الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله : ( مالك يوم الدين ) .

قال أبو جعفر : القراء مختلفون في تلاوة ( ملك يوم الدين ) . فبعضهم يتلوه " ملك يوم الدين " ، وبعضهم يتلوه ( ملك يوم الدين ) وبعضهم يتلوه ( مالك يوم الدين ) بنصب الكاف . وقد استقصينا حكاية الرواية عمن روي عنه في ذلك قراءة في " كتاب القراءات " ، وأخبرنا بالذي نختار من القراءة فيه ، والعلة الموجبة صحة ما اخترنا من القراءة فيه ، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع ، إذ كان الذي قصدنا له ، في كتابنا هذا ، البيان عن وجوه تأويل آي القرآن ، دون وجوه قراءتها .

ولا خلاف بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب ، أن الملك من "الملك " [ ص: 149 ] مشتق ، وأن المالك من "الملك " مأخوذ . فتأويل قراءة من قرأ ذلك : ( ملك يوم الدين ) ، أن لله الملك يوم الدين خالصا دون جميع خلقه ، الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكا جبابرة ينازعونه الملك ، ويدافعونه الانفراد بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية . فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الصغرة الأذلة ، وأن له - من دونهم ، ودون غيرهم - الملك والكبرياء ، والعزة والبهاء ، كما قال جل ذكره وتقدست أسماؤه في تنزيله : ( يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) سورة غافر : 16 . فأخبر تعالى ذكره أنه المنفرد يومئذ بالملك دون ملوك الدنيا ، الذين صاروا يوم الدين من ملكهم إلى ذلة وصغار ، ومن دنياهم في المعاد إلى خسار .

وأما تأويل قراءة من قرأ : ( مالك يوم الدين ) ، فما : -

166 - حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس : ( مالك يوم الدين ) ، يقول : لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما كملكهم في الدنيا . ثم قال : ( لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) سورة النبأ : 38 وقال : ( وخشعت الأصوات للرحمن ) سورة طه : 108 . وقال : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) سورة الأنبياء : 28 .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالآية ، وأصح القراءتين في التلاوة عندي ، [ ص: 150 ] التأويل الأول ، وهي قراءة من قرأ "ملك " بمعنى "الملك " . لأن في الإقرار له بالانفراد بالملك ، إيجابا لانفراده بالملك ، وفضيلة زيادة الملك على المالك ، إذ كان معلوما أن لا ملك إلا وهو مالك ، وقد يكون المالك لا ملكا .

وبعد ، فإن الله جل ذكره ، قد أخبر عباده في الآية التي قبل قوله ( ملك يوم الدين ) أنه مالك جميع العالمين وسيدهم ، ومصلحهم ، والناظر لهم ، والرحيم بهم في الدنيا والآخرة ، بقوله : ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ) .

وإذ كان جل ذكره قد أنبأهم عن ملكه [ ص: 151 ] إياهم كذلك بقوله : ( رب العالمين ) ، فأولى الصفات من صفاته جل ذكره أن يتبع ذلك ما لم يحوه قوله ( رب العالمين الرحمن الرحيم ) ، مع قرب ما بين الآيتين من المواصلة والمجاورة ، إذ كانت حكمته الحكمة التي لا تشبهها حكمة ، وكان في إعادة وصفه جل ذكره بأنه ( مالك يوم الدين ) ، إعادة ما قد مضى من وصفه به في قوله ( رب العالمين ) ، مع تقارب الآيتين وتجاوز الصفتين . وكان في إعادة ذلك تكرار ألفاظ مختلفة بمعان متفقة ، لا تفيد سامع ما كرر منه فائدة به إليها حاجة . والذي لم يحوه من صفاته جل ذكره ما قبل قوله : ( مالك يوم الدين ) ، المعنى الذي في قوله : ( ملك يوم الدين ) ، وهو وصفه بأنه الملك .

فبين إذا أن أولى القراءتين بالصواب ، وأحق التأويلين بالكتاب ، قراءة من قرأه ( ملك يوم الدين ) ، بمعنى إخلاص الملك له يوم الدين ، دون قراءة من قرأ ( مالك يوم الدين ) الذي بمعنى أنه يملك الحكم بينهم وفصل القضاء ، متفردا به دون سائر خلقه .

فإن ظن ظان أن قوله ( رب العالمين ) نبأ عن ملكه إياهم في الدنيا دون الآخرة ، يوجب وصل ذلك بالنبأ عن نفسه أنه : من ملكهم في الآخرة على نحو ملكه إياهم في الدنيا بقوله ( مالك يوم الدين ) - فقد أغفل وظن خطأ .

وذلك أنه لو جاز لظان أن يظن أن قوله ( رب العالمين ) محصور معناه على الخبر عن ربوبية عالم الدنيا دون عالم الآخرة ، مع عدم الدلالة على أن معنى ذلك كذلك في ظاهر التنزيل ، أو في خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم به منقول ، أو بحجة موجودة في المعقول - لجاز لآخر أن يظن أن ذلك محصور على عالم الزمان الذي فيه نزل قوله ( رب العالمين ) ، دون سائر ما يحدث بعده في الأزمنة الحادثة من العالمين . إذ كان صحيحا بما قد قدمنا من البيان ، أن عالم كل زمان غير عالم الزمان الذي بعده .

فإن غبي - عن علم صحة ذلك بما قد قدمنا - ذو غباء ، فإن في قول الله جل ثناؤه : ( ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين ) سورة الجاثية : 16 دلالة واضحة على أن عالم كل زمان ، غير عالم الزمان الذي كان قبله ، وعالم الزمان الذي بعده ، إذ كان الله جل ثناؤه قد فضل أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم الخالية ، وأخبرهم بذلك في قوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) الآية سورة آل عمران : 110 . فمعلوم بذلك أن بني إسرائيل في عصر نبينا لم يكونوا - مع تكذيبهم به صلى الله عليه وسلم - أفضل العالمين ، بل كان أفضل العالمين في ذلك العصر وبعده إلى قيام الساعة ، المؤمنون به المتبعون منهاجه ، دون من سواهم من الأمم المكذبة الضالة عن منهاجه .

وإذ كان بينا فساد تأويل متأول لو تأول قوله ( رب العالمين ) أنه معني به [ ص: 152 ] أن الله رب عالمي زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، دون عالمي سائر الأزمنة غيره - كان واضحا فساد قول من زعم أن تأويله : رب عالم الدنيا دون عالم الآخرة ، وأن "مالك يوم الدين " استحق الوصل به ليعلم أنه في الآخرة من ملكهم وربوبيتهم بمثل الذي كان عليه في الدنيا .

ويسأل زاعم ذلك ، الفرق بينه وبين متحكم مثله - في تأويل قوله ( رب العالمين ) ، تحكم فقال : إنه إنما عنى بذلك أنه رب عالمي زمان محمد صلى الله عليه وسلم ، دون عالمي غيره من الأزمان الماضية قبله ، والحادثة بعده ، كالذي زعم قائل هذا القول : أنه عنى به عالمي الدنيا دون عالمي الآخرة - من أصل أو دلالة . فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله .

وأما الزاعم أن تأويل قوله ( مالك يوم الدين ) أنه الذي يملك إقامة يوم الدين ، فإن الذي ألزمنا قائل هذا القول الذي قبله - له لازم . إذ كانت إقامة القيامة ، إنما هي إعادة الخلق الذين قد بادوا لهيئاتهم التي كانوا عليها قبل الهلاك ، في الدار التي أعد الله لهم فيها ما أعد . وهم العالمون الذين قد أخبر جل ذكره عنهم أنه ربهم في قوله ( رب العالمين ) .

وأما تأويل ذلك في قراءة من قرأ ( مالك يوم الدين ) ، فإنه أراد : يا مالك يوم الدين ، فنصبه بنية النداء والدعاء ، كما قال جل ثناؤه : ( يوسف أعرض عن هذا ) سورة يوسف : 29 بتأويل : يا يوسف أعرض عن هذا ، وكما قال الشاعر من بني أسد ، وهو شعر - فيما يقال - جاهلي :


إن كنت أزننتني بها كذبا جزء ، فلاقيت مثلها عجلا

[ ص: 153 ]

يريد : يا جزء ، وكما قال الآخر :


كذبتم وبيت الله لا تنكحونها     بني شاب قرناها تصر وتحلب



يريد : يا بني شاب قرناها . وإنما أورطه في قراءة ذلك - بنصب الكاف من "مالك " ، على المعنى الذي وصفت - حيرته في توجيه قوله : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وجهته ، مع جر ( مالك يوم الدين ) وخفضه . فظن أنه لا يصح معنى ذلك بعد جره ( مالك يوم الدين ) ، فنصب : "مالك يوم الدين " ليكون ( إياك نعبد ) له خطابا . كأنه أراد : يا مالك يوم الدين ، إياك نعبد وإياك نستعين . ولو كان علم تأويل أول السورة ، وأن "الحمد لله رب العالمين " أمر من الله عبده بقيل ذلك - كما ذكرنا قبل من الخبر عن ابن عباس : أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى ذكره : قل يا محمد ، ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ) ، وقل أيضا يا محمد : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) - وكان عقل عن العرب أن من شأنها إذا حكت أو أمرت بحكاية خبر يتلو القول ، أن تخاطب ثم تخبر عن غائب ، وتخبر عن الغائب ثم تعود إلى الخطاب ، لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب والمخاطب ، كقولهم للرجل : قد قلت لأخيك : لو قمت لقمت ، وقد قلت لأخيك : لو قام لقمت - لسهل عليه مخرج ما استصعب عليه وجهته من جر "مالك يوم الدين " . [ ص: 154 ]

ومن نظير "مالك يوم الدين " مجرورا ، ثم عوده إلى الخطاب ب "إياك نعبد " ، لما ذكرنا قبل - البيت السائر من شعر أبي كبير الهذلي :


يا لهف نفسي كان جدة خالد     وبياض وجهك للتراب الأعفر



فرجع إلى الخطاب بقوله : " وبياض وجهك " ، بعد ما قد مضى الخبر عن خالد على معنى الخبر عن الغائب .

ومنه قول لبيد بن ربيعة :


باتت تشكى إلي النفس مجهشة     وقد حملتك سبعا بعد سبعينا



فرجع إلى مخاطبة نفسه ، وقد تقدم الخبر عنها على وجه الخبر عن الغائب .

ومنه قول الله ، وهو أصدق قيل وأثبت حجة : ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ) سورة يونس : 22 ، فخاطب ثم رجع إلى الخبر عن الغائب ، ولم يقل : وجرين بكم . والشواهد من الشعر وكلام العرب في ذلك أكثر من أن تحصى ، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه .

فقراءة : " مالك يوم الدين " محظورة غير جائزة ، لإجماع جميع الحجة من القراء وعلماء الأمة على رفض القراءة بها .

التالي السابق


الخدمات العلمية