الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3332 (22) باب

                                                                                              ما جاء أن فتح مكة عنوة وقوله عليه الصلاة والسلام : "لا يقتل قرشي صبرا بعد اليوم"

                                                                                              [ 1297 ] عن عبد الله بن رباح قال: وفدنا إلى معاوية بن أبي سفيان وفينا أبو هريرة، فكان كل رجل منا يصنع طعاما يوما لأصحابه، فكانت نوبتي فقلت: يا أبا هريرة، اليوم نوبتي، فجاءوا إلى المنزل ولم يدرك طعامنا فقلت: يا أبا هريرة، لو حدثتنا عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حتى يدرك طعامنا. فقال: كنا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي، فقال: "يا أبا هريرة، ادع لي الأنصار". فدعوتهم فجاءوا يهرولون، فقال: "يا معشر الأنصار، هل ترون أوباش قريش؟". قالوا: نعم، قال: انظروا إذا لقيتموهم غدا، أن تحصدوهم حصدا. وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله، وقال: "موعدكم الصفا". قال: فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه، قال: وصعد رسول الله-صلى الله عليه وسلم- على الصفا، وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله، أبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم. قال أبو سفيان: فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن"، فقالت الأنصار: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته، ورغبة في قريته. ونزل الوحي على رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وقال: "قلتم: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته، ألا فما اسمي إذا (ثلاث مرات)- أنا محمد عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم". قالوا: والله ما قلنا إلا ضنا بالله ورسوله. قال: "فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم".

                                                                                              وفي رواية: قال: فأقبل الناس إلى دار أبي سفيان، وأغلق الناس أبوابهم، قال: فأقبل رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حتى أقبل إلى الحجر فاستلمه، ثم طاف بالبيت، قال: فأتى على صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه، قال: وفي يد رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قوس. وهو آخذ بسية القوس، فلما أتى على الصنم جعل يطعن في عينه ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل" فلما فرغ من طوافه أتى الصفا ، فعلا عليه حتى نظر إلى البيت، ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو.

                                                                                              رواه أحمد ( 2 \ 538 )، ومسلم (1780) (84 و 86)، وأبو داود (1572) و (3023).

                                                                                              [ ص: 628 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 628 ] (22) ومن باب: ما جاء أن فتح مكة عنوة

                                                                                              قوله : ( كان كل رجل منا يصنع طعاما يوما لأصحابه ، فكانت نوبتي ) ; هذه المناوبة في الطعام كانت منهم على جهة المكارمة ، والمطايبة ، والتبرك بالمؤاكلة والمشاركة فيها ، لا على جهة المعاوضة ، والمشاحة ; ولذلك قال أبو هريرة للذي دعاه : (سبقتني) . ففيه ما كان السلف عليه من حسن التودد ، والمزاولة ، والمواصلة ، والمكارمة . و (لو) هي هنا للتمني ; أي : ليتك حدثتنا . و ( أدرك طعامنا ) ; أي : انتهى إلى النضج .

                                                                                              [ ص: 629 ] وقوله : ( وجعل أبا عبيدة على البياذقة ) ; البياذقة : هم الرجالة . وأصله بالفارسية : أصحاب ركاب الملك . وقد رواه بعضهم : (الساقة) وفيها بعد . وبعضهم قال : (الشارفة) ; أي : المشرفة . وهي تصحيف . والأولى هي الصواب . وفي رواية أخرى : (الحسر) مكان ( البياذقة ) وهو جمع حاسر . وهو هنا : الذي لا درع معه . وهذا الوصف صادق على الرجالة ; فإنهم كذلك غالبا .

                                                                                              وقوله : ( وبطن الوادي ) منصوب بفعل مضمر ; أي : وجعل طريقه بطن الوادي ، كما جاء مفسرا في الرواية ، ولا يجوز خفضه ; لأنه يلزم منه أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل أبا عبيدة على سكان بطن الوادي . وذلك غير مراد قطعا .

                                                                                              ونداؤه -صلى الله عليه وسلم- للأنصار خاصة : إما لأن المهاجرين كانوا حضورا معه ، فلم يحتج إلى ندائهم ، وإما ليظهر لهم شدة اعتنائه بهم ، وتعويله عليهم . ويظهر لي : أن اختصاصه بالأنصار في هذا الموضع ، وقوله : (لا يأتيني إلا أنصاري) ; كما جاء في الرواية الأخرى ، إنما كان لأنه وصاهم بقتل من تعرض لهم من قريش ; إذ لا قرابة ، ولا رحم بينهم ، فلا موجب للعطف عليهم ، بخلاف المهاجرين ; فإن بينهم قرابات وأرحاما ، فلا جرم لما سمعت الأنصار أمره مضوا لذلك ، فلم يتعرض لهم أحد إلا أناموه ; أي : قتلوه ، فصيروه كالنائم . والله تعالى أعلم .

                                                                                              و ( أوباش قريش ) : أخلاطهم . وفي الرواية الأخرى : ووبشت قريش أوباشا لها ; أي : جمعت جموعا من قبائل مختلفة . ويقال : أوباش وأوشاب . بمعنى [ ص: 630 ] واحد .

                                                                                              و ( الحصد ) : القطع . وأصله في الزرع ، واستعاره هنا للقتل لما كانت الرءوس والأيدي تقطع فيه .

                                                                                              وقوله : ( وأحفى بيده ووضع يمينه على شماله ) ; كذا صحيح الرواية- بالحاء المهملة- معناه : استأصل ; أي : أشار إلى ذلك . وبعضهم رواه : (وأكفى) - بالكاف- ; أي : مال بيده ، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - وضع يمناه على يسراه ، وأمرها عليها مشيرا إلى الاستئصال . والله تعالى أعلم .

                                                                                              وقوله : ( موعدكم الصفا ) ; ظاهره خطابه للأنصار ، فكأنه -صلى الله عليه وسلم- سلك الطريق الأعلى من مكة ، وسلكت الأنصار من أسفلها ، حتى اجتمعوا عند الصفا . و (الموعد) هنا : موضع الوعد ، وقد يأتي كذلك في الزمان ، كقوله تعالى : إن موعدهم الصبح [هود: 81] ويأتي كذلك للمصدر . وهو في كل ذلك مكسور العين .

                                                                                              وقول أبي سفيان : ( أبيدت خضراء قريش ) ; أي : أفنيت وأذهبت . وفي رواية أخرى : (أبيحت) من الإباحة . وكلاهما متقارب . و ( خضراء قريش ) معظمها ، وجموعها .

                                                                                              وقوله : ( لا قريش بعد اليوم) ; أي : لا وجود لقريش بعد هذا . وذلك لما رأى من هول الأمر ، والغلبة ، والقهر ، والاستطالة ، والاستيلاء عليهم .

                                                                                              وهذا الحديث لمالك نص: على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخلها عنوة ، وقهرا . وهو [ ص: 631 ] الذي صار إليه جمهور العلماء ، والفقهاء ، مالك وغيره ، ما عدا الشافعي ، فإنه قال : فتحت صلحا . وقد اعتذر بعض أصحابه عنه في ذلك بأن قال : أراد الشافعي بقوله : إنه - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة صلحا ; أي : فعل فيها ما يفعل من صالح . فملكهم أنفسهم ، ومالهم ، وأرضيهم .

                                                                                              قلت : والكل متفقون على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما دخل مكة أمن أهلها ولم يغنمهم ، وترك لهم أموالهم ، وذراريهم ، وأراضيهم ، ولم يجر عليها حكم الغنيمة ، ولا حكم الفيء ، فكان ذلك أمرا خاصا بمكة ، لشرفها ، وحرمتها ، ولا يساويها في ذلك غيرها من البلاد بوجه من الوجوه . والله تعالى أعلم . وقد تقدم الكلام في بيع دور مكة وإجاراتها.

                                                                                              وقول الأنصار : ( أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ، ورغبة في قريته ) ; هذا القول ليس فيه تنقيص ، ولا تصغير ، وإنما هم لما رأوا منه ما يقتضيه خلق الكرام ، وجبلات الفضلاء من الرأفة على العشيرة ، والصغو للوطن ، والحنين له ، خافوا أن يؤثر المقام فيها على المقام بالمدينة ، فحملهم شدة محبتهم له ، وكراهة [ ص: 632 ] مفارقته ، أو مفارقة أوطانهم ، على أن قالوا هذا الكلام ، وقد بينوا عذرهم عن هذا حيث قالوا : ( ما قلناه إلا ضنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم - ; أي : بخلا .

                                                                                              وإخباره -صلى الله عليه وسلم- إياهم بما قالوا ، معجزة من معجزاته .

                                                                                              وقوله -صلى الله عليه وسلم- : ( ألا فما اسمي إذا ؟ ) قيل : إنما قال ذلك تنبيها على صدقه لما ظهرت معجزته بإخباره عما غاب عنه ، كما كان يقول عند ظهور الخوارق على يديه : (أشهد أني رسول الله) . وقيل : إنما قال ذلك تنبيها على أن صدق اسمه ( محمد ) عليه يمنعه من نقض العهد ، وترك القيام بحق من له حق ، فكأنه قال : لو فعلت ذلك لما استحققت أن أسمى : محمدا ، ولا : أحمد ; وكلاهما مأخوذ من الحمد . ويدل على صحة هذا التأويل قوله : ( المحيا محياكم ، والممات مماتكم ) ; أي لا أفارقكم حياتي ولا موتي . وبكاء الأنصار إنما كان فرحا وصبابة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- .

                                                                                              [ ص: 633 ] و ( سية القوس ) : طرفها المنحني . وله سيتان . وقد قال في طريق أخرى : ( بعود في يديه ) ، يريد به القوس .




                                                                                              الخدمات العلمية