الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج

اعتراض بين شرائع الأحكام الراجعة إلى إصلاح النظام ، دعا إليه ما حدث من السؤال ، فقد روى الواحدي أنها نزلت بسبب أن أحد اليهود سأل أنصاريا عن الأهلة وأحوالها في الدقة إلى أن تصير بدرا ثم تتناقص حتى تختفي ، فسأل الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ، ويظهر أن نزولها متأخر عن نزول آيات فرض الصيام ببضع سنين ؛ لأن آية وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها متصلة بها . وسيأتي أن تلك الآية نزلت في عام الحديبية أو عام عمرة القضية

فمناسبة وضعها في هذا الموضع هي توقيت الصيام بحلول شهر رمضان ، فكان من المناسبة ذكر المواقيت لإقامة نظام الجامعة الإسلامية على أكمل وجه . ومن كمال النظام ضبط الأوقات ، ويظهر أن هذه الآية أيضا نزلت بعد أن شرع الحج ؛ أي : بعد فتح مكة ، لقوله تعالى : قل هي مواقيت للناس والحج .

وابتدئت الآية بـ ( يسألونك ) لأن هنالك سؤالا واقعا عن أمر الأهلة ، وجميع الآيات التي افتتحت بـ ( يسألونك ) هي متضمنة لأحكام وقع السؤال عنها ، فيكون موقعها في القرآن مع آيات تناسبها نزلت في وقتها أو قرنت بها . وروي أن الذي سأله عن ذلك معاذ بن جبل [ ص: 194 ] وثعلبة بن غنمة الأنصاري فقالا : ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلئ ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ، قال العراقي : لم أقف لهذا السبب على إسناد .

وجمع الضمير في قوله : ( يسألونك ) مع أن المروي أن الذي سأله رجلان ، نظرا لأن المسئول عنه يهم جميع السامعين أثناء تشريع الأحكام ؛ ولأن من تمام ضبط النظام أن يكون المسئول عنه قد شاع بين الناس واستشرف كثير منهم لمعرفته ، سواء في ذلك من سأل بالقول ومن سأل نفسه ، وذكر فوائد خلق الأهلة في هذا المقام للإيماء إلى أن الله جعل للحج وقتا من الأشهر لا يقبل التبديل وذلك تمهيدا لإبطال ما كان في الجاهلية من النسيء في أشهر الحج في بعض السنين .

والسؤال : طلب أحد من آخر بذل شيء أو إخبارا بخبر ، فإذا كان طلب بذل عدي فعل السؤال بنفسه ، وإذا كان طلب إخبار عدي الفعل بحرف ( عن ) أو ما ينوب منابه ، وقد تكررت في هذه السورة آيات مفتتحة بـ ( يسألونك ) وهي سبع آيات غير بعيد بعضها من بعض ، جاء بعضها غير معطوف بحرف العطف وهي أربع ، وبعضها معطوفا به وهي الثلاث الأواخر منها ، وأما غير المفتتحة بحرف العطف فلا حاجة إلى تبيين تجردها عن العاطف ؛ لأنها في استئناف أحكام لا مقارنة بينها وبين مضمون الجمل التي قبلها فكانت جديرة بالفصل دون عطف ، ولا يتطلب لها سوى المناسبة لمواقعها .

وأما الجمل الثلاث الأواخر المفتتحة بالعاطف فكل واحدة منها مشتملة على أحكام لها مزيد اتصال بمضمون ما قبلها ، فكان السؤال المحكي فيها مما شأنه أن ينشأ عن التي قبلها ، فكانت حقيقية بالوصل بحرف العطف كما سيتضح في مواقعها . والسؤال عن الأهلة لا يتعلق بذواتها ؛ إذ الذوات لا يسأل إلا عن أحوالها ، فيعلم هنا تقدير وحذف ؛ أي : عن أحوال الأهلة ، فعلى تقدير كون السؤال واقعا بها غير مفروض ، فهو يحتمل السؤال عن الحكمة ويحتمل السؤال عن السبب ، فإن كان عن الحكمة فالجواب بقوله : قل هي مواقيت للناس جار على وفق السؤال وإلى هذا ذهب صاحب الكشاف ، ولعل المقصود من السؤال حينئذ استثبات كون المراد الشرعي منها موافقا لما اصطلحوا عليه ؛ لأن كونها مواقيت ليس مما يخفى حتى يسأل عنه ، فإنه متعارف لهم ، فيتعين كون المراد من سؤالهم إن كان واقعا هو تحقق الموافقة للمقصد الشرعي . وإن كان السؤال عن السبب فالجواب بقوله : قل هي مواقيت [ ص: 195 ] غير مطابق للسؤال ، فيكون إخراجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر بصرف السائل إلى غير ما يتطلب ، تنبيها على أن ما صرف إليه هو المهم له ؛ لأنهم في مبدأ تشريع جديد ، والمسئول هو الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكان المهم لهم أن يسألوه عما ينفعهم في صلاح دنياهم وأخراهم ، وهو معرفة كون الأهلة ترتبت عليها آجال المعاملات والعبادات كالحج والصيام والعدة ، ولذلك صرفهم عن بيان مسئولهم إلى بيان فائدة أخرى ، لا سيما والرسول لم يجئ مبينا لعلل اختلاف أحوال الأجرام السماوية ، والسائلون ليس لهم من أصول معرفة الهيئة ما يهيئهم إلى فهم ما أرادوا علمه بمجرد البيان اللفظي بل ذلك يستدعي تعليمهم مقدمات لذلك العلم ، على أنه لو تعرض صاحب الشريعة لبيانه لبين أشياء من حقائق العلم لم تكن معروفة عندهم ولا تقبلها عقولهم يومئذ ، ولكان ذلك ذريعة إلى طعن المشركين والمنافقين بتكذيبه ، فإنهم قد أسرعوا إلى التكذيب فيما لم يطلعوا على ظواهره كقولهم : هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أم به جنة ، وقولهم : ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق وعليه فيكون هذا الجواب بقوله : هي مواقيت للناس والحج تخريجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر كقول الشاعر ؛ أنشده في المفتاح ولم ينسبه ولم أقف على قائله ولم أره في غيره :


أتت تشتكي مني مزاولة القرى وقد رأت الأضياف ينحون منزلي     فقلت لها لما سمعت كلامها
هم الضيف جدي في قراهم وعجلي



وإلى هذا نحا صاحب المفتاح وكأنه بناه على أنهم لا يظن بهم السؤال عن الحكمة في خلق الأهلة : لظهورها ، وعلى أن الوارد في قصة معاذ وثعلبة يشعر بأنهما سألا عن السبب إذ قالا : ما بال الهلال يبدو دقيقا إلخ .

والأهلة : جمع هلال ، وهو القمر في أول استقباله الشمس كل شهر قمري في الليلة الأولى والثانية ، قيل : والثالثة ، ومن قال إلى السبع فإنما أراد الحجاز ؛ لأنه يشبه الهلال ، ويطلق الهلال على القمر ليلة ست وعشرين ، وسبع وعشرين ؛ لأنه في قدر الهلال في أول الشهر ، وإنما سمي الهلال هلالا ؛ لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم بالإخبار عنه ينادي بعضهم بعضا لذلك ، وإن هل وأهل بمعنى رفع صوته كما تقدم في قوله تعالى : وما أهل به لغير الله .

[ ص: 196 ] وقوله : مواقيت للناس أي : مواقيت لما يوقت من أعمالهم ، فاللام للعلة ؛ أي : لفائدة الناس ، وهو على تقدير مضاف ، أي : لأعمال الناس ، ولم تذكر الأعمال الموقتة بالأهلة ليشمل الكلام كل عمل محتاج إلى التوقيت ، وعطف الحج على الناس مع اعتبار المحذوف من عطف الخاص على العام للاهتمام به . واحتياج الحج للتوقيت ضروري ؛ إذ لو لم يوقت لجاء الناس للحج متخالفين فلم يحصل المقصود من اجتماعهم ، ولم يجدوا ما يحتاجون إليه في أسفارهم وحلولهم بمكة وأسواقها ؛ بخلاف الصلاة فليست موقتة بالأهلة ، وبخلاف الصوم فإن توقيته بالهلال تكميلي له ؛ لأنه عبادة مقصورة على الذات فلو جاء بها المنفرد لحصل المقصد الشرعي ، ولكن شرع فيه توحيد الوقت ليكون أخف على المكلفين ، فإن الصعب يخف بالاجتماع وليكون حالهم في تلك المدة مماثلا ، فلا يشق أحد على آخر في اختلاف أوقات الأكل والنوم ونحوهما .

والمواقيت جمع ميقات ، والميقات جاء بوزن اسم الآلة من وقت ، وسمى العرب به الوقت ، وكذلك سمي الشهر شهرا مشتقا من الشهرة ؛ لأن الذي يرى هلال الشهر يشهره لدى الناس .

وسمى العرب الوقت المعين ميقاتا كأنه مبالغة ، وإلا فهو الوقت عينه ، وقيل : الميقات أخص من الوقت ؛ لأنه وقت قدر فيه عمل من الأعمال ، قلت : فعليه يكون صوغه بصيغة اسم الآلة اعتبارا بأن ذلك العمل المعين يكون وسيلة لتحديد الوقت ، فكأنه آلة للضبط والاقتصار على الحج دون العمرة ؛ لأن العمرة لا وقت لها فلا تكون للأهلة فائدة في فعلها .

ومجيء ذكر الحج في هاته الآية ، وهي من أول ما نزل بالمدينة ، ولم يكن المسلمون يستطيعون الحج ؛ لأن المشركين يمنعونهم ، إشارة إلى أن وجوب الحج ثابت ، ولكن المشركين حالوا دون المسلمين ودونه . وسيأتي عند قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت في سورة آل عمران وعند قوله : الحج أشهر معلومات في هذه السورة .

التالي السابق


الخدمات العلمية