الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى

قوله تعالى : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به وقد تقدم معناه في ( الحجر ) أزواجا مفعول ب ( متعنا ) . و زهرة نصب على الحال . وقال الزجاج : " زهرة " منصوبة بمعنى متعنا لأن معناه جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة ؛ أو بفعل مضمر وهو - جعلنا - أي جعلنا لهم زهرة الحياة الدنيا ؛ عن الزجاج أيضا . وقيل : هي بدل من الهاء في به على الموضع كما تقول : مررت به أخاك . وأشار الفراء إلى نصبه على الحال ؛ والعامل فيه متعنا قال : كما تقول مررت به المسكين ؛ وقدره : متعناهم به زهرة الحياة في الدنيا وزينة فيها . ويجوز أن ينتصب على المصدر مثل صنع الله و وعد الله وفيه نظر . والأحسن أن ينتصب على الحال ويحذف التنوين لسكونه وسكون اللام من الحياة ؛ كما قرئ [ ص: 173 ] ( ولا الليل سابق النهار ) بنصب النهار بسابق على تقدير حذف التنوين لسكونه وسكون اللام ، وتكون الحياة مخفوضة على البدل من ما في قوله : إلى ما متعنا به فيكون التقدير : ولا تمدن عينيك إلى الحياة الدنيا زهرة أي في حال زهرتها . ولا يحسن أن يكون زهرة بدلا من ما على الموضع في قوله : إلى ما متعنا لأن لنفتنهم متعلق ب ( متعنا ) و زهرة الحياة الدنيا يعني زينتها بالنبات . والزهرة بالفتح في الزاي والهاء نور النبات . والزهرة بضم الزاي وفتح الهاء النجم . وبنو زهرة بسكون الهاء ؛ قاله ابن عزيز . وقرأ عيسى بن عمر ( زهرة ) بفتح الهاء مثل نهر ونهر . ويقال : سراج زاهر أي له بريق . وزهر الأشجار ما يروق من ألوانها . وفي الحديث : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أزهر اللون أي نير اللون ؛ يقال لكل شيء مستنير زاهر ، وهو أحسن الألوان . لنفتنهم فيه أي لنبتليهم . وقيل : لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالا ، ومعنى الآية : لا تجعل يا محمد لزهرة الدنيا وزنا ، فإنه لا بقاء لها . ولا تمدن أبلغ من لا تنظرن ، لأن الذي يمد بصره ، إنما يحمله على ذلك حرص مقترن ، والذي ينظر قد لا يكون ذلك معه .

مسألة : قال بعض الناس : سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال نزل ضيف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأرسلني - عليه السلام - إلى رجل من اليهود ، وقال قل له : يقول لك محمد : نزل بنا ضيف ولم يلف عندنا بعض الذي يصلحه ؛ فبعني كذا وكذا من الدقيق ، أو أسلفني إلى هلال رجب فقال : لا ، إلا برهن . قال : فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال : والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ولو أسلفني أو باعني لأديت إليه اذهب بدرعي إليه ونزلت الآية تعزية له عن الدنيا . قال ابن عطية وهذا معترض أن يكون سببا ؛ لأن السورة مكية والقصة المذكورة مدنية في آخر عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي بهذه القصة التي ذكرت ؛ وإنما الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها ، وذلك أن الله تعالى وبخهم على ترك الاعتبار بالأمم السالفة ثم توعدهم بالعذاب المؤجل ، ثم أمر نبيه بالاحتقار لشأنهم ، والصبر على أقوالهم ، والإعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا ؛ إذ ذلك منصرم عنهم صائر إلى خزي .

[ ص: 174 ] قلت : وكذلك ما روي عنه - عليه السلام - أنه مر بإبل بني المصطلق وقد عبست في أبوالها من السمن فتقنع بثوبه ثم مضى ، لقوله - عز وجل - : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم الآية . ثم سلاه فقال : ورزق ربك خير وأبقى أي ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا أولى ؛ لأنه يبقى والدنيا تفنى . وقيل : يعني بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من البلاد والغنائم .

قوله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة ويمتثلها معهم ، ويصطبر عليها ويلازمها . وهذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويدخل في عمومه جميع أمته ؛ وأهل بيته على التخصيص . وكان - عليه السلام - بعد نزول هذه الآية يذهب كل صباح إلى بيت فاطمة وعلي - رضوان الله عليهما - فيقول : الصلاة . ويروى أن عروة بن الزبير - رضي الله عنه - كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزله فدخله ، وهو يقرأ ولا تمدن عينيك الآية إلى قوله : وأبقى ثم ينادي بالصلاة : الصلاة يرحمكم الله ؛ ويصلي . وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي وهو يتمثل بالآية .

قوله تعالى : لا نسألك رزقا أي لا نسألك أن ترزق نفسك وإياهم ، وتشتغل عن الصلاة بسبب الرزق ، بل نحن نتكفل برزقك وإياهم ، فكان - عليه السلام - إذا نزل بأهله ضيق أمرهم بالصلاة . وقد قال الله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق .

قوله تعالى : والعاقبة للتقوى أي الجنة لأهل التقوى ؛ يعني العاقبة المحمودة . وقد تكون لغير التقوى عاقبة ولكنها مذمومة فهي كالمعدومة .

التالي السابق


الخدمات العلمية