الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 120 ] المسألة الثانية عشرة

              لما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك; لأنه مقصود الشارع فيها كما تبين ، فإذا كان الأمر في ظاهره ، وباطنه على أصل المشروعية ، فلا إشكال ، وإن كان الظاهر موافقا والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح ، وغير مشروع; لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها ، [ ص: 121 ] وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها ، وهي المصالح التي شرعت لأجلها فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات .

              فنحن نعلم أن النطق بالشهادتين والصلاة ، وغيرهما من العبادات إنما شرعت للتقرب بها إلى الله والرجوع إليه ، وإفراده بالتعظيم والإجلال ، ومطابقة القلب للجوارح في الطاعة والانقياد ، فإذا عمل بذلك على قصد نيل حظ من حظوظ الدنيا من دفع ، أو نفع كالناطق بالشهادتين قاصدا لإحراز دمه ، وماله لا لغير ذلك ، أو المصلي رئاء الناس ليحمد على ذلك ، أو ينال به رتبة في الدنيا فهذا العمل ليس من المشروع في شيء; لأن المصلحة التي شرع لأجلها لم تحصل ، بل المقصود به ضد تلك المصلحة ، وعلى هذا نقول في الزكاة مثلا : إن المقصود بمشروعيتها رفع رذيلة الشح ، ومصلحة إرفاق المساكين ، وإحياء النفوس المعرضة للتلف ، فمن وهب [ ص: 122 ] في آخر الحول ماله هروبا من وجوب الزكاة عليه ، ثم إذا كان في حول آخر ، أو قبل ذلك استوهبه فهذا العمل تقوية لوصف الشح ، وإمداد له ورفع لمصلحة إرفاق المساكين فمعلوم أن صورة هذه الهبة ليست هي الهبة التي ندب الشرع إليها; لأن الهبة إرفاق ، وإحسان للموهوب له ، وتوسيع عليه غنيا كان ، أو فقيرا وجلب لمودته ، ومؤالفته ، وهذه الهبة على الضد من ذلك ولو كانت على المشروع من التمليك الحقيقي لكان ذلك موافقا لمصلحة الإرفاق والتوسعة ورفعا لرذيلة الشح ، فلم يكن هروبا عن أداء الزكاة .

              فتأمل كيف كان القصد المشروع في العمل لا يهدم قصدا شرعيا ، والقصد غير الشرعي هادم [ ص: 123 ] للقصد الشرعي ، ومثله أن الفدية شرعت للزوجة هربا من أن لا يقيما حدود الله في زوجيتهما ، فأبيح للمرأة أن تشتري عصمتها من الزوج عن طيب نفس منها خوفا من الوقوع في المحظور ، فهذه بذلت مالها طلبا لصلاح الحال بينها ، وبين زوجها ، وهو التسريح بإحسان ، وهو مقصد شرعي مطابق للمصلحة لا فساد فيه حالا ولا مآلا ، فإذا أضر بها لتفتدي منه ، فقد عمل هو بغير المشروع حين أضر بها لغير موجب مع القدرة على الوصول إلى الفراق من غير إضرار ، فلم يكن التسريح إذا طلبته بالفداء تسريحا بإحسان ولا خوفا من أن لا يقيما حدود الله; لأنه فداء مضطر ، وإن كان جائزا لها من جهة الاضطرار والخروج من الإضرار وصار غير جائز له إذ وضع على غير المشروع .

              وكذلك نقول : إن أحكام الشريعة تشتمل على مصلحة كلية في الجملة ، وعلى مصلحة جزئية في كل مسألة على الخصوص .

              أما الجزئية فما يعرب عنها كل دليل لحكم في خاصيته ، وأما الكلية فهي أن يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع حركاته ، وأقواله واعتقاداته ، فلا يكون كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها حتى يرتاض بلجام الشرع ، وقد مر بيان هذا فيما تقدم ، فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب وكل قول وافق فيها هواه ، فقد خلع ربقة التقوى ، وتمادى في متابعة الهوى ، ونقض ما أبرمه الشارع ، وأخر ما قدمه ، وأمثال ذلك كثيرة .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية