الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : كيفية غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب

                                                                                                                                            قال الشافعي رضي الله عنه : " ويغسل منه الإناء سبع مرات أولاهن بتراب كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال إذا نجس الإناء بولوغ الكلب وجب غسله سبع مرات فيهن مرة بالتراب ، وبه قال مالك وداود . وقال أبو حنيفة يغسل ثلاثا بغير تراب كسائر الأنجاس استدلالا برواية عبد الوهاب بن الضحاك عن إسماعيل بن عياش عن هشام بن عروة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الكلب يلغ في الإناء يغسل ثلاثا أو خمسا أو سبعا . قال : فلو كان السبع واجبا لم يخير بينه وبين الثلاث ، وروى عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة أنه قال : إذا ولغ الكلب في إناء فأهرقه ثم اغسله ثلاث مرات ، قال : ولأنها نجاسة يجب إزالتها فوجب أن يكون العدد غير مستحق فيها كسائر الأنجاس ، قال : ولأن كل عدد لا مدخل له في رفع الحدث لم يكن له مدخلا في إزالة النجس قياسا على ما زاد على السبع ، قال : ولو كان غسله سبعا واجبا لما صار الإناء بإلقائه في النهر طاهرا ، وقد اتفقوا على أنه يطهر فدل على أن السبع لا تجب .

                                                                                                                                            [ ص: 307 ] ودليلنا رواية الشافعي عن سفيان عن أيوب عن أبي تميم عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن أو آخرهن بالتراب " . وروى مطرف عن عبد الله بن المغفل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسله سبع مرات وعفروا الثامنة بالتراب " .

                                                                                                                                            وروى هبيرة عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالبطحاء " .

                                                                                                                                            وكل هذه نصوص فدل على ما قلناه فإن قالوا يحمل أمره بالسبع على من غلب على ظنه ، أن نجاسة الولوغ لا تزول بأقل من سبع فعنه جوابان .

                                                                                                                                            أحدهما : أن نجاسة الولوغ ليست عينا مؤثرة فيرجع في زوالها إلى غلبة الظن فيها .

                                                                                                                                            والثاني : أن ما كان معتبرا بغلبة الظن لم يجز أن يكون محدودا بالشرع فالشرع كالتقويم في المتلفات فإن قالوا : فيحمل السبع على الاستحباب ، والثلاث على الإيجاب ، لأن أبا هريرة - وهو راوي الحديث - قد أفتى بالثلاث ، وهو لا يجوز أن يفتي بخلاف ما روى إلا وقد عقل معنى الرواية وصرفها عن الإيجاب إلى الاستحباب ، كما حملتم حديث ابن عمر على تفريق الأبدان : لأن ابن عمر فسره بذلك . قلنا : تفسير الراوي مقبول في أحد محتملي الخبر كما يقبل تفسير الراوي من الصحابة ، فأما أن يقبل في نسخ أو تخصيص فلا ، كما لم [ ص: 308 ] يقبل تخصيص ابن عباس لقوله : " من بدل دينه فاقتلوه " في إخراج النساء من الجملة ، وحديث الولوغ مفسر لا يفتقر إلى تفسير راو ولا غيره فوجب حمله على ظاهره ، وأما المعنى : وإن لم يكن القياس فيها قويا فهو أنه تطهير شرعي في شيء غير مرئي فوجب أن يكون العدد فيه معتبرا كالأعضاء الأربعة في الطهارة ، ولأنه أحد نوعي الطهارة فجاز أن يكون العدد معتبرا فيه الحدث ، ولأن كل عدد ورد الشرع به في الولوغ كان مستحقا كالثلاث ، ولا ما اختص بالفم من الأنجاس كان مغلظا من بين سائر النجاسات كالخمر في اختصاص شربه يوجب الحد .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قوله : " يغسل ثلاثا أو خمسا أو سبعا فهو أنه ضعيف الإسناد : لأن عبد الوهاب بن الضحاك متروك الحديث وإسماعيل بن عياش فقد روى بهذا الإسناد أنه قال : فاغسلوه سبعا على أنه لو صح لم يكن فيه دليل : لأن الأمر فيه بالسبع كالأمر بالثلاث فلم يكن حمل الثلاث على الإيجاب دون السبع بأولى من حمل السبع على الإيجاب دون الثلاث : لأنه محمول على الاستدلال كقوله : علي درهم بل ثلاثة ، وتكون أو بمعنى الواو كما قال تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون معناه ويزيدون .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن فتيا أبي هريرة بالثلاث فهو أنها متروكة بروايته : لأن فتياه إذا تعذرت فليست بحجة ، وروايته إذا انفردت حجة ، أو تكون محمولة على إناء غسل أربعا ، وبقي من السبع ثلاث فأفتى بالثلاث استكمالا للسبع ، وأما قياسهم على سائر الأنجاس فهو قياس يرفع النص ، فكان مردودا ، ثم المعنى في الولوغ أنه غلظ من بين جنسه ، وأما قياسهم على ما زاد على السبع ، فهو قياس يدفعه النص في الفرق بين الحالين ثم الأنجاس أغلظ من الأحداث لما ورد به الشرع من ذكر العدد فيها ، ثم هم مختلفون في العدد الذي اعتبروه من الثلاث ، فبعض أصحابهم يجعل الثلاث استحبابا ، وبعضهم يجعلها واجبا ، فكذلك جعلنا العدد تارة أصلا على قول من أوجبه ، وتارة فرعا على قول من استحبه ، وأما استدلالهم بإلقاء الإناء في نهر [ فقد اختلف أصحابنا في نجاسة الإناء إذا ألقي في نهر ] أو بحر على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي العباس بن سريج أنه لا يطهر ، ويقوم ذلك مقام غسله مرة واحدة ، فلزم غسله بعد ذلك ست مرات منهن واحدة بالتراب ، فعلى هذا يسقط الاستدلال .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه يطهر ويصير كأن الكلب ولغ فيه وهو كثير الماء لا ينجس بالولوغ ، لأن العدد والتراب معتبر في الماء الذي يلقى فيه ويخرج منه ، فإذا عدل إلى غيره صار بمثابة العادل عن الوضوء إلى الغسل في سقوط الترتيب عنه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية