الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 2857 ) فصل : وفي إنفاق المغشوش من النقود روايتان ; أظهرهما ، الجواز ، نقل صالح عنه في دراهم يقال لها المسيبية ، عامتها نحاس إلا شيئا فيها فضة ، فقال : إذا كان شيئا اصطلحوا عليه مثل الفلوس ، اصطلحوا عليها ، فأرجو ألا يكون بها بأس . والثانية التحريم ، نقل حنبل في دراهم يخلط فيها مش ونحاس يشترى بها ويباع ، فلا يجوز أن يبتاع بها أحد . كل ما وقع عليه اسم الغش فالشراء به والبيع حرام .

                                                                                                                                            وقال أصحاب الشافعي : إن كان الغش مما لا قيمة له ، جاز الشراء بها ، وإن كان مما له قيمة ، ففي جواز إنفاقها وجهان ، واحتج من منع إنفاق المغشوشة بقول النبي صلى الله عليه وسلم : { من غشنا فليس منا } . وبأن عمر رضي الله عنه نهى عن بيع نفاية بيت المال . ولأن المقصود فيه مجهول ، أشبه تراب الصاغة ، والأولى أن يحمل كلام أحمد في الجواز على الخصوص فيما ظهر غشه ، واصطلح عليه ، فإن المعاملة به جائزة ، إذ ليس فيه أكثر من اشتماله على جنسين لا غرر فيهما ، فلا يمنع من بيعهما ، كما لو كانا متميزين . ولأن هذا مستفيض في الأعصار ، جار بينهم من غير نكير ، وفي تحريمه مشقة وضرر ، وليس شراؤه بها غشا للمسلمين ، ولا تغريرا لهم ، والمقصود منها ظاهر مرئي معلوم ، بخلاف تراب الصاغة .

                                                                                                                                            ورواية المنع محمولة على ما يخفى غشه ، ويقع اللبس به ، فإن ذلك يفضي إلى التغرير بالمسلمين ، وقد أشار أحمد إلى هذا في رجل اجتمعت عنده دراهم زيوف ، ما يصنع بها ؟ قال : يسبكها . قيل له : فيبيعها بدنانير ؟ قال : لا . قيل : يبيعها بفلوس ؟ قال : لا . قيل فبسلعة ؟ قال : لا ، إني أخاف أن يغر بها مسلما . قيل لأبي عبد الله : أيتصدق بها ؟ قال : إني أخاف أن يغر بها مسلما . وقال : ما ينبغي له ; لأنه يغر بها [ ص: 54 ] المسلمين ، ولا أقول إنه حرام ; لأنه على تأويل ، وذلك إنما كرهته ; لأنه يغر بها مسلما . فقد صرح بأنه إنما كرهه لما فيه من التغرير بالمسلمين ، وعلى هذا يحمل منع عمر نفاية بيت المال ; لما فيه من التغرير بالمسلمين ، فإن مشتريها ربما خلطها بدراهم جيدة ، واشترى بها ممن لا يعرف حالها ، ولو كانت مما اصطلح على إنفاقه ، لم يكن نفاية .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد روي عن عمر أنه قال : من زافت عليه دراهمه فليخرج بها إلى البقيع ، فليشتر بها سحق الثياب . وهذا دليل على جواز إنفاق المغشوشة التي لم يصطلح عليها . قلنا : قد قال أحمد : معنى زافت عليه دراهمه . أي نفيت ، ليس أنها زيوف فيتعين حمله على هذا جمعا بين الروايتين عنه . ويحتمل أنه أراد ما ظهر غشه ، وبان زيفه ، بحيث لا يخفى على أحد ، ولا يحصل بها تغرير . وإن تعذر تأويلها ، تعارضت الروايتان عنه ، ويرجع إلى ما ذكرنا من المعنى ، ولا فرق بين ما كان غشه ذا بقاء وثبات ، كالرصاص ، والنحاس ، وما لا ثبات له ، كالزرنيخية ، والأندرانية ، وهو زرنيخ ونورة يطلى عليه فضة ، فإذا دخل النار استهلك الغش ، وذهب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية