الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واختلف في شهادة البدوي على القروي؛ فقال أبو حنيفة ؛ وأبو يوسف؛ ومحمد؛ وزفر؛ والليث ؛ والأوزاعي ؛ والشافعي : "هي جائزة إذا كان عدلا"؛ وروي نحوه عن الزهري ؛ وروى ابن وهب عن مالك قال: "لا تجوز شهادة بدوي على قروي؛ إلا في الجراح"؛ وقال ابن القاسم عنه: "لا تجوز شهادة بدوي على قروي في الحضر؛ إلا في وصية القروي في السفر؛ أو في بيع؛ فتجوز إذا كانوا عدولا".

قال أبو بكر : جميع ما ذكرنا من دلائل الآية على قبول شهادة الأحرار البالغين يوجب التسوية بين شهادة القروي؛ والبدوي; لأن الخطاب توجه إليهم بذكر الإيمان؛ بقوله (تعالى): يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ؛ وهؤلاء من جملة المؤمنين؛ ثم قال (تعالى): واستشهدوا شهيدين من رجالكم ؛ يعني من رجال المؤمنين الأحرار؛ وهذه صفة هؤلاء؛ ثم قال: ممن ترضون من الشهداء ؛ وإذا كانوا عدولا فهم مرضيون؛ وقال في آية أخرى - في شأن الرجعة؛ والفراق -: وأشهدوا ذوي عدل منكم ؛ وهذه الصفة شاملة للجميع؛ إذا كانوا عدولا؛ وفي تخصيص القروي بها؛ دون البدوي؛ ترك العموم بغير دلالة؛ ولم يختلفوا أنهم مرادون بقوله: واستشهدوا شهيدين من رجالكم ؛ وبقوله: ممن ترضون من الشهداء ; لأنهم يجيزون شهادة البدوي على بدوي مثله؛ على شرط الآية؛ وإذا كانوا مرادين بالآية فقد اقتضت جواز شهادتهم على القروي؛ من حيث اقتضت جواز شهادة بعضهم على بعض؛ ومن حيث اقتضت جواز شهادة القروي على البدوي؛ [ ص: 230 ] فإن احتجوا بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حسين بن إسحاق التستري قال: حدثنا حرملة بن يحيى قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثنا نافع بن يزيد بن الهادي؛ عن محمد بن عمرو ؛ عن عطاء بن يسار ؛ عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية"؛ فإن مثل هذا الخبر لا يجوز الاعتراض به على ظاهر القرآن؛ مع أنه ليس فيه ذكر الفارق بين الجراح؛ وبين غيرها؛ ولا بين أن يكون القروي في السفر؛ أو في الحضر؛ فقد خالف المحتج به ما اقتضاه عمومه؛ وقد روى سماك بن حرب ؛ عن عكرمة ؛ عن ابن عباس قال: شهد أعرابي عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رؤية الهلال؛ فأمر بلالا ينادي في الناس فليصوموا غدا؛ فقبل شهادته؛ وأمر الناس بالصيام؛ وجائز أن يكون حديث أبي هريرة في أعرابي شهد شهادة عند النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافها؛ مما يبطل شهادته؛ فأخبر به؛ فنقله الراوي من غير ذكر السبب؛ وجائز أن يكون قاله في الوقت الذي كان فيه الشرك والنفاق غالبين على الأعراب؛ كما قال عز وجل: ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر ؛ فإنما منع قبول شهادة من هذه صفته من الأعراب؛ وقد وصف الله (تعالى) قوما آخرين من الأعراب بعد هذه الصفة؛ ومدحهم بقوله: ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ؛ الآية؛ فمن كانت هذه صفته فهو مرضي عند الله (تعالى)؛ وعند المسلمين؛ مقبول الشهادة؛ ولا يخلو البدوي من أن يكون غير مقبول الشهادة على القروي؛ إما لطعن في دينه؛ أو جهل منه بأحكام الشهادات؛ وما يجوز أداؤها منها مما لا يجوز؛ فإن كان لطعن في دينه فإن هذا غير مختلف في بطلان شهادته؛ ولا يختلف فيه حكم البدوي والقروي؛ وإن كان لجهل منه بأحكام الشهادات فواجب ألا تقبل شهادته على بدوي مثله؛ وألا تقبل شهادته في الجراح ؛ ولا على القروي في السفر ؛ كما لا تقبل شهادة القروي إذا كان بهذه الصفة؛ ويلزمه أن يقبل شهادة البدوي إذا كان عدلا؛ عالما بأحكام الشهادة على القروي؛ وعلى غيره؛ لزوال المعنى الذي من أجله امتنع من قبول شهادته؛ وألا يجعل لزوم سمة البدو إياه؛ والنسبة إليه علة لرد شهادته؛ كما لا تجعل نسبة القروي إلى القرية علة لجواز شهادته إذا كان مجانبا للصفات المشروطة لجواز الشهادة.

قوله - عز وجل -: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ؛ قال أبو بكر : أوجب بديا استشهاد شهيدين ؛ وهما الشاهدان; لأن الشهيد والشاهد واحد؛ كما أن [ ص: 231 ] "عليم"؛ و"عالم"؛ واحد؛ و"قادر"؛ و"قدير"؛ واحد؛ ثم عطف عليه قوله: فإن لم يكونا رجلين ؛ يعني: إن لم يكن الشهيدان رجلين؛ فرجل وامرأتان ؛ فلا يخلو قوله: فإن لم يكونا رجلين ؛ من أن يريد به: فإن لم يوجد رجلان؛ فرجل وامرأتان؛ كقوله: فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا ؛ وكقوله: فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ؛ ثم قال: فمن لم يجد فصيام شهرين ؛ إلى قوله (تعالى): فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ؛ وما جرى مجرى ذلك في الأبدال التي أقيمت مقام أصل الفرض؛ عند عدمه؛ أو أن يكون مراده: فإن لم يكن الشهيدان رجلين؛ فالشهيدان رجل وامرأتان؛ فأفادنا إثبات هذا الاسم للرجل والمرأتين؛ حتى يعتبر عمومه في جواز شهادتهما مع الرجل في سائر الحقوق؛ إلا ما قام دليله؛ فلما اتفق المسلمون على جواز شهادة رجل وامرأتين مقام رجلين؛ عند عدم الرجلين؛ فثبت الوجه الثاني؛ وهو أنه أراد تسمية الرجل والمرأتين "شهيدين"؛ فيكون ذلك اسما شرعيا يجب اعتباره فيما أمرنا فيه باستشهاد شهيدين؛ إلا موضعا قام الدليل عليه؛ فيصح الاستدلال بعمومه في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكاح إلا بولي وشاهدين"؛ وإثبات النكاح؛ والحكم بشهادة رجل وامرأتين؛ إذ قد لحقهم اسم شهيدين؛ وقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - النكاح بشهادة شاهدين.

التالي السابق


الخدمات العلمية