الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2209 - مسألة : حد الأمة المحصنة ؟ قال أبو محمد : قال الله تعالى { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } فبيقين ندري أن الله تعالى أراد فإذا تزوجن ووطئن فعليهن نصف ما على الحرائر المحصنات من العذاب ، والحرة المحصنة فإن عليها جلد مائة والرجم ، وبالضرورة ندري أن الرجم لا نصف له ، فبقي عليهن نصف المائة ، فوجب على الأمة المحصنة جلد خمسين فقط .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : فمن أين أوجبتم عليها نفي ستة أشهر ، أمن هذه الآية أم من غيره ؟ فجوابنا - وبالله تعالى التوفيق - : أن القائلين إن على الأمة نفي ستة أشهر قالوا : إن ذلك واجب عليهن من هذه الآية .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : إن " الإحصان " اسم يقع على الحرة المطلقة فقط ، فإن كان هذا كما قالوا فالنفي واجب على الإماء المحصنات من هذه الآية ، لأن معنى الآية : فعليهن نصف ما على الحرائر من العذاب ، وعلى الحرائر هنا من العذاب جلد مائة ، ومعه نفي سنة ، أو رجم ، والرجم ينتصف أصلا ، لأنه موت ، والموت لا نصف له أصلا وكذلك الرجم ، لأنه قد يموت المرجوم من رمية واحدة ، وقد لا يموت من ألف رمية ، وما كان هكذا فلا يمكن ضبط نصفه أبدا ، وإذ لا يمكن هذا فقد أمنا أن يكلفنا الله تعالى ما لا نطيق لقوله تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } .

                                                                                                                                                                                          ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم } أو كما قال عليه السلام ، فسقط الرجم وبقي الجلد والنفي سنة - وكلاهما له نصف ، فعلى الأمة نصف ما على الحرة منها ؟

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : وإن كان " الإحصان " لا يقع في اللغة إلا على الحرة فقط ، فالنفي لا يجب على الإماء من هذه الآية ؟ وما نعلم " الإحصان " في اللغة العربية والشريعة يقع إلا على معنيين : على [ ص: 180 ] الزواج الذي يكون فيه الوطء - فهذا إجماع لا خلاف فيه - وعلى العقد فقط ، ولا نعلمه يقع على الحرة المطلقة فقط ، فلا يجوز أن يقطع في الدين إلا بيقين ; لأنه إخبار عن الله تعالى ، ولا يحل لمن له تقوى أو عقل : أن يخبر عن الله تعالى إلا بيقين ، ولسنا والله نحن كمن يقول : إن الدين مأخوذ بالظنون فقط ، ولكن " النفي " واجب على الإماء إذا زنين من موضع آخر ، وهو الخبر الذي : ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن علية نا يزيد بن هارون نا حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا أصاب المكاتب حدا أو ميراثا ورث بحساب ما عتق منه وأقيم عليه الحد بحساب ما عتق منه } .

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى أحمد بن شعيب أنا محمد بن عيسى الدمشقي نا يزيد بن هارون نا حماد بن سلمة عن أيوب السختياني ، وقتادة ، قال قتادة : عن خلاس بن عمرو عن علي بن أبي طالب ، وقال أيوب : عن عكرمة عن ابن عباس ، ثم اتفقا : علي ، وابن عباس ، كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى ، ويقام عليه الحد بقدر ما عتق منه ، ويرث بقدر ما عتق منه } وهذا إسناد في غاية الصحة ، فوجب ضرورة أن يكون حد الأمة بنسبته من حد الحرة عموما في جميع ما له نصف من حد الحرة ، فوجب ضرورة أن حد الأمة المتزوجة نصف حد الحرة ، من - النفي والجلد - وأن لا يخص من ذلك شيء ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخص من ذلك ، ولا أحد من الأمة أجمع على تخصيصه ، ولا جاء القرآن بتخصيصه ، فوجب نفيها ستة أشهر ، وجلدها خمسون جلدة - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          2210 - مسألة : حد المملوك إذا زنى ، وهل عليه وعلى الأمة المحصنة رجم أم لا ؟ قال أبو محمد : اختلف الناس في المملوك الذكر إذا زنى : فقالت طائفة : إن حده حد الحر من الجلد والنفي والرجم : كما نا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ نا [ ص: 181 ] محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا عبد الله بن إدريس الأودي نا ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال : قدمت المدينة وقد أجمعوا على عبد زنى - وقد أحصن بحرة - أنه يرجم ، إلا عكرمة فإنه قال : عليه نصف الحد .

                                                                                                                                                                                          قال مجاهد : وإحصان العبد أن يتزوج الحرة ، وإحصان الأمة أن يتزوجها الحر - وبهذا يأخذ أصحابنا كلهم .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو ثور : الأمة المحصنة والعبد المحصن عليهما الرجم ، إلا أن يمنع من ذلك إجماع .

                                                                                                                                                                                          وقال الأوزاعي : إذا أحصن العبد بزوجة حرة فعليه الرجم ، وإن لم يعتق ، فإن كان تحته أمة لم يجب عليه الرجم إن زنى وإن عتق - وكذلك قال أيضا : إذا أحصنت الأمة بزوج حر فعليها الرجم ، وإن لم تعتق ، ولا تكون محصنة بزوج عبد .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد : حد العبد المحصن ، وغير المحصن ، والأمة : لا رجم في شيء من ذلك ؟

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك فيما احتج به أصحابنا لقولهم ، فوجدناهم يقولون { الزانية والزاني } الآية .

                                                                                                                                                                                          وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم } .

                                                                                                                                                                                          قالوا : فجاء القرآن والسنة بعموم لا يحل أن يخص منه إلا ما خصه الله تعالى ورسوله عليه السلام ، فوجدنا النص من القرآن والسنة قد صح بتخصيص الإماء من جملة هذا الحكم بأن على المحصنات منهن نصف ما على المحصنات الحرائر ، وكذلك النص الوارد في الأمة التي لم تحصن ، فخصصنا الإماء بالقرآن والسنة ، وبقي العبد { وما كان ربك نسيا } .

                                                                                                                                                                                          وبيقين ندري أن الله تعالى لو أراد أن يخص العبيد لذكرهم كما ذكر الإماء ، ولما أغفل ذلك ، ولا أهمله - والقياس كله باطل ، ودعوى بلا برهان .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 182 ] وكل ما يشغبون به في إثبات القرآن فحتى لو صح لهم - وهو لا يصح لهم منه شيء أصلا - لما كان في شيء منه إيجاب تخصيص القرآن به ، ولا إباحة الإخبار عن مراد الله تعالى ، إذ لا يجوز أن يعرف مغيب أحد بقياس .

                                                                                                                                                                                          قالوا : فوجب أن يكون حكم العبد كحكم الحر في حد الزنى .

                                                                                                                                                                                          ثم نقول لأصحاب القياس : قد أجمعتم على أن حد العبد كحد الحر في الردة ، وفي المحاربة ، وفي قطع السرقة ، فيلزمكم - على أصولكم في القياس - أن تردوا ما اختلف فيه من حكمه في الزنى إلى ما اتفقتم فيه من حكمه في الردة ، والمحاربة ، والسرقة : بالقتل رجما ، والقتل صلبا أو بالسيف : أشبه بالقتل رجما بالجلد ، قالوا : لا ، ولا سيما المالكيون المشغبون بإجماع أهل المدينة ، وهذا إجماع - إلا عكرمة - قد خالفوه .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : إن راوي هذا الخبر ليث بن أبي سليم وليس بالقوي ؟ قلنا لهم : رب خبر احتججتم فيه لأنفسكم بليث ومن هو دون ليث ، كجابر الجعفي عن الشعبي { لا يؤمن أحد بعدي جالسا } وليث أقوى من جابر بلا شك .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا فيما احتج به أبو ثور فوجدنا من حجته أن قال : قال الله تعالى { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } ؟ قلنا : أمر الله تعالى بالمخالفة بين حد الأمة وحد الحرة فيما له نصف ، وليس ذلك إلا الجلد والتغريب فقط ، وأما الرجم فلا نصف له أصلا ، فلم يكن للرجم في هذه الآية دخول أصلا ولا ذكر .

                                                                                                                                                                                          وكذلك لم يكن له ذكر في قوله تعالى { والزانية والزاني } الآية .

                                                                                                                                                                                          ووجدنا الرجم قد جاءت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أحصن .

                                                                                                                                                                                          وكذلك جاء - عن عمر رضي الله عنه وغيره ، من الصحابة : الرجم على من أحصن جملة ، ولم يخص حرا من عبد ، ولا حرة من أمة .

                                                                                                                                                                                          فوجب أن يكون الرجم واجبا على كل من أحصن من حر أو عبد ، أو حرة أو أمة ، بالعموم الوارد في ذلك ، إلا أن جلد الأمة نصف جلد الحرة ، ونفيها نصف أمد الحرة .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 183 ] قال أبو محمد رحمه الله : فنظرنا في هذين الاحتجاجين فوجدناهما صحيحين ، إذ لم يرد نص صحيح يعارضهما - فنظرنا في ذلك ، فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال { إذا أصاب المكاتب حدا أو ميراثا ورث بحساب ما عتق منه ، وأقيم عليه الحد بحساب ما عتق منه } وقد ذكرناه بإسناده في الباب الذي قبل هذا متصلا به فأغنى عن إعادته .

                                                                                                                                                                                          فاقتضى لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه في هذا الخبر حكم المماليك في الحد بخلاف حكم الأحرار جملة إذ لو كان ذلك سواء لما كان لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن { يقام عليه الحد بحساب ما عتق منه } معنى أصلا ، ولكان المكاتب الذي عتق بعضه كأنه حر كله ، هذا خلاف حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : فإذ قد صح أن حكم أهل الردة في الحدود خلاف حكم الحر ، فليس إلا أحد وجهين لا ثالث لهما ، ولا بد من أحدهما : إما أن لا يكون على المماليك حد أصلا ، وهذا باطل بما أوردناه أيضا بإسناده في الباب المتصل بهذا الباب وإسناده : نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا عبد الرحمن بن محمد بن سلام نا إسحاق بن يوسف الأزرق عن سفيان الثوري عن عبد الأعلى - هو ابن عبد الأعلى التغلبي - عن ميسرة - هو ابن جميلة - عن علي بن أبي طالب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم } فكان هذا عموما موجبا لوقوع الحدود على العبيد والإماء .

                                                                                                                                                                                          وإما أن يكون للمماليك حد مخالف لحكم حدود الأحرار ، وهذا هو الحق ، إذ قد بطل الوجه الآخر ولم يبق إلا هذا ، والحق في أحدهما ولا بد - مع ورود هذين النصين اللذين ذكرنا - من وجوب إقامة الحدود على ما ملكت أيماننا ، وأنهم في ذلك بخلاف حدود الأحرار ، فإذ قد وجب هذا - بلا شك - فلم يكن بد من تحديد حد المماليك بخلاف حكم الأحرار في الحدود ، فقد صح إجماع القائلين بهذا القول - وهم أهل الحق - : على أن المماليك في الحد نصف حد الحر ، فكان هذا حجة صحيحة مع صحة الإجماع المتيقن على إطباق جميع أهل الإسلام : على أن حد العبد والأمة ليس يكون أقل من نصف حد الحر ، ولا أكثر من نصف حد الحر ، ولم يأت بهذا نص قط - فهذا إجماع صحيح متيقن على إبطال القول بأن يكون حد [ ص: 184 ] المملوك أو المملوكة أقل من نصف حد الحر ، أو أكثر من نصف حد الحر - فبطل بالنصوص المذكورة ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فلولا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الحدود على ما ملكت أيماننا لكانت الحدود عنهم ساقطة جملة ، فإذ قد صحت الحدود عليهم فلا يجوز أن يقام عليهم منها إلا ما أوجبه عليهم نص أو إجماع ، ولا نص ولا إجماع بوجوب الرجم عليهم ، ولا بإيجاب أزيد من خمسين جلدة ونفي نصف سنة ، فوجب الأخذ بما أوجبه النص والإجماع وإسقاط ما لا نص فيه ولا إجماع - وبالله تعالى التوفيق ؟

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : فصح بما ذكرنا أن قول الله تعالى { والزانية والزاني فاجلدوا } الآية إنما عنى بلا شك الأحرار والحرائر ، وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم } إنما عنى به - عليه السلام - الأحرار والحرائر لا العبيد ولا الإماء .

                                                                                                                                                                                          وأما من لم يصحح الحديث الذي أوردنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن { يقام الحد على المكاتب بقدر ما عتق } ولم يصحح الحكم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم } ولم يعتمد في الرجم إلا على الأحاديث الواردة في رجم ماعز ، والغامدية ، والجهينية - رضي الله عنهم - فإنه لا مخلص لهم من دليل أبي ثور وأصحابنا ، ولا نجد ألبتة دليلا على إسقاط الرجم عن الأمة المحصنة والعبد المحصن ؟ فإن رجع إلى القياس فقال : أقيس العبد على الأمة ؟ قيل له : القياس كله باطل ، ولو كان حقا لما كان لكم هاهنا وجه من القياس تتعلقون به في إسقاط الرجم أصلا ، لأن قول الله تعالى { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } ليس فيه نص ولا دليل على إسقاط الرجم عنها ، ولا نجد دليلا على إسقاطه أصلا ، ولا سيما من قال : إحصانها هو إسلامها ، وأنه أيضا يلزمه أن تكون كل حرة مسلمة محصنة ولا بد ، وإن لم تتزوج قط ، لأن إحصانها أيضا إسلامها .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 185 ] ومن الباطل المحال أن يكون إسلام الأمة إحصانا لها ، ولا يكون إسلام الحرة إحصانا لها ، فإذا وجب هذا ولا بد ، فواجب أن تكون الآية المذكورة ، يعني قوله تعالى { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } اللواتي لم يتزوجن من الإماء والحرائر ; لأن أهل هذه المقالة لا يرون المحصنات هاهنا إلا الحرائر اللواتي لم يتزوجن فهن عندهم اللواتي لعذابهن نصف .

                                                                                                                                                                                          وأما الرجم الذي هو عندهم عذاب المتزوجات فقط عذاب عليهن عندهم غيره ، فلا نصف له ، فإذا لزمهم هذا واقتضاه قولهم ، فواجب أن تبقى الأمة المحصنة بالزواج والحرة المحصنة بالزواج : على وجوب الرجم الذي إنما وجب عندهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجم من أحصن فقط - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية