الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3365 (24) باب

                                                                                              في التحصين بالقلع والخنادق عند الضعف عن مقاومة العدو وطرف من غزوة الأحزاب

                                                                                              [ 1304 ] عن البراء بن عازب قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : يوم الأحزاب ينقل التراب معنا ، ولقد وارى التراب بياض بطنه وهو يقول:


                                                                                              والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا     فأنزلن سكينة علينا
                                                                                              إن الألى قد بغوا علينا

                                                                                              زاد في رواية : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للمهاجرين والأنصار".

                                                                                              رواه البخاري (4104)، ومسلم (1803)، والرواية الثانية عند مسلم (1804) من حديث سهل بن سعد.

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (24) ومن باب: التحصين وحفر الخنادق

                                                                                              الأحزاب : جمع حزب ، وهو الجماعة من الناس ، والجملة من الشيء. وتحزب الناس : اجتمعوا . والحزب من القرآن : جملة مجتمعة منه.

                                                                                              ويوم الأحزاب : عبارة عن غزوة الأحزاب ، وهي غزوة الخندق . وكانت في السنة الخامسة من الهجرة في شهر شوال ، وكان سببها : أن نفرا من رؤساء اليهود انطلقوا إلى مكة مؤلبين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومشجعين عليه ، فجمعوا الجموع ، وحزبوا الأحزاب ، فاجتمعت قريش وقادتها ، وغطفان وقادتها ، وفزارة وقادتها ، وغيرهم من أخلاط الناس. وخرجوا بحدهم وجدهم في عشرة آلاف حتى نزلوا المدينة ، ولما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم شاور أصحابه ، فأشار سلمان بالخندق ، فحفروا الخندق ، وتحصنوا به ، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج بمن معه من المسلمين في ثلاثة آلاف ، فبرز ، وأقام على الخندق ، وجاءت الأحزاب ، ونزلت من الجانب الآخر ، ولم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل ، غير أن فوارس من قريش اقتحموا الخندق ، فخرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فرسان من المسلمين ، فأخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها ، فقتل علي عمرو بن ود مبارزة ، واقتحم الآخرون [ ص: 644 ] بخيلهم الخندق منهزمين إلى قومهم . ونقضت قريظة ما كان بينها وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، وعاونوا الأحزاب عليه ، واشتد البلاء على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ; إذ جاء عدوهم من فوقهم ، ومن أسفل منهم ، فأقام المسلمون على تلك الحال قريبا من شهر إلى أن خذل الله بين قريش وبين بني قريظة على يدي نعيم بن مسعود الأشجعي ، فاختلفوا ، وأرسل الله عليهم ريحا عاصفة في ليال شديدة البرد ، فجعلت تقلب آنيتهم ، وتطفئ نيرانهم ، وتكفأ قدورهم ، حتى أشرفوا على الهلاك. فارتحلوا متفرقين في كل وجه ، لا يلوي أحد على أحد . وكفى الله المؤمنين القتال . ثم إن رسول الله خرج إلى بني قريظة ، فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ ، كما تقدم .

                                                                                              وقوله : (

                                                                                              فأنزلن سكينة علينا

                                                                                              ) ; السكينة : السكون ، والثبات ، والطمأنينة .

                                                                                              وقوله : ( إن الأولى ) ; كذا صحت الرواية الأولى بالقصر ، فيحتمل أن يريد به مؤنث الأول ، ويكون معناه : إن الجماعة السابقة بالشر بغوا علينا . ويحتمل أن تكون (الألى) هي الموصولة بمعنى الذين ، كما قال:


                                                                                              ويأشبني فيها الألى لا يلونها ولو علموا لم يأشبوني بباطل

                                                                                              [ ص: 645 ] وقال ابن دريد :


                                                                                              إن الألى فارقت عن غير قلى ما زاغ قلبي عنهم ولا هفا

                                                                                              ويكون خبر (إن) محذوفا ، تقديره : إن الذين بغوا علينا ظالمون . وقيل : إن هذا تصحيف من بعض الرواة ، وإن صوابه : (أولاء) ممدود ، التي لإشارة الجماعة . وهذا صحيح من جهة المعنى والوزن . والله تعالى أعلم .

                                                                                              وغير خاف ما في هذا الحديث من الفقه ; من جواز التحصن ، والاحتراز من المكروهات ، والأخذ بالحزم ، والعمل في العادات بمقتضاها ، وأن ذلك كله غير قادح في التوكل ، ولا منقص منه ، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- على كمال المعرفة بالله تعالى ، والتوكل عليه ، والتسليم لأمره ، ومع ذلك فلم يطرح الأسباب ، ولا مقتضى العادات على ما يراه جهال المتزهدين أهل الدعاوى الممخرقين .

                                                                                              وقد يستدل بإنشاد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه هذه الأسجاع وأشباهها أهل المجون والبدع من المتصوفة على إباحة ما أحدثوه من السماع المشتمل على مناكر لا يرضى بها أهل المروءات -فكيف بأهل الديانات؟!- كالطارات ، والشبابات ، واجتماع المغاني وأهل الفساد والشبان ، والغناء بالألحان ، والرقص بالأكمام ، وضرب الأقدام ، كما يفعله الفسقة المجان . ومجموع ذلك يعلم فساده وكونه معصية من ضرورة الأديان ، فلا يحتاج في إبطاله إلى إقامة دليل ولا برهان . وقد كتبنا في ذلك جزءا حسنا سميناه : "كشف القناع عن حكم مسائل الوجد والسماع".




                                                                                              الخدمات العلمية