الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الإعـلان من منظـور إسلامي

الدكتور / أحمد عيساوي

تقديم: عمر عبيد حسنة

الحمد لله الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لـم يعلم.. جعل الإنسان مخلوقا مكرما بأصل الخلق، مـهما كان جنسـه أو لونه أو قومه،

قال تعالى: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء:70) ..

ومنحه الإرادة والاختيار، التي تعتبر من أبرز خصائص هذا التكريم.. وعلمه الأسماء كلها، التي تشكل مفاتيح التعامل مع الحياة،

قال تعالى: ( وعلم آدم الأسماء كلها ) (البقرة:31) ،

وزوده بقابليات وقدرات وطاقات متميزة انطوى فيها العالم الأكبر من حوله، لتمكنه من حمل الأمانة والقيام بأعباء الاستخلاف والعمران والقـدرة على التحقق بسنة التسخير للكون بكل مكونـاته، وناط به أمر توجـيه وتشـغيل وتوظيف هذه القـابليات والطاقات في مجال التزكية وفعل الخير والصلاح، وإلا كان الجنوح بها نحو التدسية والفساد والإفساد وسفك الدماء،

قال تعالى: ( قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ) (الشمس:9-10) ،

واستدل على ذلك من العمق التاريخي للبشرية، بالإتيان على ذكر قصص النبوة السابقة، لتكون رصيد عبرة ودرس لأمة الرسالة الخاتمة.

كما جعل معرفة الوحي في الكتاب والسنة مناط الهداية لتلك [ ص: 11 ] القابليات، حتى لا يضل الإنسان ولا يشقى.. وجعل المسئولية عن العمل والكسب، سبيلا لتخليص الإنسان من حالة العبثية والعدمية والضياع، وفرعا لتلك الحرية وإرادة الاختيار.

والصلاة والسلام على المبعـوث رحمة للعالمين، الذي كانت حياته تجسيدا لقيم الإسلام، وترجمة أمينة لتعاليمه، ودليلا على إمكانية تنزيل هذه القيم على واقع البشر وقابلية التطبيق، ومحلا للتأسي والاقتداء، حتى تسلم المبادئ من فساد التطبيق والتنـزيل، كما عصمت القيم وحفظت من التحريف والتبديل، فقد وصفت السيدة عائشة رضي الله عنها خلق النـبي صلى الله عليه وسلم ومسالكه بقولها: ( كان خلقه القرآن ) (أخرجه الإمام أحمد ) ..

وبعد:

فهذا كتاب الأمة الحادي والسبعون: (الإعلان من منظور إسلامي) ، للدكتور أحمد عيساوي، في سلسلة (كتاب الأمة) التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في إعادة الوعي برسالة الأمة، واسترداد دورها الغائب بالأقدار المطلوبة، وتحريك طاقاتها المعطلة، والتعرف على الإمكـان الحضـاري الذي تمتـلكه، والذي يؤهـلها لاستئناف دورها في الشهادة على الناس والقيادة لهم إلى الخير، وتحقيق الوراثة الحضارية، والإيضاح أنها لا تتميز بما تعلنـه نظـريا من قيم ومبـادئ إلا بمقدار ما تحققه من إنجاز في حياة الناس، وأن تجسيد هذه المبادئ [ ص: 12 ] وتنزيلها على حياة الناس تحكمه قوانين وسنن تجرى عليها الحياة، لا بد من إدراكها واستكناه حقيقتها من خلال السنة والسيرة وتجربة خير القرون، وأن مناطها عزمات البشر والسنن الجارية، وليست الأمنيات والانتظار والتطلع إلى حدوث السنن الخارقة.

ولعل من الأمور التي ما تزال بحاجة إلى مزيد من البحث والتحرير في الذهنية الإسلامية المعاصرة، لتصبح يقينا عمليا، أن المدافعة بين الخير والشر هي سنة الحياة وسبيل النمو والارتقاء، وأن الشر من لوازم الخير، وأن الفعل التاريخي وامتداد الحياة هو ثمرة للضرب بين الحق والباطل،

قال تعالى: ( كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) (الرعد:17) ،

وأن هذه المدافعة هي من رحمة الله بعباده والتمكين لإظهار الحق واستمراره، وسبيل من سبل الحيلولة دون الفساد واستمرار الإفساد،

قال تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) (الحج:40)

فالمدافعة سبيل للنمو، وشحذ للطاقات، وتجميع للقدرات، وترقية للمواهب، واكتشاف للسنن، وتطوير للملكات، وإدراك للنواميس الفاعلة في الحياة، بل هي سمة الحياة الدنيا وسبيل استمرار التاريخ البشري على الأرض، وبضدها تتميز الأشياء كما يقال. [ ص: 13 ]

وتزداد الإشكالية في هذا البحر المتلاطم الأمواج وهذا الصخب الحياتي بفقدان القيم الهادية والدليل المرشد والمعيار السليم والبوصلة المحددة للوجهة، لذلك تشتد الأزمة وتستحكم أكثر فأكثر بتغييب معرفة الوحي عن فلسفة الحياة، وكيفية التعامل معها.

ولعلنا نقول: إن ذلك يلخص أزمة الحضارة العالمية اليوم، التي تظهر جليا في سائر أنشطتها الحياتية وأنظمتها المعرفية، ويستدعي ضمنا البديل المؤهل للوراثة الحضارية، أو على الأقل لتقديم العلاج والإضافة الحضارية،

يقول تعالى: ( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ) (الأعراف:137) ،

ويقول: ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) (الأنبياء:105) ،

حيث البقاء للأصلح والعاقبة للتقوى، وليس للأقوى إلا إذا كان الأصلح هو الأقوى، والأقوى هو الأتقى.. وهذه حقائق وبصائر لم يدركها إلا ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين.

وقد تتحدد الإشكالية اليوم بشكل عـام، أن اليقظة الإسـلامـية أو الصحوة بعامة، جاءت بعد انقطاع أو قطيعة عن الفعل الحضاري حينا من الدهر، الأمر الذي ترك فجـوات تخلف هائلة يصعب ردمها أو تجاوزها أو طيها بسهولة، حيث توهم الكثير في عالم المسلمين، نتيجة رجع الصدى والمحاكاة (للآخر) ، أن التخلف كان نتيجة [ ص: 14 ] للاستمساك بالإسلام، وليس بسبب الانسلاخ منه، حتى جاءت الأدلة الدامغة والاستقراء التاريخي الحضاري تؤكد أن تخلف المسلمين هو بسبب الانسلاخ عن الدين وليس بسبب الاستمساك به والالتزام بقيمه.

ولعل التحدي الكبير اليوم لم يعد قاصرا على ساحة الفكر والقيم وصدام الأفكار وحدها، وإنما امتد إلى المنتج الذي بدأ يدعم الثقافة والفكر ويقنع بصلاحها; في الوقت الذي بقيت الصحوة الإسلامية عند حدود الإحساس بالمشكلة دون القدرة على الانتقال إلى حالة الإدراك لأبعادها وتحليل أسبابها واكتشاف سننها، ومحاولة التعامل معها من خلال رؤية واضحة.

والحقيقة التي لا بد من تسجيلها هنا، أن الصحوة وإن لم تستطع ردم فجوات التخلف وطي مسافاته، لتشعب تحدياتها وكثرة مدافعاتها، وعجزها في خضم ذلك عن وضع استراتيجية سليمة تأخذ بالاعتبار الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة وتضع الزمن في اعتبارها، ومحاولتها البائسة في التطلع إلى ما لا تملك على حساب حسن توظيف واستثمار ما تملك، وإعلانها عن الكثير من المهام، التي قد لا تتناسب مع استطاعاتها، وسعيها للابتعاد عن المجتمعات وتشكيل أجسام منفصلة، لم يتحقق لها النجاح المأمول، الأمر الذي أوقع بالإحباط والانكسار والتخاذل، خاصة عند الكثير من الذين لم يستطيعوا تجاوز الصورة إلى الحقيقة.

وفي تقديرنا لو أن الصحوة أعادت التفكير باستمرار الاندماج في [ ص: 15 ] المجتمعات القائمة -والاندماج لا يعني الذوبان- ومحاولة التوسع في دوائر الخير فيها، وإثارة وتنمية الجوانب الإيجابية، وتقديم النماذج الخيرة القدوة في المواقع المتعددة، والعمل من داخل المجتمع لا من خارجه، لكان العطاء أكبر والله أعلم، ولكانت جزءا لا يتجزأ من نسيج الأمة.

ومع ذلك لا بد من الاعتراف أن حركة اليقظة الإسلامية المعاصرة وإن لم تستطع تحقيق النقلة الحضارية للأمة، لسبب أو لآخر، فإنها استطاعت أن توقف حالة الانبهار والانهيار، ولفت النظر إلى أهمية فحص الوافد حتى ولو لم تمتلك حتى الآن القدرات والأدوات الكافية لهذا الفحص لغياب التخصصات الحضارية والمعرفية المطلوبة، كما أنها لم تستطع بعد تقديم البدائل المقنعة وغير العاطفية.

وتبقى المشكلة، الاستمرار في حالة الصحوة وتفريك العيون لتبصر طريقها دون التقدم المأمول خطوات منهجية باتجاه الأداء والإفادة من معطيات الحضارة في ضوء القيم الإسلامية.

ولعل القضية الأهم هنا والجديرة بمزيد من التفكير والنظر والتبصر وتحقق القناعة الكاملة، أن الإسلام في رؤيته للحياة أو فلسفته لها بشكل عام، قدم قيما ضابطة وأطرا مرجعية، ولم يقدم برامج محددة، إلا في القضايا التي تعتبر من الثوابت أو تلك التي تميز المجتمع المسلم وتحتفظ بوجهته وقبلته وشاكلته الثقافية وخصائصه، أما فيما وراء ذلك فترك الأمر للاجتهاد والتفكير والإفادة من التبادل المعرفي وحركة [ ص: 16 ] العقل المسترشد بهداية الوحي وضوابطه، المعصوم بها.

وهذا بلا شك كان سبب خلود الإسلام ومرونته واستمرار عطائه، لأن ذلك يمنح العقل أقدارا من الحركة والانطلاقة والحرية والإنجاز والاستشراف المستقبلي، ويحمي الطاقات الفكرية من الضياع والإهدار.

وأما البـرامج والاجتهـادات وهذا المخـزون التـراثي الضخم، الذي لو عرفنا كيف نتعامل معه، وحاولنا التمييز بينه وبين القيم والمعايير في الكتاب والسنة، لتحول من مشكلة إلى حل، بل لعلنا نقول: بأننا الوحيدون بين الأمم الذين لا نعيش الآبائية وأسر الذات، لأننا نملك معايير الحكم على التراث وجميع الإنتاج البشري من خلال معرفة خارجة عن وضع الإنسان هي معرفة الوحي، التي نتحرر بها من أقوال البشر وأسر التراث، وعندها يتحول التراث من مانع ومعوق إلى دافع ومخصب للرؤية.

لذلك يمكن القول: إن هذا التراث الضخم، إلى جانب أنه دليل الحيـوية والامتـداد، فإنه يمنح آفاقا وتجارب تفتقدها الكثير من الأمم، ولا يلزمنا بتنزيله على الواقـع المتغير، ولا يشكـل لنا حاجزا أو عائقا أو بديلا عن الكتاب والسنة، فصوابية هذا الاجتهاد لعصر لا تعني بالضرورة صوابيته لكل عصر. والمهم في كل عصر أن تبقى معرفة الوحي المعصومة الخالدة هي الموجهات الأساسية للمسالك والاجتهادات، وتبقى هي معيار الخطأ والصواب للإنتاج التراثي.

ولو أدركنا أن عطاء الوحي هو معايير وقيم وإطار مرجعي، لمنحنا [ ص: 17 ] ذلك آفـاقا رحبة، وفك عقدة الخـوف من الاجتهاد وإطلاق الفكر، وما يترافق مع ذلك من محاولات التجريم والتأثيم، وأسقط القدسية عن اجتهادات البشر، وفتح المجال للحوار والمثاقفة والمشاورة والمدارسة.

ففي ضوء عطاء الوحي المعصوم وما يقدم من موازين ومعايير وقيم مرجعية، تصاغ البرامج، وتنطلق العقول لإقامة العمران، وتتولد المعارف وتتجه صوب تحقيق أهدافها، ويتم الإنتاج -الثقافة- بشعبه المتعددة، السياسية والاقتصادية والإعلامية والإعلانية والتربوية...إلخ.

لقد أصبح من الأمـور المحسـومة ثقـافيا، أن إنتـاج الأمـور المادية أو ما يسمى بعالم الأشياء لا يند عن هذه القيم والمعايير، أو ينفصل عن عالم الأفكار، حيث لا يمكن أن يتصور أي منتج مادي في المجالات جميعا غير مسبوق بفكرة أو بثقافة أو بمحركات فكرية دفعت للإنتاج.. كما لا يمكن أن يتصور أي منتج مادي في عالم الأشياء غير مشبع بثقافة وأفكار منتجيه. ولا يخرج المنتج المادي في نهاية الأمر عن أن يكون تجسيدا لثقافة المنتج، وتحولها من أمور مجردة إلى أشياء مجسدة.

لذلك يمكن القول: بأن المنتجات المادية شواهد ومشخصات ثقافية أو رسائل ثقافية، تسهم إلى حد بعيد من خلال رؤيتها واستعمالها وطريقة التعامل معها إلى صناعة القابليات وتغيير العادات، أو التدخل في الأنماط الحياتية والاجتماعية، وترك آثار بعيدة [ ص: 18 ] الغور في الشخصية الإنسانية وإعادة تشكيلها الثقافي.

ونستطيع القول أيضا: إن المنتجات المادية هي في حقيقتها رسائل ثقافية غير مراقبة، لأنها تدخل من أوسع الأبواب ومن أضيق الشقوق، وتستهدف جميع مداخل الإنسان العقلية والعاطفية والشعورية واللاشعورية والغريزية.. والذين لا يرون في المنتجات المادية رؤية وفلسفة ثقافية أو حضارية معذورون، لعجزهم عن تجاوز الصور إلى الحقيـقـة الكامنـة في داخلـها والقابـعة وراءهـا والتي لا يدركهـا إلا أصحاب البصيرة ويعجز عنها أصحاب النظر السطحي.

لذلك فإن التوهم بحياد المنتجات المادية وعدم انحيازها -دليل من بعض الوجوه- على قدرتها على أداء رسالتها على أكمل وجه، وتحقيق أهدافها بصمت وهدوء.

وتأتي خطورة هذه المنتجات المادية وآثارها في مسيرة الأمة ومسالكها بأن إدراك أبعادها الثقافية لا يتحصل إلا بعد فوات الأوان والتنبه إلى امتلاك القدرة على كيفية التعامل معها، واستشعار أهمية التأسيس لمنتجات تتولد من خلال رؤية الأمة وفلسفتها للحياة وقيمها الضابطة لمسيرتها الحضارية.

وقد يتعذر على الأمة التي عاشت ردحا في التخلف وسبقت في مجال العلم والتكنولوجيا، أن تطوي الزمن بسرعة وتمتلك القدرة على تحقيق إنتاج مادي مأمول قادر على المنافسة أو مغر بالاستعمال.. وإزاء [ ص: 19 ] هذه الحالة، قد يكون من المفيد أن تبصر الأمة المسلمة موقعها من الحضارة العالمية، وتحدد دورها المؤثر والغائب بدقة، ولعل في مقدمة ذلك اليوم أن تبشر برؤيتها وفلسفتها للحياة، وتحاول أن توظف وسائل الاتصال المتاحة حتى ولو كانت من إنتاج (الآخر) لإيصال رسالتها وثقافتها إلى عقول المنتجين، وتحقق لهم الثقافة المطلوبة، وتوصل إليهم القيم الهادية لمسيرة البشرية والتي يمكن أن ترشد إنتاجهم، لعل ذلك ينعكس على عقلية الإنتاج ويضبط مخرجاته بأهداف إنسانية.

ونحب أن نؤكد دائما، وفي التاريخ الحضاري شواهد على ذلك، أن ثقافة المغلوب يمكن أن تكـون أقـوى من قوة الغـالب المـاديـة، وأنه بالإمكـان تحويل القـوة المادية لصـالح الثقافة السليـمة، حتى ولو حاولت القوة المادية محاصرة الثقافة وتطويعها لها لبعض الوقت وكان لها الظهور.

ومن جانب آخر، فإن التفكير خارج إطار الإنتاج الثقافي أو المادي (للآخر) واكتشاف الموقع الممكن لتحقيق الإضافة وكيفية التعامل معه من خلال ثقافة الأمة وقيمها، تفكير عقيم وعاجز عن الاستيعاب والتبادل المعرفي والإفادة من التجارب، وخروج من الحياة، الأمر الذي سوف يؤدي بالتالي إلى مزيد من الارتكاس والتراجع والانقطاع والانكفاء، ذلك أن الانكفاء عن محيط (الآخر) ورفض جميع منتجاته الثقافية والمادية ومحاولة تشكيل جزر منفصلة في المحيط العالمي -على الرغم من أن ذلك أصبح مستحيلا في عالم اليوم بكل [ ص: 20 ] وسائله وأدواته في الاتصال- لا يقل خطورة عن الارتماء في محيط (الآخر) والذوبان في أوعيته والقبول بكل منتجاته الثقافية والمادية.

إن وسائل الإعلام وفنون الإعلان أصبحت اليوم قسيم الهواء الذي نتنفسه، وبديل الكواكب التي نهتدي بها، فهي أشبه ما تكون بعقود الإذعان التي تحتل نفوسنا وبيوتنا، وتملأ أوقاتنا، وتصنع قابلياتنا واهتماماتنا، وتسلب إراداتنا، وتقودنا حيث تريد، إلى ما يمكن أن نسميه ولو تجاوزا بـ : القدرية الإعلامية والإعلانية.

ونعتقد أن هذه الوسائل أو المنتجات بمقدار ما تشكل لنا من مشكلة، وتروج لثقافة منتجيها وإنتاجهم المادي الذي يحكم سلوكنا ويتحكم بأنماط حياتنا، بمقدار ما يمكن أن تشكل لنا حلا ووسيلة يمكن توظيفها للبلاغ المبين، وإفساح المجال لتحقيق صدق الأفكار وحوار الثقافات، وإمكانية إظهار الإسلام على الدين كله، بما يمتلك من الحقيقة، واستجابة الفطرة، والتجربة الحضارية التاريخية، وبناء المجتمع المفتوح البعيد عن التعصب والعنصرية، واسترداد إنسانية الإنسان واحترام اختياره وكرامته.

وبالإمكان القول: إن الإعلان اليوم بعد هذا التطور التقني الهائل الذي مكن من توظيف الفكرة وتجسيدها في صور وألوان وأصوات، بات وكأنه الأفق الثقافي الأكثر تأثيرا في حياة الفرد والجماعة خلال القرن المقبل، والقوة الإعلامية والثقافية التي لا يمكن تجاوزها أو الاستغناء عنها. [ ص: 21 ]

فالإعلان أصبح يشكل الخلاصة المتطورة والمتقدمة للإعلام بشكل عام، وهو ثمرة لمجموعة علوم وفنون، وعلى الأخص العلوم الاجتماعية والإنسانية من مثل علم النفس وعلم التربية وعلـوم الاجتـماع وعلوم أو فنون الإعلام، وكل الدراسات التي حاولت الوصول للإنسان وفتح مغاليقه وإعادة تشكيله، وجميع الدراسات التي تمت في إطار الوسائل التأثيرية وطبيعتها والتعرف على نسبة تأثيرها.. فالإعلان فن إلى جانب كونه علما، يرتكز على الابتكار والتجديد والتطوير والحركة المستمرة وامتلاك القدرة الدائمة على توفير وسائل الإثارة والاهتمام، ومحاولة ملامسة رغبات الناس وهمومهم ومآسيهم، والإغراء بالحصول على المعلن واحتيازه، والجري وراء السعادات الموهومة.

وغالبا ما يرتكز الإعلان ويلجأ إلى التفتـيش على الممنـوعـات، أو إن شئت فقل بعض العورات والمحرمات، ويحاول استخدامها كأوعية وأطر إعلانية، مستخدما نزوع الإنسان لمعرفة المستـور عادة، فيقدم له ما يريد ترويجه والإغراء به على لوحة مثيرة للانتباه محركة للفضول، داعية لمتابعة النظر. وبذلك يضمن حضور المعلن عنه، من خلال ربطه بغيره لتحقيق انطباعه وإقحامه في الذهن.

ومن هنا كان اللجوء إلى جسد المرأة وتقديمه كمحل للاستمتاع باسم الفن، ومحور للإعلان عن كل شيء، حيث يباع على جسدها اللباس، والأثاث، والحذاء، والطعام، والشراب، ويروج للبضائع والحفلات، ويزاح الستار عن لحظات من المناظر الشاذة التي تغري [ ص: 22 ] بالمتابعة، وكثيرا ما تسوق البضاعة ويكون شراؤها سبيلا لتحقيق بعض الرغائب.. وغالبا ما يركز الإعلان على إثارة شهوات البطون والفروج، ويخاطب الغرائز، ويحرك العواطف.. ويستخدم رغبات الناس ويجنح إلى التكرار لترسيخ المعاني التي يريدها، فيشيع روح القطيع في الجمهور حيث تسلب الإرادة، ويلغى الاختيار، وينقاد الناس للمعلن، ويقبلون على الاستهلاك بنوع من التقليد الجماعي وعدم التفكير بالحاجة للمعلن عنه، أو الإمكانية المادية للحصول عليه، أو الأولوية المطلوبة لحياة الفرد والمجتمع.

والإعلان لا يخرج في النهاية عن كونه أحد وسائل الإعلام، لأنه يرتكز إلى إيصال معلومة أو رسالة إلى المتلقي، ويتفنن في هذا الإيصال. بل لعلنا نقول: إن وسائل الإعلام جميعا من مرئية ومسموعة هي في خدمة الإعلان، وقد تنشأ من أجله، وعلى أحسن الأحوال تتسابق للحصول عليه.. وقد يكون الاجتهاد في جلب العدد الضخم من المشاهدين والجمهور، عن طريق الأوعية والمواد الإعلامية المتنوعة، سبيلا لجذب المعلن أو الحصول على الإعلان.. لذلك فالتفنن والتنوع بالمواد الإعلامية والنجاح، سوف يحقق مساحات من الإعلان أكبر ومردودا ماليا ضخما.

من هنا نقول: إن الإعلان أصبح اليوم من أخطر وسائل التشكيل الثقافي، ذلك أن الكثير من الوسائل الأخرى، حتى التي تلجأ إلى اللهو والعبث، يمكن أن تتحول إلى عكس ما أرادت، فقد تستفز [ ص: 23 ] الإنسان المتلقي، وقد تثير غيرته واشمئزازه، وتحدث ردود فعل معاكسة، أو على الأقل توجد حواجز نفسية تحول دون اقتحام شخصيته، أما الإعلان فإنه يتسلل إلى النفس من جميع نوافذها، وغالبا ما تختار له الفترات بين البرامج الإعلامية، حيث يكون الإنسان مؤهلا للتلقي، إما عاطفيا أو غريزيا، أو عقب إجهاد عقلي يشكل الإعلان بعدها محطات للراحة ويدخل من خلال حالات الاسترخاء.

وبهذا الاعتبار، يمكن التأكيد على أن الإعلان بات من أخطر وسـائل التشكيـل الثقـافي، لأنه يتسـلل إلى النفـس بدون حواجز أو معوقات، ولأنه يبدو محايدا وتجاريا أكثر من وسائل وأوعية الإعلام الأخرى. ولقد وصل تأثيره وأحكمت سيطرته إلى درجة القدرة على إلغاء المواد الإعلامية الأخرى مهما ادعي من أهميتها، لتفسح له المجال لاحتلال المساحة المطلوبة.

وبالإمكان القول: إنه يكاد يكون المتحكم الأقدر في توجيه الرأي العام وتشكيل سلوكياته، ذلك أنه ينتهي إلى نوع من السيطرة ولون من الاحتكار، فالشركات الكبرى للإنتاج والإعلان هي التي تفقر وتغني، وتفرض إرادتها، وتظن أنها تحيي وتميت على الطريقة النمرودية.. فسيطرة رأس المال، ليس على السياسة والسياسيين فحسب، كما كان يعتقد في المذاهب الاقتصادية السابقة، وإنما على الإعلام والأسواق والإنتاج والجمهور أيضا.. والسيطرة على الجمهور والتحكم بسلوكياته هي الأخطر، لأن الجمهور هو المعقل الأساس [ ص: 24 ] للثقافة والمناخ المناسب للتنمية، والمجال الخصب للتوارث الاجتماعي. فالجمهور اليوم أصبح أسيرا للإعلان إلى حد بعيد.

ويزداد الأمر خطورة أن تسويق الإعلان وانتشاره لم يعد إقليميا، وإنما نستطيع القول: بأن الإعلان هو أول وسائل وسبل ومعابر العولمة والتحكم الثقافي العالمي، لما تحمل الأشياء المعلن عنها من ثقافات أصحابها، ولما يضفي الاستخدام والتعامل معها من أنماط سلوكية متوافقة مع ثقافة المنتج.

وقد تكون الإشكالية الأشد خطورة أن فلسفة الإعلان في الحضارة الغربية، التي تقوم على الإثارة والإغراء والجذب، قائمة على التفريق بين الجمال وبين الأخلاق، وأن الجمال هو المادة الأساس للترويج والإثارة حتى لو كان ذلك على حساب النظام الخلقي أو الضوابط الخلقية، حيث يطارد الإعلان اليوم القيم الأخلاقية ويحاول حشرها في زوايا مغيبة أو معتمة أو معزولة عن المجتمع، وأن الانفلات الأخلاقي وتكسير القيود وإلغاء الممنوعات أصبح هو السبيل للنجاح الإعلاني وتحصيل الربح المادي، لذلك كانت مجلات وأفلام الدعارة والتعري هي المجال الأخصب للنمو الإعلاني والكسب المادي والعب من لذائذ اللحظة وحظوظ النفس حتى ولو كان المآل أسودا.

لذلك فنظرية التفريق بين الأخلاق والجمال، هي المعادلة الصعبة في النطاق الإعلاني والإعلامي والإبداعي على حد سواء، وما لم نر [ ص: 25 ] الجمال في الأخلاق والأخلاق في الجمال، فسوف يكون الإعلان وسيلة انحلال وتفسخ وترد ثقافي.

ولا يقتصر أثر الإعلان السلبي على الجـانب الأخـلاقي، وتوهـين أو تدمير القيم الأخلاقية، وإنما يتجاوز ذلك إلى البعد الاقتصادي والتنموي، ذلك أن الإعلان في معظمه يتركز حول ترسيخ عادة الاستهلاك والعب من المتع والإغراء بها، أي أنه يقدم أنموذجا للاقتداء هو إنسان الاستهلاك والتركيز حول الدنيا ومتعها ولذائذها، ولا نجد فيه الحد الأدنى من تقديم الأنموذج للإنسان المنتج والإغراء باقتدائه، حتى إن معايير التنمية في معظم بلاد العالم اليوم أصبحت تعتمد قياس استهلاك الفرد دون إنتاجه، فإذا ارتفع الاستهلاك كانت مؤشرات التنمية متقدمة ومبشرة. وقد لا نجد إلا بعض الأصوات الخافته، التي تحاول اعتماد الإنسان المنتج هو معيار التنمية أو النمو.

وبمعنى آخر، فإن الإعلان والإعلام والثقافة التنموية تركز على تقديم أنموذج إنسان الحق وتغييب أنموذج إنسان الواجب.. ولسنا بحاجة إلى بيان خطورة العدول عن إبراز دور الإنتاج إلى التمركز حول الاستهلاك واعتباره المقياس المغري بالاتباع، وخطورة ذلك على الإنتاج القومي، وبذلك يتحول الناس على مختلف مستوياتهم إلى أسواق استهلاك وزبائن -رغم إرادتهم- لشركات الإنتاج الكبرى، التي تحاصرهم وتتحكم بطعامهم وشرابهم ولباسهم وأوقاتهم، وتقودهم إلى حيث تريد. [ ص: 26 ]

والحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها، أن السبق في مجال الإنتاج الثقـافي والمـادي بشكل عام يشكل تحـديا كبـيرا، فـهو إما أن يؤدي للشـلل والاستسـلام والارتماء، وإما أن يحـرك الجوانب الرخوة في الشعوب ويحفز على الحركة ويجمع القوة ويشحذ العزيمة ويدعو للمحاولة.

ولعل المشكلة التي تتطلب التأمل والنظر، أن المحاولة للحاق الحضـاري سوف تبقى خاضـعة لأصحـاب التحكم الثقـافي بشكل أو بآخر، حتى ولو كان الباحث الذي يقوم بالمقاربة منتميا إلى حضارة وثقافة أخرى، ذلك أن من مقتضيات السبق وما يورثه من تحد، ويغري به من اتباع، وما يكشف من مجالات، يفرض بشكل تلقائي وعضوي على المتخلفين عن الركب الحضاري موضوعات البحث والدراسة ومجالات الإنتاج، بحيث تصبح خياراتهم في تحديد نوعية الدراسات والبحوث محددة مسبقا بسبب أن تحدي السبق هو المتحكم، ليس في نطاق نوعية الاختيار فقط وإنما في التحريك الثقافي ضمن الإطار والمرجع والأدوات المعـرفية المسبقة والمتقدمة التي من الصعب تجاوزها أو تجاهلها، لذلك تأتي المقاربات والمقارنات ضمن رؤية السابق وتحكمه الثقافي.

ومن هنا يتأكد أكثر فأكثر من الناحية الثقافية والحضارية، أهمية بناء المرجعية وتحرير المعيار لامتلاك القدرة على هضم المنتج المتقدم، ومحاولة إعادة إخراجه طبقا لمواصفات وأهداف معينة، بحيث يتحول [ ص: 27 ] لخير البشرية والمساهمة بنموها وارتقائها، ذلك أن العمل من خارج الحضارة وخارج المجتمع سوف يؤدي إلى القطيعة والمحاصرة والتخلف والعجز حتى ولو حقق بعض الحماية الموقوتة.

ولا خيار للمثقفين والمهتمين بقضايا الأمة من العودة للعمل من داخل الحضارة والمجتمع، والتوسع في دوائر الخير فيه بحسب الاستطاعة، وتحويل سياسة الإغراق والإغراء الإعلاني إلى ضروب من استشعار التحدي والاستفزاز، وبذلك تتحول-كما أسلفنا- من مشكلة إلى حل، ومن محاصرة وتحكم وشل للقدرة إلى تحريك وتفكير وتجميع للقوة، وتبصير بالمداخل الحقيقية لاسترداد الذات وتقديم أنموذج حضاري وثقافي مميز.

ولا شك أن المحاولات على الطريق لاسترداد الذات في خضم هذا البحر المتـلاطم قائـمة ومسـتـمرة، تضـيق وتتسـع تاريخـيا لكنـها لا تنقـطع، وتبقى تشكل آمالا بقـابليـة الأمة وقدرتها على النهوض. فالمجـالات متعـددة، والثغـور معظمها ما يزال مفتـوحا.. وكثيرة تلك التخصصات العربية الإسلامية المهاجرة، التي توظف لصالح حضارة وثقـافة (الآخـر) الهاضـمة المتحكمة، بسبب عوامل الطرد من هنا والجذب من هناك.. وكثيرة تلك التخصصات التي نمت وتشكلت ضمن إطار ثقافة (الآخر) ، بعيدا عن مرجعيتها ومعاييرها وأصولها الحضارية.

ويصبح المطلوب اليوم التفكير باستردادها ثقافيا لتؤدي دورها [ ص: 28 ] على أرضها الحضارية وليس بالضرورة أرضها الجغرافية، وتكون مؤهلة لاستنبات جديد، كما تكون قادرة على الإفادة والحوار والأخذ الحضاري، وفق معاييـرها وقيمها.. قادرة على العطـاء الذي يعـالج أزمة الإنسان وأزمة الحضارة بشكل عام، لأن الإنسان في النهاية ليس ترسا في آلة، ولا رقما في حاسبة، وإنما هو إنسان بحاجة إلى استرداد إنسانيته المفقودة وسعادته الغائبة، على الرغم من كثرة أشيائه وأدواته المادية التي وفرتها الحضارة المعاصرة.

والكتاب الذي نقدمه اليوم يشكل إحدى المحاولات الأكاديمية لاقتحام موقع من أخطر المواقع وأكثرها تقدما، حيث يكاد يكون الإعلان -كما أسلفنا- هو الأفق الثقافي الأكثر تأثيرا للقرون القادمة، وهو إحدى القوى المرنة المتحكمة في قيادة الحضارة وتحويل مسارها إلى حيث يريد من الإنتاج الثقافي والمادي على سواء.. وقد تكون الإشكالية الكبيرة في الإعلان اليوم، هي في انفلاته من جميع الضوابط والقيم الأخلاقية، واستباحته لكل شيء يمكن من الترويج والإثارة والإغراء بالاستهلاك وكشف المستور والعبث بالعورات، واعتبار ذلك من مستلزمات الفن وأسباب النجاح، وتوظيف جسد المرأة، الذي بات يعتبر المحور الرئيس للإعلان.

والخطورة تكمن اليوم في فلسفة الحضارة الغربية، التي تتركز حول إشباع الغرائز والشهوات والفصل بين الأخلاق والجمال، وتعيش لحظتها الآنية بعيدا عن أي نظر في العواقب والمآلات، تحت شعار: [ ص: 29 ] اليوم خمر وغدا أمر.

وفي هذه اللحظة الحضارية التاريخية حيث التركيز حول الجوانب الحيوانية في الإنسان، يأتي دور الحضارة الإسلامية بضوابطها وأخلاقياتها كمنقذ حضاري، وتتأكد أهمية مثل هذه الدراسة التي تشكل خطوة على الطريق الحضاري والثقافي الطويل، وتؤذن بمتابعات جادة.. فحسبها أنها فتحت الملف وأثارت الاهتمام، ووضعت بعض الملامح الهادية.

من هنا تأتي أهمية التأكيد على المنظور الإسلامي للإعلان، الذي يشكل الرؤية الأساس لفلسفة الإعلان، ويمكن من الإفادة من التقنيات المعمول بها بشكل سليم، والذي سوف يؤدي بالتالي إلى إنتاج تقنياته المتسقة مع فلسفته.

ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 30 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية