الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا الفاء - كما ذكرنا - للإفصاح عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا كان هذا ما صنعت؛ فاذهب... إلى آخره؛ وقد ذكر له عقابين؛ كما أشرنا؛ عقاب الدنيا؛ وعقاب الآخرة؛ فأما الدنيا؛ فقد قال فيه: فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس أي: فإن الذي يبقى لك فيه أن ينفر الناس منك؛ وأن تكون في حال من يمسك فيها يؤلمك أشد الإيلام؛ فإذا لقيت الناس قلت: لا مساس؛ أي: لا تمسوني؛ وإن ذلك يدل دلالة قاطعة على أن المساس يؤلمه؛ فهو مرض يصاب به؛ ويكون عبرة بين الناس بآفته.

                                                          وأقوال الزمخشري تتجه إلى أن قوله: "لا مساس "؛ منع من مخالطة الناس؛ حتى لا يجرهم إلى الضلال والفتنة؛ وقال في ذلك: عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش؛ وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعا كليا؛ وحرم عليه ملاقاتهم؛ ومكالمتهم؛ ومبايعتهم؛ ومواجهتهم؛ وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا؛ وإذا اتفق أن يماس أحدا؛ رجلا أو امرأة؛ حم المماس والممسوس؛ فتحامى الناس؛ وتحاموه؛ وكان يصيح: لا مساس؛ وعاد في الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم؛ ومن الوحش النافر في البرية؛ هذا هو عقاب السامري في الدنيا؛ نفرة من الناس؛ ونفرة منه لمرض ألم به؛ ومنع من الناس؛ ونرى الأول كما أشرنا. [ ص: 4780 ] وأما العقاب الأخروي فقد ترك أمره لله (تعالى)؛ وقال له موسى: وإن لك موعدا لن تخلفه أي أنه جاء لا محالة؛ وهو يوم البعث.

                                                          واتجه موسى إلى مادة الجريمة؛ بعد أن اتجه إلى المجرم؛ وهي صورة العجل؛ أو تمثاله؛ فقال: وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا أمره موسى أن ينظر إليه لبيان أنه ليس شيئا يعبد؛ فإن المعبود باق يدوم ولا يفنى؛ وأمره بالنظر إليه مع التعبير بأنه إلهه الذي يعبده؛ تهكما به؛ وبمن اتخذه إلها؛ الذي ظلت مخفف من "ظللت عليه عاكفا "؛ أي: ظللت مقيما عابدا لله وحده؛ لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا يقال: "حرق الشيء "؛ إذا برده بالمبرد؛ حتى صار ذرات تنسف؛ ومن ذلك قولهم: "يحرق الأرم "؛ وإنه بعد برده ينسف في البحر نسفا؛ أي: يلقى في البحر ذرات غير متجمعة؛ ولا مجموعة؛ ومن الخطإ أن يفسر "لنحرقنه "؛ بمعنى الإحراق بالنار; لأن النار تذيب الذهب وتصهره؛ ولا تجعله ذرات تنسف؛ ولأن اللغة تفسر التحريق بالبرد بالمبرد؛ وهو المعقول المناسب للمقام؛ والمتفق مع السياق؛ وكلمة النسف.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية