الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر اختلاف فقهاء الأمصار في الحجر على السفيه

كان أبو حنيفة - رحمه الله - لا يرى الحجر على الحر البالغ العاقل؛ لا لسفه؛ ولا لتبذير؛ ولا لدين وإفلاس؛ وإن حجر عليه القاضي؛ ثم أقر بدين؛ أو تصرف في ماله ببيع؛ أو هبة؛ أو غيرهما؛ جاز تصرفه؛ وإن لم يؤنس منه رشد؛ فكان فاسدا؛ ويحال بينه وبين ماله؛ ومع ذلك إن أقر به لإنسان؛ أو باعه؛ جاز ما صنع من ذلك؛ وإنما يمنع من ماله ما لم يبلغ خمسا وعشرين سنة؛ فإذا بلغها دفع إليه ماله؛ وإن لم يؤنس منه رشد؛ وقول عبيد الله بن الحسن في الحجر كقول أبي حنيفة .

وروى شعبة عن مغيرة؛ عن إبراهيم قال: لا يحجر على حر؛ وروى ابن [ ص: 216 ] عون عن محمد بن سيرين قال: "لا يحجر على حر؛ إنما يحجر على العبد"؛ وعن الحسن البصري مثل ذلك؛ وقال أبو يوسف: "إذا كان سفيها حجرت عليه؛ وإذا فلسته وحبسته حجرت عليه؛ ولم أجز بيعه؛ ولا شراءه؛ ولا إقراره بدين؛ إلا ببينة تشهد به عليه أنه كان قبل الحجر"؛ وذكر الطحاوي عن ابن أبي عمران ؛ عن ابن سماعة؛ عن محمد في الحجر بمثل قول أبي يوسف فيه؛ ويزيد عليه أنه إذا صار في الحال التي يستحق معها الحجر صار محجورا عليه؛ حجر القاضي عليه مع ذلك؛ أو لم يحجر.

وكان أبو يوسف يقول: لا يكون محجورا عليه بحدوث هذه الأحوال فيه حتى يحجر القاضي عليه؛ فيكون بذلك محجورا عليه؛ وقال محمد: إذا بلغ ولم يؤنس منه رشد لم يدفع إليه ماله؛ ولم يجز بيعه؛ ولا هبته؛ وكان بمنزلة من لم يبلغ؛ فما باع أو اشترى نظر الحاكم فيه؛ فإن رأى إجازته أجازه؛ وهو ما لم يؤنس منه رشد بمنزلة الصبي الذي لم يبلغ؛ إلا أنه يجوز لوصي الأب أن يشتري ويبيع على الذي لم يبلغ؛ ولا يجوز أن يبيع ويشتري على الذي بلغ؛ إلا بأمر الحاكم ؛ وذكر ابن عبد الحكم؛ وابن القاسم ؛ عن مالك قال: ومن أراد الحجر على موليه فليحجر عليه عند السلطان؛ حتى يوقفه للناس؛ ويسمع منه في مجلسه؛ ويشهد على ذلك؛ ويرد بعد ذلك ما بويع؛ وما أدان به السفيه؛ فلا يلحقه ذلك إذا صلحت حاله؛ وهو مخالف للعبد؛ وإن مات المولى عليه وقد ادان فلا يقضى عنه؛ وهو في موته بمنزلته في حياته؛ إلا أن يوصي بذلك في ثلثه؛ فيكون ذلك له؛ وإذا بلغ الولد فله أن يخرج عن أبيه؛ وإن كان أبوه شيخا ضعيفا؛ إلا أن يكون الابن مولى عليه؛ أو سفيها؛ أو ضعيفا في عقله؛ فلا يكون له ذلك؛ وقال الفريابي ؛ عن الثوري ؛ في قوله (تعالى): وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ؛ قال: العقل؛ والحفظ لماله؛ وكان يقول: "إذا اجتمع فيه خصلتان: إذا بلغ الحلم؛ وكان حافظا لماله؛ لا يخدع عنه"؛ وحكى المزني عن الشافعي في مختصره قال: "وإنما أمر الله بدفع أموال اليتامى بأمرين؛ لم يدفع إلا بهما؛ وهما: البلوغ؛ والرشد"؛ والرشد: الصلاح في الدين؛ بكون الشهادة جائزة مع إصلاح المال؛ والمرأة إذا أونس منها الرشد دفع إليها مالها؛ تزوجت أو لم تتزوج؛ كالغلام؛ نكح أو لم ينكح; لأن الله (تعالى) سوى بينهما؛ ولم يذكر تزويجا؛ وإذا حجر عليه الإمام في سفهه؛ وإفساده ماله أشهد على ذلك؛ فمن بايعه بعد الحجر فهو المتلف لماله؛ ومتى أطلق عنه الحجر ثم عاد إلى حال الحجر حجر عليه؛ ومتى رجع إلى حال الإطلاق [ ص: 217 ] أطلق عنه.

قال أبو بكر : قد بينا ما احتج به كل فريق من مبطلي الحجر؛ ومن مثبتيه؛ من دلالة آية الدين؛ وقد بينا أن الأظهر من دلالتها بطلان الحجر؛ وجواز التصرف؛ واحتج مثبتو الحجر بما روى هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر أتى الزبير فقال: إني ابتعت بيعا؛ ثم إن عليا يريد أن يحجر علي ؛ فقال الزبير : فإني شريكك في البيع؛ فأتى علي عثمان فسأله أن يحجر على عبد الله بن جعفر ؛ فقال الزبير : أنا شريكه في هذا البيع؛ فقال عثمان : كيف أحجر على رجل شريكه الزبير ؟ قالوا: فهذا يدل على أنهم جميعا قد رأوا الحجر جائزا؛ ومشاركة الزبير ليدفع الحجر عنه؛ وكان ذلك بمحضر من الصحابة؛ من غير خلاف ظهر من غيرهم عليهم؛ قال أبو بكر : لا دلالة في ذلك على أن الزبير رأى الحجر؛ وإنما يدل ذلك على تسويغه لعثمان الحجر؛ وليس فيه ما يدل على موافقته إياه فيه؛ وذلك لأن هذا حكم سائر المسائل المختلف فيها من مسائل الاجتهاد؛ وأيضا فإن الحجر على وجهين؛ أحدهما الحجر في منع التصرف؛ والإقرار؛ والآخر في المنع من المال؛ وجائز أن يكون الحجر الذي رآه عثمان وعلي هو المنع من ماله; لأنه جائز أن يكون سن عبد الله بن جعفر في ذلك الوقت خمسا وعشرين سنة؛ وأبو حنيفة يرى ألا يدفع إليه ماله قبل بلوغ هذه السن إذا لم يؤنس منه رشد؛ وهذا عبد الله بن جعفر ؛ هو من الصحابة؛ وقد أبى الحجر؛ فكيف يدعى فيه اتفاق الصحابة؟ ويحتجون أيضا بما روى الزهري عن عروة ؛ عن عائشة أنها بلغها أن ابن الزبير بلغه أنها باعت بعض رباعها؛ فقال: لتنتهين وإلا حجرت عليها؛ فبلغها ذلك فقالت: لله علي ألا أكلمه أبدا؛ قالوا: فهذا يدل على أن ابن الزبير وعائشة قد رأيا الحجر؛ إلا أنها أنكرت عليه أن تكون هي من أهل الحجر؛ فلولا ذلك لبينت أن الحجر لا يجوز؛ ولردت عليه قوله؛ قال أبو بكر : قد ظهر النكير منها في الحجر؛ وهذا يدل على أنها لم تر الحجر جائزا؛ لولا ذلك لما أنكرته إن كان ذلك شيئا يسوغ فيه الاجتهاد؛ وما ظهر منها من النكير ما يدل على أنها كانت لا تسوغ الاجتهاد في جواز الحجر؛ فإن قيل: إنما لم تسوغ الاجتهاد في الحجر عليها؛ فأما في الحجر مطلقا فلا؛ ولو كانت لا تسوغ الاجتهاد في جواز الحجر لقالت: إن الحجر غير جائز؛ فتكتفي بذلك في إنكارها الحجر عليها؛ قيل له: قد أنكرت الحجر على الإطلاق بقولها: "لله علي ألا أكلمه أبدا"؛ ودعواك أنها أنكرت الحجر عليها خاصة؛ دون إنكارها لأصل الحجر؛ لا دلالة معها؛ ومما يدل على بطلان الحجر ما حدثنا به [ ص: 218 ] محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا القعنبي عن مالك ؛ عن عبد الله بن دينار ؛ عن ابن عمر : أن رجلا ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع في البيع؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بايعت فقل: لا خلابة"؛ فكان الرجل إذا بايع يقول: "لا خلابة"؛ وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأزدي؛ وإبراهيم بن خالد ؛ أبو ثور الكلبي قالا: حدثنا عبد الوهاب قال: قال محمد: عبد الوهاب بن عطاء قال: أخبرني سعيد ؛ عن قتادة ؛ عن أنس بن مالك أن رجلا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبتاع؛ وفي عقدته ضعف؛ فأتى به أهله نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا نبي الله; احجر على فلان؛ فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف؛ فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فنهاه عن البيع؛ فقال: يا نبي الله; إني لا أصبر عن البيع؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن كنت غير تارك البيع فقل: ها؛ وها؛ ولا خلابة"؛ فذكر في الحديث الأول أنه كان يخدع في البيع؛ فلم يمنع من التصرف؛ ولم يحجر عليه؛ ولو كان الحجر واجبا لما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - والبيع؛ وهو مستحق المنع منه.

فإن قال قائل: فقد قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بايعت فقل: لا خلابة"؛ فإنما أجاز له البيع على شريطة استيفاء البدل من غير مغابنة؛ قيل له: فليرض القائلون بالحجر منا على ما رضيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا السفيه الذي كان يخدع في البيع؛ وليس أحد من الفقهاء يشترط ذلك على السفهاء؛ لا من القائلين بالحجر؛ ولا من نفاته; لأن من يرى الحجر يقول: يحجر عليه الحاكم ويمنعه من التصرف؛ ولا يرون إطلاق التصرف له؛ مع التقدمة إليه بأن يقول عند البيع: لا خلابة؛ ومبطلو الحجر يجيزون تصرفه على سائر الأحوال؛ فقد ثبت بدلالة هذا الخبر بطلان الحجر على السفيه ؛ بعد أن يكون عاقلا؛ وأيضا فإن جازت الثقة به في ضبط هذا الشرط؛ وذكره عند سائر المبايعات؛ فقد تجوز الثقة به في ضبط عقود المبايعات؛ ونفي المغابنات عنها؛ واللفظ الذي في هذا الخبر من قوله: " إذا بايعت فقل: لا خلابة "؛ يستقيم على مذهب محمد؛ فإنه يقول: إن السفيه إذا بلغ فرفع أمره إلى الحاكم أجاز من عقوده ما لم تكن فيه مغابنة وضرر؛ فأما سائر من يرى الحجر فإنه لا يعتبر ذلك.

قال أبو بكر : ويجوز أن يقال: إن مذهب محمد أيضا مخالف للأثر; لأن محمدا لا يجيز بيع المحجور عليه؛ إلا أن يرفع إلى القاضي؛ فيجيزه؛ فجعله بيعا موقوفا؛ كبيع أجنبي لو باع عليه بغير أمره؛ والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل بيع الرجل الذي قال له: " إذا بايعت فقل: لا خلابة "؛ موقوفا؛ بل جعله جائزا نافذا إذا قال: لا خلابة؛ فصار مذهب مثبتي الحجر مخالفا لهذا الأثر؛ وأما حديث أنس فإنه يحتج به الفريقان جميعا؛ فأما مثبتو [ ص: 219 ] الحجر فإنهم يحتجون بأن أهله أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا نبي الله; احجر على فلان؛ فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف؛ فلم ينكره عليهم؛ بل نهاه عن البيع؛ ولما قال: لا أصبر عن البيع قال: " إذا بايعت فقل: لا خلابة "؛ فأطلق له البيع على شريطة نفي التغابن فيه؛ وأما مبطلوه فإنهم يستدلون بأنه لما قال: إني لا أصبر عن البيع؛ أطلق له النبي - صلى الله عليه وسلم - التصرف؛ وقال له: " إذا بايعت فقل: لا خلابة "؛ فلو كان الحجر واجبا لما كان قوله: لا أصبر عن البيع مزيلا للحجر عنه; لأن أحدا من موجبي الحجر لا يرفع الحجر عنه؛ لفقد صبره عن البيع؛ وكما أن الصبي والمجنون المستحقين للحجر عند الجميع؛ لو قالا: لا نصبر عن البيع؛ لم يكن هذا القول منهما مزيلا للحجر عنهما؛ ولما قيل لهما: إذا بايعتما فقولا: لا خلابة؛ وفي إطلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - له التصرف؛ على الشريطة التي ذكرها؛ دلالة على أن الحجر غير واجب؛ وأن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - له بديا عن البيع؛ وقوله: "فقل: لا خلابة"؛ على وجه النظر له؛ والاحتياط لماله؛ كما تقول لمن يريد التجارة في البحر؛ أو في طريق مخوف: "لا تغرر بمالك واحفظه"؛ وما جرى مجرى ذلك؛ وليس هذا بحجر؛ وإنما هو مشورة؛ وحسن نظر؛ ومما يدل على بطلان الحجر أنهم لا يختلفون أن السفيه يجوز إقراره بما يوجب الحد؛ والقصاص؛ وذلك مما تسقطه الشبهة؛ فوجب أن يكون إقراره بحقوق الآدميين التي لا تسقطها الشبهة أولى؛ فإن قال قائل: المريض جائز الإقرار بما يوجب الحد والقصاص؛ ولا يجوز إقراره؛ ولا هبته؛ إذا كان عليه دين يحيط بماله؛ فليس جواز الإقرار بالحد والقصاص أصلا للإقرار بالمال والتصرف فيه؛ قيل له: إن إقرار المريض عندنا بجميع ذلك جائز؛ وإنما نبطله إذا اتصل بمرضه الموت; لأن تصرفه مراعى؛ معتبر بالموت؛ فإذا مات صار تصرفه واقعا في حق الغير؛ الذي هو أولى منه به؛ وهم الغرماء؛ والورثة؛ فأما تصرفه في الحال فهو جائز؛ ما لم يطرإ الموت؛ ألا ترى أنا لا نفسخ هبته؛ ولا نوجب السعاية على من أعتقه من عبيده؛ حتى يحدث الموت؟ فإقراره بالحد؛ والقصاص؛ والمال؛ غير متفرقين في حال الحياة.

ومما يحتج به مثبتو الحجر قوله (تعالى): ولا تبذر تبذيرا ؛ وقوله (تعالى): ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ؛ الآية؛ فإذا كان التبذير مذموما منهيا عنه؛ وجب على الإمام المنع منه؛ وذلك بأن يحجر عليه؛ ويمنعه التصرف في ماله؛ وكذلك نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال يقتضي منعه عن إضاعته بالحجر عليه؛ وهذا لا دلالة فيه على الحجر; لأنا نقول: إن التبذير محظور؛ [ ص: 220 ] وينهى فاعله عنه؛ وليس في النهي عن التبذير ما يوجب الحجر; لأنه إنما ينبغي أن يمنعه التبذير؛ فأما أن يمنعه من التصرف في ماله؛ ويبطل بياعاته؛ وإقراره؛ وسائر وجوه تصرفه؛ فإن هذا الموضع هو الذي فيه الخلاف بيننا وبين خصومنا؛ وليس في الآية ما يوجب المنع من شيء منه؛ وذلك لأن الإقرار نفسه ليس من التبذير في شيء؛ لأنه لو كان مبذرا لوجب منع سائر المقرين من إقرارهم؛ وكذلك البيع بالمحاباة؛ لا تبذير فيه; لأنه لو كان مبذرا لوجب أن ينهى عنه سائر الناس؛ وكذلك الهبة؛ والصدقة؛ وإذا كان كذلك فالذي تقتضيه الآية النهي عن التبذير؛ وذم فاعله؛ فكيف يجوز الاستدلال بها على الحجر في العقود التي لا تبذير فيها؟ وقد يصح الاستدلال لمحمد; لأنه يجيز من عقوده ما لا محاباة فيه؛ ولا إتلاف لماله؛ إلا أن الذي في الآية إنما هو ذم المبذرين؛ والنهي عن التبذير؛ ومن ينفي الحجر يقول: إن التبذير مذموم؛ منهي عن فعله؛ فأما الحجر؛ ومنع التصرف؛ فليس في الآية إيجابه؛ ألا ترى أن الإنسان منهي عن التغرير بماله في البحر؛ وفي الطريق المخوفة؛ ولا يمنعه الحاكم منه على وجه الحجر عليه؟ ولو أن إنسانا ترك نخله وشجره وزرعه لا يسقيها؛ وترك عقاره ودوره لا يعمرها؛ لم يكن للإمام أن يجبره على الإنفاق عليها لئلا يتلف ماله؛ كذلك لا يحجر عليه في عقوده التي يخاف فيها توى ماله؛ وكذلك نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال لا دلالة فيه على الحجر؛ كما بيناه في التبذير؛ ومما يدل على بطلان الحجر؛ وجواز تصرف المحجور عليه؛ أن العاقل البالغ إذا ظهر منه سفه؛ وتبذير؛ فإن الفقهاء الذين تقدم ذكر أقاويلهم من موجبي الحجر؛ ما خلا محمد بن الحسن ؛ يقول: إذا حجر عليه القاضي بطل من عقوده وإقراره ما كان بعد الحجر؛ وإذا كان جائز التصرف قبل حجر القاضي فمعنى الحجر حينئذ أني قد أبطلت ما يعقده؛ أو ما يقر به في المستقبل؛ وهذا لا يصح; لأن فيه فسخ عقد لم يوجد بعد؛ بمنزلة من قال لرجل: "كل بيع بعتنيه؛ وعقد عاقدتنيه؛ فقد فسخته"؛ أو: "كل خيار بشريطة لي في البيع فقد أبطلته"؛ أو تقول امرأة: "كل أمر تجعله إلي في المستقبل فقد أبطلته"؛ فهذا باطل؛ لا يجوز فسخ العقود الموجودة في المستقبل.

ومما يلزم أبا يوسف؛ ومحمدا في هذا أنهما يجيزان تزويجه بعد الحجر بمهر المثل؛ وفي ذلك إبطال الحجر; لأنه إن كان الحجر واجبا لئلا يتلف ماله؛ فإنه قد يصل إلى إتلافه بالتزويج؛ وذلك بأن يتزوج امرأة بمقدار مهر مثلها؛ ثم يطلقها قبل الدخول؛ فيلزمه نصف المهر؛ ثم لا يزال يفعل ذلك حتى يتلف ماله؛ فليس [ ص: 221 ] إذا في هذا الحجر احتراز من إتلاف المال.

وأما اشتراط الشافعي في إيناس الرشد؛ واستحقاق دفع المال؛ جواز الشهادة; فإنه قول لم يسبقه إليه أحد؛ ويجب على هذا ألا يجيز إقرارات الفساق عند الحكام على أنفسهم؛ وألا يجيز بيوعهم؛ ولا أشريتهم؛ وينبغي للشهود ألا يشهدوا على بيع من لم تثبت عدالته؛ وألا يقبل القاضي من مدع دعواه حتى تثبت عدالته؛ ولا يقبل عليه دعوى المدعى عليه حتى يصح عنده جواز شهادته؛ إذ لا يجوز عنده إقرار من ليس على صفة العدالة؛ وجواز الشهادة؛ ولا عقوده وهو محجور عليه؛ وهذا خلاف الإجماع؛ ولم يزل الناس منذ عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا يتخاصمون في الحقوق؛ فلم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولا أحد من السلف: "لا أقبل دعاويكم؛ ولا أسأل أحدا عن دعوى غيره؛ إلا بعد ثبوت عدالته"؛ وقد قال الحضرمي الذي خاصم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه رجل فاجر؛ بحضرته؛ ولم يبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - خصومته؛ ولا سأل عن حاله؛ وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا هناد قال: حدثنا أبو الأحوص ؛ عن سماك ؛ عن علقمة بن وائل الحضرمي؛ عن أبيه قال: جاء رجل من حضرموت؛ ورجل من كندة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال الحضرمي: يا رسول الله; إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي؛ فقال الكندي : هي أرضي في يدي؛ أزرعها؛ ليس له فيها حق؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للحضرمي: "ألك بينة؟"؛ قال: لا؛ قال: "فلك يمينه"؛ فقال: يا رسول الله; إنه فاجر؛ ليس يبالي ما حلف؛ ليس يتورع من شيء؛ فقال: "ليس لك منه إلا ذلك"؛ فلو كان الفجور يوجب الحجر لسأل - صلى الله عليه وسلم - عن حاله؛ أو لأبطل خصومته لإقرار الخصم بأنه محجور عليه؛ غير جائز الخصومة؛ ولا خلاف بين الفقهاء أن المسلمين والكفار سواء في جواز التصرف في الأملاك؛ ونفاذ العقود؛ والإقرارات؛ والكفر أعظم الفسوق؛ وهو غير موجب للحجر؛ فكيف يوجبه الفسق الذي هو دونه؟! وهذا ما لا خلاف فيه بين الفقهاء؛ أن المسلمين والكفار سواء في جواز التصرف؛ والإملاك؛ ونفاذ العقود.

التالي السابق


الخدمات العلمية