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ) ; أي : إكراما ، واحتراما ، وخدمة .

                                                                                              وقوله : ( وليبلغن ملكه ما تحت قدمي ) ; يعني بذلك أرضه التي كان فيها ، ومملكته التي كان عليها . وكذلك كان . وهذا منه تحقيق لنبوته -صلى الله عليه وسلم- ، وعلم بما يفتح الله عليه ، وبما ينتهي إليه أمره . ومع ذلك ففي البخاري : أنه استمر على كفره ، فنعوذ بالله من علم لا ينفع .

                                                                                              [ ص: 608 ] وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الكتاب الذي كتبه إليه : ( إلى هرقل عظيم الروم ) ; أي الذي تعظمه الروم ، وهو مفاتحته بخطاب استلطاف ، ويقتضي التأنيس ، والاستئلاف ، مع أنه حق في نفسه ، فإنه كان معظما في الروم ، وكان أعظم ملوكهم .

                                                                                              وقوله : ( سلام على من اتبع الهدى ) ; عدول عن السلام عليه ; لأن الكافر لا يفاتح بالسلام إلى التعريض له باتباع طريق الهداية ، وقد رأى بعض أهل العلم : أن السلام على أهل الكفر والبدع هكذا يكون.

                                                                                              و ( دعاية الإسلام ) بكسر الدال ، وهي في أصلها : مصدر : دعا ، يدعو ، دعوة . ودعاية ، كرمى ، يرمي ، رمية ، ورماية ، وشكا ، يشكو ، شكوة ، وشكاية . ويعني بها هنا : كلمتي الإسلام ، وهي : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله . وأما رواية : (داعية) فهي صفة للكلمة المحذوفة ، فكأنه قال : بالكلمة الداعية للإسلام .

                                                                                              وقوله : ( أسلم تسلم ) ; يعني : ادخل في دين الإسلام تسلم في الدنيا من الخزي وفي الآخرة من العذاب ، وهو من التجنيس البديع .

                                                                                              وقوله : ( يؤتك الله أجرك مرتين ) ; يعني : باتباعه لدين عيسى - عليه السلام- ، وباتباعه لدين محمد -صلى الله عليه وسلم- ، وهذا كقوله -عليه الصلاة والسلام - : (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ، ثم أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- فآمن به واتبعه ، فله أجران) .

                                                                                              قلت : وهذا إنما يتحصل للكتابي إذا كان متبعا لدين نبيه في الاعتقاد الصحيح ، والعمل على مقتضى شريعته . أما لو اعتقد في عيسى ، أو في الله تعالى ما لم تجئ به شريعته ، فلا يحصل له أجران إذا أسلم ، بل أجر الإسلام خاصة ; [ ص: 609 ] لأنه لم يكن على شريعة عيسى ، ولا على غيرها ، فلم يتبعه ، فلا يحصل له أجر .

                                                                                              وقوله : ( فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ) ; يروى : الأريسيين بالهمزة ، وبالياء مكان الهمزة ، فأما بالهمزة : فقيل : هم الملوك ، وقيل : الأكارون ، وهم الفلاحون . قال ابن الأعرابي : أرس ، يأرس ، أرسا : إذا صار ريسا . فيكون معناه : إن أعرض عن الدخول في الإسلام كان عليه إثم من اتبعه من رؤساء مملكته ورعاياه . قال أبو عبيد : ليس الفلاحون الزراعون فقط ، لكن أراد بهم جميع أهل مملكته ; لأن كل من يزرع عند العرب فلاح . وأما من رواه بالياء ، فقد قيل فيه ما تقدم ، فتكون لغتين . وقال بعضهم : يكون من التبختر . يقال : راس ، يريس ، ريسا ، وريسانا : إذا تبختر . وراس يروس ، روسا ، أيضا.

                                                                                              قلت : وعلى هذا فيكون المراد به : أن عليه إثم من تكبر على الحق ، ولم يدخل فيه من أهل مملكته .

                                                                                              ( أهل الكتاب ) : اليهود ، والنصارى ، نسبوا إلى الكتابين المنزلين على موسى وعيسى عليهما السلام . ( تعالوا ) بمعنى : أجيبوا إلى ما دعيتم إليه . وهو الكلمة العادلة المستقيمة ، التي ليس فيها ميل عن الحق ، وقد فسرها بقوله : ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله [آل عمران: 64] ( أرباب ) جمع : رب . وقد تقدم تفسيره. و ( دون ) : هنا بمعنى : غير . فإن تولوا أعرضوا عما دعوا إليه . فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ; أي : متصفون بدين الإسلام ، منقادون لأحكامه ، معترفون بما لله علينا في ذلك من المنن ، والإنعام.

                                                                                              [ ص: 610 ] وفيه دليل : على جواز مس الجنب ، والكافر كتب التفسير والفقه ، وإن كان فيها قرآن ، لأن القرآن فيها تابع لغيره ، فجاء ضمنا بخلاف ما إذا كان القرآن وحده ; فلا يجوز للجنب ولا للكافر أن يمسا منه شيئا ، قليلا كان أو كثيرا ، ومن هنا قال مالك - رحمه الله - : إن المصحف إذا كان في عدل أو خرج ليس مخصوصا بالمصحف جاز للجنب ، والنصراني أن يحملاه في خرجه ، أو عدله ، وأما جواز قراءة الجنب الآيات اليسيرة للتعوذ ، فلا يستمرأ من هذا الحديث ، فتأمله ، واللغط : اختلاف الأصوات ، واختلاطها ، وهو السخب أيضا ، كما وقع في البخاري .

                                                                                              وقول أبي سفيان : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ،إنه ليخافه ملك بني الأصفر أمر أي : علا وعظم ، وهو من : أمر القوم : إذا كثروا ، ومنه قوله تعالى : أمرنا مترفيها [الإسراء: 16] فيمن قرأه بالتخفيف على أحد الوجوه ، ونسبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن أبي كبشة ، قال فيه أبو الحسن الجرجاني النسابة : نسبتهم إياه لابن أبي كبشة عداوة له إذ لم يمكنهم الطعن في نسبه الشهير ، وكان وهب بن عبد مناف بن زهرة جده أبو أمه يكنى أبا كبشة ، وكذلك عمرو بن زيد بن أسد النجاري أبو سلمى أم عبد المطلب كان يدعى أبا كبشة ، وكذلك أيضا في أجداده من قبل أمه أبو كبشة جز بن غالب بن الحارث ، وهو أبو قيلة أم وهب بن عبد مناف أبي آمنة أمه - صلى الله عليه وسلم - وهو خزاعي ، وهو الذي كان يعبد الشعرى وكان أبوه من الرضاعة يدعى [ ص: 611 ] أبا كبشة وهو الحارث بن عبد العزى السعدي ، وقال مثل هذا كله محمد بن حبيب البغدادي ، وزاد أبو نصر بن ماكولا ، وقال : أبو كبشة : عمرو والد حليمة مرضعته ، وقيل : إنما نسبوه لأبي كبشة لأنه خرج من دين العرب ، كما فعل أبو كبشة الذي عبد الشعرى العبور ، وإنما عبدها ، لأنه رآها تقطع السماء عرضا بخلاف سائر النجوم .

                                                                                              وفي تسمية الروم بـ ( بني الأصفر ) قولان) .

                                                                                              أحدهما : ما قاله ابن الأنباري : أن جيشا من الحبشة غلبوا على ناحيتهم في بعض الدهر فوطئوا نساءهم ، فولدن أولادا صفرا .

                                                                                              والثاني : قاله أبو إسحاق الحربي ، وهو أنهم نسبوا إلى الأصفر بن الروم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم . وهذا أشبه من القول الأول .

                                                                                              وقوله : ( شكرا لما أبلاه ) ; أي : أنعم عليه. وأصل الابتلاء : الاختبار . وفيه لغتان : ثلاثيا ، ورباعيا . يقال : بلا ، وأبلى . وقد جمع بينهما زهير فقال :


                                                                                              ................ وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

                                                                                              وقيل : (أبلى) في الخير ، و (بلا) في الشر . والأول أشهر.




                                                                                              الخدمات العلمية