الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2264 - مسألة : صفة الصلب للمحارب ؟ قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في صفة الصلب الذي أمر الله تعالى به في المحارب ؟ فقال أبو حنيفة ، والشافعي : يضرب عنقه بالسيف ثم يصلب مقتولا - زاد الشافعي - : ويترك ثلاثة أيام ثم ينزل فيدفن .

                                                                                                                                                                                          وقال الليث بن سعد ، والأوزاعي ، وأبو يوسف : يصلب حيا ثم يطعن بالحربة حتى يموت .

                                                                                                                                                                                          وقال بعض أصحابنا الظاهرين : يصلب حيا ويترك حتى يموت ، وييبس كله ويجف ، فإذا يبس وجف أنزل ، فغسل ، وكفن ، وصلي عليه ، ودفن ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة لقولها لنعلم الحق من ذلك فنتبعه - بعون الله تعالى ومنه - فنظرنا في ذلك ، فوجدنا من قال : يقتل ثم يصلب مقتولا ، يحتجون بما ذكرناه قبل في " كتاب الدماء " من ديواننا كيف يكون القود من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة } . ومن قوله عليه السلام { أعف الناس قتلة أهل الإيمان } . [ ص: 294 ] ومن نهيه عليه السلام أن يتخذ شيئا فيه الروح غرضا ولعنه عليه السلام من فعل ذلك .

                                                                                                                                                                                          وقد ذكرنا هذه الأحاديث هنالك بأسانيدها فأغنى عن إعادتها .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : طعنه على الخشبة ليس قتلة حسنة ، ولا عفيفة ، وهو اتخاذ الروح غرضا ، فهذا لا يحل ؟ ونظرنا فيما احتج به من رأى قتله مصلوبا فوجدناهم يقولون : إن الله تعالى إنما أمرنا بالقتل عقوبة ، وخزيا للمحارب في الدنيا ، فإذ ذلك كذلك ، فالعقوبة والخزي لا يقعان على ميت ، وإنما خزي الميت في الآخرة لا في الدنيا ، فلما كان ذلك كذلك بطل أن يصلب بعد قتله ردعا لغيره ؟ فعارضهم الأولون - بأن قالوا : يصلب بعد قتله ردعا لغيره .

                                                                                                                                                                                          فعارضهم هؤلاء بأن قالوا : ليس ردعا ، وإنما هو عقوبة للفاعل ، وخزي بنص القرآن - وفي صلبه ، ثم قتله ، أعظم الردع أيضا ؟ قال أبو محمد رحمه الله : هذا كل ما احتجت به الطائفتان معا ، والتي احتجت به كلتا الطائفتين حق ، إلا أنه أنتجوا منه ما لا توجبه القضايا الصحاح التي ذكروا ، فمالوا عن شوارع الحق إلى زوائغ التلبيس والخطأ ؟ قال أبو محمد رحمه الله : وذلك على ما نبين إن شاء الله تعالى : فنقول : إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان } و { إذا قتلتم فأحسنوا القتلة } و { لعن الله من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا } . والنهي عن ذلك ، فهو كله حق ، كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كله مانع من أن يقتل بعد الصلب برمح أو برمي سهام ، أو بغير ذلك كما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                          وإنما في هذه الأحاديث وجوب الفرض في إحسان قتله إن اختار الإمام قتله فقط ، وليس في شيء من هذه الأخبار وجوب صلبه بعد القتل ، ولا إباحة صلبه بعد القتل ألبتة ، لا بنص ، ولا بإشارة .

                                                                                                                                                                                          فأما إحسان القتل فحق ، وأما صلبه بعد القتل ، فدعوى فاسدة ، ليست في شيء من الآثار التي ذكروا ، ولا غيرها - فبطل بيقين - لا شك فيه - احتجاجهم بهذه الأخبار [ ص: 295 ] في النكتة التي عليها تكلموا - وهي الصلب بعد القتل أو قبله - وسقط قولهم ، إذ تعرى من البرهان ؟ قال أبو محمد رحمه الله : ثم نظرنا فيما احتجت به الطائفة الثانية الموجبة قتله بعد الصلب ، فوجدناهم يقولون : إن الصلب عقوبة وخزي في الدنيا ، كما قال الله تعالى ، وإن الميت لا يخزى في الدنيا بعد موته ، ولا يعاقب بعد موته : قولا صحيحا لا شك فيه - ووجدناهم يقولون : إن الردع يكون بصلبه حيا قولا أيضا خارجا عن أصولهم ، إلا أنه ليس في شيء من ذلك كله إيجاب قتله بعد الصلب ، كما قالوا ، ولا إباحة ذلك أيضا - وإنما في كل ما قالوه : إيجاب الصلب فقط ، فأقحموا فيه القتل بعد الصلب جريا على عادتهم ، في التلبيس والزيادة بالدعاوى الكاذبة ، على النصوص ما ليس فيها - فبطل قولهم أيضا لما ذكرنا ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فلما بطل القولان معا وجب الرد إلى القرآن ، والسنة ، كما افترض الله تعالى علينا بقوله عز وجل { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ففعلنا فوجدنا الله تعالى قد قال { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية كلها .

                                                                                                                                                                                          فصح يقينا أن الله تعالى لم يوجب قط عليهم حكمين من هذه الأحكام ، ولا أباح أن يجمع عليهم خزيان من هذه الأخزاء في الدنيا ، وإنما أوجب على المحارب أحدها لا كلها ، ولا اثنين منها ، ولا ثلاثة

                                                                                                                                                                                          فصح بهذا يقينا لا شك فيه : أنه إن قتل فقد حرم صلبه ، وقطعه ، ونفيه .

                                                                                                                                                                                          وأنه إن قطع ، فقد حرم قتله ، وصلبه ، ونفيه .

                                                                                                                                                                                          وأنه إن نفي ، فقد حرم قتله ، وصلبه وقطعه وأنه إن صلب ، فقد حرم قتله ، وقطعه ، ونفيه - لا يجوز ألبتة غير هذا ، فحرم بنص القرآن صلبه إن قتل .

                                                                                                                                                                                          وحرم أيضا بنص القرآن قتله إن صلب وحرم هذا الوجه أيضا بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرنا من { إن أعف الناس قتلة [ ص: 296 ] أهل الإيمان } و { إذا قتلتم فأحسنوا القتلة } و { لعن الله من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا } والنهي عن ذلك . فلما حرم قتله مصلوبا بيقين ; لما ذكرنا من وجوب اللعنة على من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا - وحرم صلبه بعد القتل لما ذكرنا أنه لا يجوز عليه جمع الأمرين معا وجب ضرورة أن الصلب الذي أمر الله تعالى به في المحارب إنما هو صلب لا قتل معه ؟ ولو لم يكن هكذا لبطل الذي أمر الله تعالى به ، ولكان كلاما عاريا من الفائدة أصلا ، وحاش لله تعالى من أن يكون كلامه تعالى هكذا ؟ ولكان أيضا تكليفا لما لا يطاق - وهذا باطل . فصح يقينا أن الواجب أن يخير الإمام صلبه إن صلبه حيا ، ثم يدعه حتى ييبس ويجف كله ; لأن الصلب في كلام العرب يقع على معنيين : أحدهما : من الأيدي ، والربط على الخشبة ، قال الله تعالى حاكيا عن فرعون { ولأصلبنكم في جذوع النخل }

                                                                                                                                                                                          والوجه الآخر : التيبيس ، قال الشاعر ، يصف فلاة مضلة :

                                                                                                                                                                                          بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب

                                                                                                                                                                                          يريد أن جلدها يابس . وقال الآخر :

                                                                                                                                                                                          جذيمة ناهض في رأس نيق     ترى لعظام ما جمعت صليبا

                                                                                                                                                                                          يريد : ودكا سائلا ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فوجب جمع الأمرين معا ، حتى إذا أنفذنا أمر الله تعالى فيه وجب به ما افترضه الله تعالى للمسلم على المسلم : من الغسل ، والتكفين ، والصلاة ، والدفن ، على ما قد ذكرنا قبل هذا .

                                                                                                                                                                                          فإن قال قائل : أليس الرجم اتخاذ ما فيه الروح غرضا ؟ وكذلك قولكم في القود بمثل ما قتل ؟ [ ص: 297 ] فجوابنا ، وبالله تعالى التوفيق : نعم ، وهما مأمور بهما ، قد حكم عليه السلام بكليهما فوجب أن يكونا مستثنيين مما نهى عنه من اتخاذ الروح غرضا ، فأما الرجم فبالنص والإجماع ، وأما القود فبالنص الجلي في رضخ رأس اليهودي وفي العرنيين كما قلتم أنتم ونحن في أن القصاص من قطع الأيدي ، والأرجل ، وسمل الأعين ، وجدع الأنف ، والآذان ، وقطع الشفاه ، والألسنة ، وقلع الأضراس ، حق واجب إنفاذه ، مستثنيين من المثلة المحرمة ، ولا فرق

                                                                                                                                                                                          فإن قال قائل : فإنكم قد سمعتم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { أعف الناس قتلة أهل الإيمان } و { إذا قتلتم فأحسنوا القتلة } وأنتم تقتلونه أوحش قتلة وأقبحها : جوعا ، وعطشا ، وحرا ، وبردا ؟ فنقول : وما قتلناه أصلا ، بل صلبناه كما أمر الله تعالى : وما مات إلا حتف أنفه ، وما يسمى هذا في اللغة مقتولا

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : فإنكم تقولون فيمن سجن إنسانا ومنعه الأكل والشرب حتى مات إنه يسجن ويمنع الأكل والشرب حتى يموت ، فهذا قتل بقتل ؟ فنقول : إن هذا ليس قتلا ، ولا قودا بقتل ، بل هو ظلم وقود من الظلم فقط .

                                                                                                                                                                                          وبرهان ذلك : أن رجلا لو اتفق له أن يقفل بابا بغير عدوان ، فإذا في داخل الدار إنسان لم يشعر به ، فمات هنالك جوعا وعطشا : أنه لا كفارة على قافل الباب أصلا ، ولا دية على عاقلته ; لأنه ليس قاتلا ؟ فإن قيل : إنكم تمنعونه الصلاة والطهارة ؟ قلنا : نعم ; لأن الله تعالى إذ أمر بصلبه قد علم أنه ستمر عليه أوقات الصلوات ، فلم يأمرنا بإزالة التصليب عنه من أجل ذلك { وما كان ربك نسيا } فلا يسع مسلما ، ولا يحل له أن يعترض على أمر الله تعالى { لا معقب لحكمه } و { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية