الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  5015 [ ص: 307 ] باب قصة فاطمة بنت قيس .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  أي : هذا باب في بيان قصة فاطمة بنت قيس ، لم يذكر لفظ باب في رواية الأكثرين ، ولبعضهم ذكر لفظ باب ، وعليه مشى ابن بطال وفاطمة بنت قيس بن خالد الأكبر بن وهب بن ثعلبة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر القرشية الفهرية أخت الضحاك بن قيس ، يقال : إنها كانت أكبر منه بعشر سنين ، وكانت من المهاجرات الأول ، وكانت ذات جمال وعقل وكمال ، وفي بيتها اجتمعت أصحاب الشورى عند قتل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وخطبوا خطبتهم المأثورة ، وقال الزبير : وكانت امرأة بخودا والبخود النبيلة ، قال أبو عمر : روى عنها الشعبي وأبو سلمة ، وأما الضحاك بن قيس فإنه كان من صغار الصحابة ، وقال أبو عمر : يقال : إنه ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسبع سنين أو نحوها ، وينقون سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وكان على شرطة معاوية ثم صار عاملا له على الكوفة بعد زياد ، وولاه عليها معاوية سنة ثلاث وخمسين ، وعزله سنة سبع وخمسين ، وولى مكانه عبد الرحمن بن أم الحكم ، وضمه إلى الشام فكان معه إلى أن مات معاوية فصلى عليه وقام بخلافته حتى قدم يزيد بن معاوية ، فكان معه إلى أن مات يزيد ومات بعده ابنه معاوية بن يزيد ، ووثب مروان على بعض أهل الشام وبويع له ، فبايع الضحاك بن قيس أكثر أهل الشام لابن الزبير ، وعاد إليه فاقتتلوا فقتل الضحاك بن قيس بمرج راهط للنصف من ذي الحجة سنة أربع وستين ، روى عنه الحسن البصري وتميم بن طرفة ومحمد بن سويد الفهري وميمون بن مهران وسماك بن حرب .

                                                                                                                                                                                  وأما قصة فاطمة بنت قيس فقد رويت من وجوه صحاح متواترة ، وقال مسلم في ( صحيحه ) باب المطلقة ثلاثا : لا نفقة لها ، ثم روى قصتها من طرق متعددة :

                                                                                                                                                                                  فأول ما روى : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك ، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمر بن حفص طلقها ألبتة وهو غائب ، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته ، فقال : والله ما لك علينا من شيء ، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : ليس لك عليه نفقة ، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال : تلك امرأة يغشاها أصحابي ، اعتدي عند ابن أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ، فإذا حللت فآذنيني ، قالت : فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني ، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ، وأما معاوية فصعلوك لا مال له ، انكحي أسامة بن زيد فكرهته ، ثم قال : انكحي أسامة فنكحته ، فجعل الله فيه خيرا واغتبطت .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية أخرى : لا نفقة لك ولا سكنى .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية : لا نفقة لك ، فانتقلي فاذهبي إلى ابن أم مكتوم فكوني عنده .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية أبي بكر بن أبي الجهم قال : سمعت فاطمة بنت قيس تقول : أرسل إلي زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة عياش بن أبي ربيعة بطلاقي ، وأرسل معه بخمسة آصع تمر وخمسة آصع شعير ، فقلت : أما لي نفقة إلا هذا وألا أعتد في منزلكم ؟ قال : لا ، قالت : فشددت علي ثيابي وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كم طلقك ؟ قلت : ثلاثا ، قال : صدق ليس لك نفقة ، اعتدي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم . الحديث .

                                                                                                                                                                                  وأخرج الطحاوي حديث فاطمة بنت قيس هذه من ستة عشر طريقا كلها صحاح :

                                                                                                                                                                                  منها ما قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن يحيى قال : حدثنا أبو سلمة قال : حدثتني فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص المخزومي طلقها ثلاثا ، فأمر لها بنفقة فاستقلتها ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعثه نحو اليمن ، فانطلق خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في نفر من بني مخزوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت ميمونة فقال : يا رسول الله إن أبا عمرو بن حفص طلق فاطمة ثلاثا ، فهل لها من نفقة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس لها نفقة ولا سكنى ، وأرسل إليها أن تنتقل إلى أم شريك ثم أرسل إليها أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون فانتقلي إلى ابن أم مكتوم ، فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك .

                                                                                                                                                                                  ثم العلماء اختلفوا في هذا الباب في فصلين :

                                                                                                                                                                                  الأول : أن المطلقة ثلاثا لا تجب لها النفقة ولا السكنى عند قوم إذا لم تكن حاملا واحتجوا بالأحاديث المذكورة وهم : الحسن البصري وعمرو بن دينار وطاوس وعطاء بن أبي رباح وعكرمة والشعبي وأحمد وإسحاق وإبراهيم في رواية وأهل الظاهر ، وقال قوم : لها النفقة والسكنى حاملا أو غير حامل وهم : حماد وشريح والنخعي والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن ، وهو مذهب عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 308 ] وقال قوم : لها السكنى بكل حال والنفقة إذا كانت حاملا وهم : عبد الرحمن بن مهدي ومالك والشافعي وأبو عبيدة ، واحتج أصحابنا فيما ذهبوا إليه بأن عمر وعائشة وأسامة بن زيد ردوا حديث فاطمة بنت قيس وأنكروه عليها وأخذوا في ذلك بما رواه الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة وهمت أو نسيت ، وكان عمر يجعل لها النفقة والسكنى . وروى مسلم : حدثنا أبو أحمد ، حدثنا عمار بن زريق ، عن أبي إسحاق قال : كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي ، فحدث الشعبي حديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة ، ثم أخذ الأسود كفا من حصا فحصبه به فقال : ويلك تحدث بمثل هذا ؟ قال عمر رضي الله تعالى عنه : لا نترك كتاب الله وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري حفظت أو نسيت ، لها السكنى والنفقة ، قال الله تعالى : لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وأخرجه أبو داود ولفظه : لا ندري أحفظت أو لا ، وأخرجه النسائي ولفظه : قال عمر لها : إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا لم نترك كتاب الله لقول امرأة .

                                                                                                                                                                                  الفصل الثاني : في حكم خروج المبتوتة بالطلاق من بيتها في عدتها ، فمنعت من ذلك طائفة ، روي ذلك عن ابن مسعود وعائشة وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم وسالم وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار ، وقالوا : تعتد في بيت زوجها حيث طلقها ، وحكى أبو عبيد هذا القول عن مالك والثوري والكوفيين ، وأنهم كانوا يرون أن لا تبيت المبتوتة والمتوفى عنها زوجها إلا في بيتها ، وفيه قول آخر أن المبتوتة تعتد حيث شاءت ، روي ذلك عن ابن عباس وجابر وعطاء وطاوس والحسن وعكرمة ، وكان مالك يقول : المتوفى عنها زوجها تزور وتقيم إلى قدر ما يهدأ الناس بعد العشاء ثم تنقلب إلى بيتها وهو قول الليث والشافعي وأحمد ، وقال أبو حنيفة : تخرج المتوفى عنها نهارا ولا تبيت إلا في بيتها ولا تخرج المطلقة ليلا ولا نهارا ، قال محمد : لا تخرج المطلقة ولا المتوفى عنها زوجها ليلا ولا نهارا في العدة ، وقام الإجماع على أن الرجعية تستحق السكنى والنفقة إذ حكمها حكم الزوجات في جميع أمورها .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية