الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          ذكر ما قيل في آية المحاربة 2259 - مسألة : قال علي : قال قوم : آية المحاربة ناسخة لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ، ونهي له عن فعله بهم - واحتجوا في ذلك بما نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرني عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار عن الوليد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أنس بن مالك [ ص: 286 ] { أن نفرا من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا فاجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ، ففعلوا ، فقتلوا راعيها واستاقوها ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة ، فأتي بهم ، فقطع أيديهم ، وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، ولم يحسمهم ، وتركهم حتى ماتوا فأنزل الله تعالى { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } }

                                                                                                                                                                                          الآية . حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا أحمد بن عمرو بن السرح أنا ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن ابن عجلان عن أبي الزناد قال : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع الذين سرقوا لقاحه ، وسمل أعينهم بالنار ، عاتبه الله تعالى في ذلك فأنزل الله تعالى { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية } حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا محمد بن المثنى نا عبد الصمد - هو ابن عبد الوارث بن سعيد التنوري - نا هشام - هو الدستوائي - عن قتادة عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث في خطبته على الصدقة ، وينهى عن المثلة قال أبو محمد رحمه الله : كل هذا لا حجة لهم فيه ، ولا يجوز أن يقال في شيء من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله إنه منسوخ إلا بيقين مقطوع على صحته ، وأما بالظن ، الذي هو أكذب الحديث فلا . فنقول - وبالله تعالى التوفيق : أما الحديث الذي صدرنا به من طريق أبي قلابة عن أنس ، فليس فيه دليل على نسخ أصلا - لا بنص ولا بمعنى - وإنما فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع أيدي العرنيين وأرجلهم ، ولم يحسمهم ، وسمل أعينهم ، وتركهم حتى ماتوا ، فأنزل الله تعالى آية المحاربة - وهذا ظاهر : أن نزول آية المحاربة ابتداء حكم ، كسائر القرآن في نزوله شيئا بعد شيء ، أو تصويبا لفعله عليه السلام بهم ; لأن الآية موافقة لفعله عليه السلام في قطع أيديهم وأرجلهم ، وزائدة على ذلك تخييرا في القتل ، أو الصلب ، أو النفي - وكان ما زاده رسول الله صلى الله عليه وسلم على القطع من السمل ، وتركهم لم يحسمهم حتى ماتوا قصاصا بما فعلوا بالرعاء :

                                                                                                                                                                                          [ ص: 287 ] كما نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا الفضل بن سهل الأعرج - مرزوقي ثقة - نا يحيى بن غيلان - ثقة مأمون - نا يزيد بن زريع عن سليمان التيمي عن أنس بن مالك ، قال : إنما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعين أولئك العرنيين ; لأنهم سملوا أعين الرعاء . وقد ذكر في الحديث الذي أوردنا أنهم قتلوا الرعاء ، فصح ما قلناه من أن أولئك العرنيين اجتمعت عليهم حقوق : منها المحاربة ، ومنها سملهم أعين الرعاء ، وقتلهم إياهم ، ومنها الردة - فوجب عليهم إقامة كل ذلك ، إذ ليس شيء من هذه الحدود أوجب بالإقامة عليهم من سائرها ، ومن أسقط بعضها لبعض فقد أخطأ ، وحكم بالباطل ، وقال بلا برهان ، وخالف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك أمر الله تعالى بالقصاص في العدوان بما أمره به في المحاربة ، فقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحاربة ، وسملهم للقصاص ، وتركهم كذلك حتى ماتوا ، يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا ; لأنهم كذلك قتلوا هم - الرعاء - فارتفع الإشكال - والحمد لله كثيرا . وأما حديث أبي الزناد فمرسل ، ولا حجة في مرسل ، ولفظه منكر جدا ; لأن فيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاتبه ربه في آية المحاربة ، وما يسمع فيها عتاب أصلا ; لأن لفظ " العتاب " إنما هو مثل قوله تعالى { عفا الله عنك لم أذنت لهم } . ومثل قوله تعالى { عبس وتولى أن جاءه الأعمى } الآيات . ومثل قوله تعالى { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } وأما حديث المحاربة ، فليس فيها أثر للمعاتبة . وأما حديث قتادة عن أنس في الحث على الصدقة والنهي عن المثلة فحق ، وليس هذا مما نحن فيه - في ورد ولا صدر - وإنما يحتج بمثل هذا من يستسهل الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مثل بالعرنيين ، وحاش لله من هذا ، بل هذا نصر لمذهبهم في أن من قتل بشيء ما لم يجز أن يقتل بمثله ; لأنه مثلة وهم يرون على من جدع أنف إنسان وفقأ عيني آخر ، وقطع شفتي ثالث ، وقلع أضراس رابع ، وقطع أذني خامس : أن يفعل ذلك به كله ، ويترك ، فهل في المثلة أعظم من هذا لو عقلوا عن أصولهم الفاسدة ؟

                                                                                                                                                                                          [ ص: 288 ] وحاش لله أن يكون شيء أمر الله تعالى به ، أو فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلة ، إنما المثلة ما كان ابتداء فيما لا نص فيه ، وأما ما كان قصاصا أو حدا كالرجم للمحصن ، وكالقطع أو الصلب للمحارب ، فليس مثلة - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وقد روينا من طريق مسلم ما ناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا يحيى بن يحيى التميمي أرنا هشيم عن عبد العزيز بن صهيب ، وحميد ، كلاهما عن أنس بن مالك { أن ناسا من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فاجتووها فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها ؟ ففعلوا ، فصحوا ، ثم مالوا على الرعاء فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام ، وساقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم فأتي بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وتركهم في الحرة حتى ماتوا } . حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا علي بن حجر نا إسماعيل ابن علية نا حميد عن أنس قال { قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ناس من عرينة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو خرجتم إلى ذودنا فكنتم فيها ، فشربتم من ألبانها ، وأبوالها ؟ ففعلوا ، فلما صحوا قاموا إلى راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه ورجعوا كفارا ، واستاقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل في طلبهم ، فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم } قال أبو محمد رحمه الله : فهذه كلها آثار في غاية الصحة - وبالله تعالى التوفيق . المحارب يقتل

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية