الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية : قوله تعالى : { هذه الشجرة } : اختلف الناس كيف أكل آدم من الشجرة على خمسة أقوال : الأول : أنه أكلها سكران

                                                                                                                                                                                                              قاله سعيد بن المسيب .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنه أكل من جنس الشجرة لا من عينها ، كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر ، وهي أول معصية عصى الله بها على هذا القول فاجتنبوه ; فإن في اتباع الظاهر على وجهه هدم الشريعة حسبما بيناه في غير ما موضع ، وخصوصا في كتاب النواهي عن الدواهي .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 30 ] الثالث : أنه حمل النهي على التنزيه دون التحريم .

                                                                                                                                                                                                              الرابع : أنه أكل متأولا ; لرغبة الخلد ، ولا يجوز تأويل ما يعود على المتأول بالإسقاط .

                                                                                                                                                                                                              الخامس : أنه أكل ناسيا .

                                                                                                                                                                                                              فأما القول الأول بأنه أكلها سكران : فتعلق به بعض الناس في أن أفعال السكران معتبرة في الأحكام والعقوبات ، وأنه لا يعذر في فعل ; بل يلزمه حكم كل فعل ، كما يلزم الصاحي ، كما ألزم الله تعالى آدم حكم الخلاف في المعصية مع السكر .

                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف علماؤنا في أفعال السكران على ثلاثة أقوال : أحدهما : أنها معتبرة .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنها لغو .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أن العقود غير معتبرة كالنكاح ، وأن الحل معتبر كالطلاق ، ولذا إذا أكل من جنسها فدليل على أنه إذا حلف ألا يأكل من هذا الخبز فأكل من جنسه حنث .

                                                                                                                                                                                                              وتحقيق المذاهب فيه أن أكثر العلماء قالوا : لا حنث عليه .

                                                                                                                                                                                                              وقال مالك وأصحابه : إن اقتضى بساط اليمين تعيين المشار إليه لم يحنث بأكل جنسه ، وإن اقتضى بساط اليمين أو سببها أو نيتها الجنس حمل عليه ، وحنث بأكل غيره ، وعليه حملت قصة آدم ; فإنه نهي عن شجرة عينت له ، وأريد به جنسها ، فحمل القول على اللفظ دون المعنى كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف علماؤنا في فرع من هذا ، وهو أنه إذا حلف ألا يأكل هذه الحنطة فأكل خبزا منها على قولين : فقال في الكتاب : إنه يحنث ; لأنها هكذا تؤكل .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 31 ] وقال ابن المواز : لا شيء عليه ; لأنه لم يأكل حنطة ، وإنما أكل خبزا ، فراعى الاسم والصفة .

                                                                                                                                                                                                              ولو قال في يمينه : لا آكل من هذه الحنطة لحنث بأكل الخبز المعمول منها .

                                                                                                                                                                                                              وأما حمل النهي على التنزيه فهي وإن كانت مسألة من أصول الفقه وقد بيناها في موضعها ، فقد سقط ذلك هاهنا فيها لقوله تعالى : { فتكونا من الظالمين } فقرن النهي بالوعيد ; ولا خلاف مع ذلك فيه .

                                                                                                                                                                                                              وكيف يصح أن يقال له لا تأكلها فتكون من الظالمين ، ويرجو أن يكون من الخالدين ؟ وأما قوله : إنه أكلها ناسيا فسيأتي في سورة طه إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                              التنقيح : أما القول بأن آدم أكلها سكران ففاسد نقلا وعقلا : أما النقل فلأن هذا لم يصح بحال ، وقد نقل عن ابن عباس : " أن الشجرة التي نهي عنها الكرم " ، فكيف ينهى عنها ويوقعه الشيطان فيها ، وقد وصف الله خمر الجنة بأنها لا غول فيها ، فكيف توصف بغير صفتها التي أخبر الله تعالى بها عنها في القرآن .

                                                                                                                                                                                                              وأما العقل ; فلأن الأنبياء بعد النبوة منزهون عما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم .

                                                                                                                                                                                                              وأما سائر التوجيهات فمحتملة ، وأظهرها الثاني ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية