الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
تقديم عمر عبيد حسنة

الحمد لله الذي جعل الفهم والمعرفة للأمور، وحسن الإدراك والتبصر بالمقاصد، والتقدير للعواقب، من بشائر الخيرية وسبل النهوض والارتقاء، وجعل النفرة للفقه في الدين واكتساب المعرفة الميدانية، واكتشاف السنن الفاعلة في الحياة والأحياء، وتوعية المجتمع بقوانين الحركة الاجتماعية والتاريخية، مصدر العبرة والعظة وتحقيق الحذر والوقاية الحضارية،

فقال تعالى: ( ... فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (التوبة: 122) .

والصلاة والسلام على الرسول المعلم، الذي بين أن مناط خيرية الإنسان عند الله الفقه في الدين، ( فقال: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) (متفق عليه) ، ذلك أن الفقه في الدين كسب من الإنسان وتوفيق واصطفاء من الله.

وكان من دعائه المأثور واللافت ( لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) (حديث صحيح، أخرجه أحمد ) ، فكان ابن عباس ببركة هـذا الدعاء، حبر الأمة وعالمها، وأحد منارات فقه الصحابة العظيم. [ ص: 11 ]

وبعد:

فهذا كتاب الأمة الثاني والسبعون: (تكوين الملكة الفقهية) ، للأستاذ الدكتور محمد عثمان شبير ، في سلسلة (كتاب الأمة) التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في دولة قطر ، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري والوقاية الثقافية، ومحاولة إخراج الأمة المسلمة من جديد، اهتداء بظروف وشروط الميلاد الأول؛ لأن نهوض أي مجتمع ومعاودة إخراجه منوط إلى حد بعيد بتوفير ظروف وشروط ميلاده الأول، والتدليل على أن سبب التخلف والسقوط الحضاري إنما أصاب عالم المسلمين بسبب الانسلاخ عن القيم الإسلامية وانكماش الفقه في الدين، لا بسبب الاستمساك بها.

والشاهد التاريخي قائم على أن فترات التألق والإنجاز كانت مترافقة مع الالتزام بشريعة هـذا الدين والإيمان بعقيدته التوحيدية والانتماء إلى الأمة المسلمة، وأن الإشكالية الثقافية والحضارية اليوم بالنسـبة لعـالم المسلـمين هـي في محـاولات دراسـة الواقع الإسلامي وما لحق به من إصابات في ضوء أصول وقيم ومسيرة تاريخية حضارية غريبة عنه، أو بتعبير آخر عن هـذا الخلل: قياس واقع مجتمع بأصول وقيم حضارة مجتمع آخر، علما بأن الفعل الاجتماعي لا يتكرر، ذلك أن القطيعة الثقافية والتاريخية مع معرفة الوحي، وعدم القدرة على [ ص: 12 ] تجريد القيم الإسلامية من قيد التاريخ والجغرافيا، أو من قيد الزمان والمكان، وتوليدها في كل زمان ومكان، هـي الإشكالية الحقيقية، وهي سبب المعاناة.

ولعل الفقه الحقيقي هـو في امتلاك القدرة على تحقيق المناط -بالمصطلح الفقهي- أو القدرة على تجريد النص من قيد الزمان والمكان، والاجتهاد في تنزيله على واقع الناس، ومعالجته لمشكلاتهم، واستشرافه لمستقبلهم، فقد باتت قولة الإمام مالك رحمه الله المبكرة: (لا يصلح آخر هـذه الأمة إلا بما صلح به أولها ) ، بعد رحلة التجربة المرة، تكاد تكون مسلمة حضارية.

لكن يبقى السؤال الكبير، الذي ما يزال مطروحا على مدارس الإصلاح ومناهج المصلحين: لماذا تراجعنا؟ وكيف نحقق النهوض ونتحقق بالوراثة الحضارية؟ ذلك أننا جميعا أصبحنا نعبر عن قناعتنا من على منابر متعددة أن الإشكالية هـي في الانسلاخ عن الإسلام، فلماذا كان الانسلاخ؟ وكيف نضع منهج العودة، ونترسم سبيل الخروج أو الإخراج من جديد؟

أما أن سبب التراجع والسقوط هـو في الانسلاخ عن القيم الإسلامية، وأن سبيل الخروج هـو في العودة إلى الالتزام بالإسلام، فهو شعار ما يزال يتولى طرحه الخطباء والوعاظ من على منابرهم، فإذا نزلوا [ ص: 13 ] عن المنابر عاد كثير منهم مع الأمة إلى مألوفهم ومعروفهم، وكأنهم بطرح هـذا الشعار خرجوا من عهدة التكليف.

أما بيان كيفية العودة للالتزام بقيم الدين ورسم الطريق، ووضع المنهج، والاجتهاد في فهم الواقع واستطاعاته، وتحديد موقعه بدقة من مسيرة النبوة وقيام المجتمع الأول المشهود له بالخيرية، والتعرف إلى الأسباب والسنن التي كانت تحكمه، والتبصر بآلية السقوط والنهوض، والاجتهاد في محل تنزيل النص، ومدى توفر الإمكانية المطلوبة لتنزيله وحصول التكليف به، والنظر في المقاصد والمآلات والعواقب والتداعيات لتحقيق الخير في الحاضر، وحسن العاقبة في المستقبل،

استجابة لقوله تعالى: ( ذلك خير وأحسن تأويلا ) (النساء: 59) ، فيبقى مهمة الفقهاء الخبراء والمفكرين والمستبصرين المتمكنين من معارف الوحي ومدارك العقل.

ولعل في بعض الآثار الواردة عن حال تخلف الأمة عندما يكثر الخطباء ويقل الفقهاء؛ يفسر الكثير من الحال التي نحن عليها اليوم.. فلا أعتقد أن أية أمة تمتلك من المنابر والمحاريب والجمهور المتلقي عن طواعية واختيار، والذي يمكن اعتباره من أعلى درجات الإمكان الحضاري، ما تمتـلكه الأمـة المسـلمة.. لكن تبقى النتـائج محزنة، وما ذلك -في رأينا- إلا بسبب غياب الفقهاء والحكماء والمفكرين [ ص: 14 ] والباحثين الدارسين القادرين على تحديد مواطن الخلل، ومن ثم وضع منهج الخروج، في ضوء النصوص المعصومة من معارف الوحي.

فالخطيب قد يلهب المشاعر ويثير الحماس ويهيئ الأمة، وذلك قد يكون مطلوبا في بعض الحالات للتعبئة، لكن الفقيه هـو الذي يقوم بدور المعلم الذي يربي العقل ويبصر بالطريق، ويضع الأوعية الشرعية لحركة الأمة، في ضوء الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة، ويمتلك دقة النظر في محل تنزيل النص على الواقع.

وقد لا نكون مغالين إذا قلنا: بأنه يصعب علينا في كثير من الأحيان، إذا تجاوزنا تاريخ الزمان وجغرافية المكان، أن نحدد زمان ومكان الكثير من الخطب وأهدافها وجدواها! إضافة إلى أن قضايا الأمة ومشكلاتها لا تعالج بالحماس وارتفاع المنابر فقط، وإنما تعالج بفقه الأسباب ومعرفة السنن، وإدراك علل السقوط والنهوض. واستيعاب الحاضر وتحديد موقعه من مسيرة النبوة لتحقيق الاقتداء الصحيح، وذلك باستشراف الماضي وعبرته، واستبصار المستقبل واحتمالاته وتداعياته.. فليس الفقه الذي نقصده هـنا هـو في حفظ كتاب وسرعة استذكار مسائل، مع استمرار العجز عن توليد مثال غير مثال الأقدمين، الذي ما يزال يتداول وينقل من كتاب إلى آخر مع تغيير الطباعة ونوعية الورق، وقد يكون هـذا متوفرا للكثير من حملة الفقه اليوم. [ ص: 15 ]

لذلك فقد تتحول بعض الخطب والحالة هـذه، من تقديم حل إلى صناعة مشكلة؛ لأنها قد تعبئ الشباب وتجمع الجمهور وتوجههم صوب أهداف كبرى، ومن ثم يغيب الفقهاء عن وضع الأوعية الشرعية والمشروعة لحركة الأمة، وإيجاد المناهج والبرامج والخطط لمسيرتها، فيتحرك جمهور الشباب المتحمس على غير بصيرة وبمجازفات تقودهم إلى تقديم التضحيات الكبيرة التي لا تتناسب مع الإنجـازات الهزيـلة، أو الهزائم الموقعة في إحباطات قد تؤدي في كثير من الأحيان، وغالبا عند الذين لا يستطيعون التفريق بين الصورة والحقيقة، إلى شكوك في جدوى القيم الإسلامية وقدرتها على انتشال الأمة، لذلك قد يسهل على أعداء الإسلام استخدامهم كرصيد جاهز للتضحية لتصفية الحسابات بدمائهم، في ذات الوقت الذي قد يتحول فيه الكثير من الخطباء لطرح قضايا جديدة تجمع الأمة وتلهب المشاعر، دون أن نفكر في دراسة أسباب الفشل وعدم بلوغ النتائج لمحاولة استدراكها في مستقبل الأمة.. ويبقى هـذا هـو عمل الفقيه أو الفقه الغائب.

ولعل من القضايا المهمة والجديرة بالطرح والاستدعاء والمناقشة وتوسيـع دائـرة الرأي حولها، هـي في وضوح أو إيضاح الأهداف التي لا بد أن يؤهل الفقيه القادر على تحقيقها، وطبيعة المعادلات الاجتماعية الإقليمية والدولية التي لا بد من استيعابها، وما هـي [ ص: 16 ] الشروط والمناهج المطلوبة للإعداد؟ ذلك أن الإنتاج الحالي فيما يلاحظ عليه من تكرار الأنماط الواحدة التي قد لا تخرج في عمومها عن أن تكون نسخا متحركة من الكتب المتوفرة في المكتبة، أو هـي على أحسن الأحوال طبعات جديدة لكتب قديمة، بل لعل الكتب القديمة أكثر حفظا ودقة نظر.

ونحن هـنا لا نرمي هـنا إلى وضع الخطباء في مقابل الفقهاء الخبراء، إنما ندعو إلى تكامل الأداء الإسلامي، حيث لا يغني جانب عن آخر، ذلك أن المشكلة كل المشكلة في متحمسين لا فقه لهم ولا خبرة لديهم، وأن الكثير منهم يعيش في عزلة عن واقع الحياة ومعاناة الناس، وقد يعاني من تعطيل الطاقات، أو هـو خارج المجتمع.

ولو أدركنا أبعاد العمل الإسلامي المتكامل بشكل سليم ومتوازن، لأبصرنا مواقع الخطباء ودورهم في التحفيز والتحضير، ومجالات الفقهاء ومهامهم في قيادة رشيدة لجماهير الأمة.

وهنا قضية قد يكون من المفيد طرحها والتوقف عندها بما يسمح به المجال، وهي أن من الأمور التي تكاد تكون محسومة على مستوى الفكر والعقيدة والفعل والممارسة، أن الإسلام دين شامل لجميع جوانب الحياة، وأن تشريعه ومنهجه ينتظم الحياة جميعا، فهو نظام للحياة بكل مجالاتها، هـذا على الأقل عند المؤمنين به، وأصحاب [ ص: 17 ] النظرة الموضوعية ممن لا يؤمنون به،

قال تعالى: ( ... ما فرطنا في الكتاب من شيء ... ) (الأنعام: 38) ، الأمر الذي يقتضي أن يوجد الاجتهاد ويتولد الفقه الذي ينير الطريق ويبين حكم الله ورؤية الإسلام في شعب المعرفة جميعا، وفي التطبيقات العملية والفعل البشري، وعدم الاقتصار على الفقه التشريعي القانوني، إن صح التعبير. ذلك أن غياب الرؤية الإسلامية أو الفقه الإسلامي الشامل عن أي موقع وعدم امتداده يعني وجود الفراغ الذي يسمح بدخول (الآخر) ، أو يـؤذن باستدعـاء (الآخـر) ليصـنع للنـاس رؤيتهم، ويضع لهم أوعية ومناهج لحركتهم، وفلسفات لمعارفهـم، في مجال التربية والتعليم والاجتماع والنفس والاقتصاد وسائر المعارف الإنسانية. وهذا لا يعني، ولا يجوز أن يعني، خروج الفقه التشريعي من دائرة العلوم الإنسانية؛ لأنه يقع في الصميم منها، لكنه يبقى يغطي بعض جوانب نظام الحياة لا كلها. لذلك نرى أنه لا بد من إعادة طرح مفهوم الفقه من جديد والخروج به عن المعنى الاصطلاحي أو المدلول الاصطلاحي، والعودة به إلى مفهومه الشامل، إلى مدلول الفقه الحضاري، الذي يشمل الأبعاد الحضارية بكل فضاءاتها، فيكون هـناك مناهج استنباط، أو علوم أصول فقه: تربوي، ومجتمعي، وسياسي، واجتماعي، واقتصادي، ومعرفي [ ص: 18 ] بشكل عام، ليغطي جميع شعب المعرفة وجوانب الحياة، ولا يقتصر على الجانب التشريعي فقط.

وعليه يمكن القول: إن آيات القرآن الكريم كلها آيات أحكام، أحكام تربوية، وأحكام اجتماعية، وأحكام سياسية وتشريعية، وأحكـام أخلاقيـة، وليس آيـات الأحكـام في الحقيـقة مقتصـرة على ما يستنبط منها الحكم التشريعي.

وبالإمكان القول: إن نمو الفقه التشريعي، والتبحر فيه، وإنتاج هـذه الثروة الضخمة التي تفتقدها الأمم الأخرى، وما حققه من الحماية والمناعة التشريعية والعطاء القانوني، يعتبر من المفاخر الثقافية والتشريعية والقانونية والاجتهادية، وأنه إنما جاء وامتد وتولد كثمرة للوجود الواقعي الإسلامي، وأن الدولة والأمة المسلمة في عصورها الزاهرة كانت تتوفر في ظل الإسلام واستقرار نظامه وأحكامه على وظائف المعارف الأخرى عمليا في المجالات جميعا ولو لم تفرد بتعاريف ومصطلحات؛ لأن وظيفة هـذه المصطلحات كانت متوفرة وقائمة، حيث كان المسلمون في موضع العطاء، لذلك لم تكن الحاجة قائمة لفقه مؤسس في المجالات الأخرى.

فوظيفة المصطلح ومدلوله موجودة، وإن غاب المصطلح نفسه. ولعل الإشكالية أصبحت اليوم بوجود المصطلح والجدل حول مفهومه [ ص: 19 ] في الحضارة المعاصرة على حساب مدلوله ووجوده العملي.

والحقيقة العملية التي لا بد من تسجيلها أن الفقه التشريعي الذي أنتجه المسلمون من نصوص الوحي، شكل ولا يزال الترسانة القانونية والتشريعية أمام الفكر القانوني الوافد المؤيد بالقوة والسطوة والطغيان، ولم يمكن تجاهله في الأنشطة القانونية المختلفة على الرغم من ضعف الأمة المسلمة وتقهقرها، بل نستطيع القول: بأنه كان من أهم مرتكزات الحماية والمناعة الحضارية للأمة.

لذلك نرى اليوم، على الرغم من محاولات تغييب الشريعة عن واقع الأمة، لأسباب وذرائع واهية، من عدم تحضير المجتمع وتوفر مؤهلاته، فإن الفقه التشريعي ما يزال يفرض وجوده وعطاءه واستمراره بقوته الذاتية.

وفي تقديرنا أن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بأن يفقهه الله في الديـن ويعلمـه التـأويل، فأصبح بـبركة دعائه صلى الله عليه وسلم وتوجيهه حبر الأمة وفقيه الصحابة، ليكون ذلك قدوة ووجهة لكل مسلم. فإن الفقه في الدين، فيما نلمحه من هـذا الدعاء، يعني الفقه الشامل لكل جوانب الحياة شمول الدين نفسه، وأن الجزء الثاني من الدعاء: ( وعلمه التأويل ) ، ليس المقصود بالتأويل هـنا التفسير والبيان والاستنباط فقط، وإنما الفقه الاجتماعي والحضاري [ ص: 20 ] الذي يدرك السنن الفاعلة في الحياة وتحولاتها الاجتماعية وقانون الحركة الاجتماعية والتاريخية، ويبصر بالمآلات والعواقب والنتائج، التي توصل إليها المقدمات: ( وعلمه التأويل ) .

فالحياة ليست عبثا، وإنما هـي خاضعة لسنن لا بد من إدراكها ومعرفة مدى إمكانية الإنسان المداخلة فيها، ومدافعة سنة بسنة.. والذي لا يدرك السـنن ولا يقدر التداعيات ولا يبصر العواقب والـتأويل (المآل) ، فمـن أين له الفقـه، ولو حفـظ جميع المتون، فإنه لا يخرج عن أن يكون أحد الكتب أو الموسوعات، أو (الكاسيتات) بالتعبير المعاصر.

إن العلم بالعواقب والمآلات وتقدير التداعيات واستيعاب السنن الفاعلة، هـو الفقه الحقيقي الغائب اليوم بالأقدار المطلوبة عن حياة المسلمين الفكرية والثقافية، أو ما يمكن أن نطلق عليه بالفقه الحضاري أو الفكر الاستراتيجي .

إن اقتصار مفهوم الفقه على المدلول الاصطلاحي ( الفقه التشريعي ) ، أدى إلى اختزال آيات القرآن والاقتصار على آيات وأحاديث الأحكام، دون سواها من سـائر القرآن، وكأن بقيـة الآيات إنما تنزلت للتبرك ولا أحكام فيها، وبذلك غابت الكثير من الجوانب الحياتية عن مجال الفقه، أو غاب الفقه عنها، ومن أخطرها الفقه [ ص: 21 ] الاجتماعي والتربوي، أو فقه السقوط والنهوض، أو ما يمكن نطلق عليه: فقه السنن. لذلك نرى غلبة المدلول الاصطلاحي على الاستدلال في بعض الآيات القرآنية التي يمكن أن تكون واضحة الدلالة والسياق في المجال الاجتماعي،

مثـل قـوله تعالى: ( ... فاعتبروا يا أولي الأبصار ) (الحشر: 2) .

فقد وردت الآية لتحكي قصة يهود بني النضير في سورة الحشر، وأن ما حل بهم من الإخراج والتشريد كان بسبب ما فعلوه،

وخاطب الله المؤمنين بقوله: ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) ،

ليكون المسلمون على حذر وعبرة، فلا تنتقل إليهم علل الأمم السابقة، فيحل بهم ما حل بها. ومع ذلك اقتصر الاجتهاد في هـذه الآية على استنباط دليل الفقه التشريعي ، فكانت أحد أدلة القياس عند علماء أصول الفقه، علما بأن دليل القياس التشريعي يعتبر أحد مدلولاتها وليس غاية مقصدها.. فالقضية واضحة أشد الوضوح في أنها دليل أو أصل في الفقه الاجتماعي والسياسي والحضاري، ومع ذلك نجد أن الاستدلال بها ذهب إلى مجال الفقه التشريعي! ولعل في الإطار نفسه يمكن أن ننظر إلى قوله تعالى: ( ... فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (التوبة: 122) ، فالفقه [ ص: 22 ] في الدين بعمومه وشموله لا يقتصر على الفقه التشريـعي ، وإنما له شمـوليته التي يقتضيها شمول مفهوم الدين في الإسـلام، وهـو ما أطلقنا عليه مصطلح: الفقه الحضاري .. والفقه التشريعي كيان من كياناته.. والتعبير بالنفرة والتعبير بالحذر: ( لعلهم يحذرون ) قد يكون أقرب للفقه الميداني والاجتماعي والسياسي والحياتي، الذي يحقق المعرفة من دراسة الواقع وينذر من العواقب ويحذر منها، منه إلى الاقتصار على حفظ النصوص الذي سوف يؤدي إلى فقه الكتب والأوراق، إذا لم يترافق مع النفرة الميدانية الواقعية، خاصة إذا علمنا أن مصطلح النفرة غالبا ما يستعمل للدلالة على سرعة الاستجابة لداعي الجهاد ودخول الميدان.

كما أن الآية في بعض أبعـادها تدعو إلى النفرة للتخصص، والتفقه بكل شعب المعرفة،

وربط الإيمان بالعالم: ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) ،

وربط الإخلاص والإيمان بالاختصاص والخبرة، فكل مؤمن عليم وخبير بتخصص من المعرفة هـو فقيه ومستنفر لتحقيق الكفاية للمسلمين، وتأمين الحذر لأمته، والتبصير للمسلمين من التخلف والسقوط والوقوع في علل تدين الأمم السابقة التي أدت إلى هـلاكها وانقراضها.

وفي ضوء هـذا المفهوم الشامل لمصطلح الفقه في الدين -والفقه [ ص: 23 ] بالمعنى الاصطلاحي جزء منه- لا بد من إعادة النظر بمناهجنا المدرسية، وكلياتنا الشرعية، وموضوعات رسائلنا الجامعية، وأنظمتنا التعليمية، ومعاهدنا الشرعية، والشروط المطلوب توفرها، والمعارف المطلوبة لتكـوين الملكة الفقهيـة القادرة على إنتاج الفكر والفقـه الحضاري، أو العقلية الفقهية، والتقدم صوب شعب المعرفة جميعا بأصول فقهية معرفية إسلامية في المجالات جميعا، القادرة على تنزيل معرفة الوحي على واقـع الناس، وتقويم هـذا الواقـع بها، المستبصرة للمستقبل في ضوء المنهج السـنني، فسـنة الله لا تتـبدل ولا تتحول، وهي ماضية في الأمم والأزمان والأماكن جميعا -حيث لا يخرج الماضي عن أن يكون مقدمة لنتائج وعواقب في المستقبل- فالتأثير في المستقبل وصناعتـه رهين بكيفية تقويم الحاضر والتعامل معه، ومدافعة قدر بقدر أحب إلى الله.. فالذي لا يفقه السنن لا يتمكن من المداخلة وحسن التقدير المستقبلي.

وليس من قبيل المصادفة -ولا مكان للمصادفة والعبثية في هـذا الكون- أن يطلق مصطلح السنة، التي تعني الطريقة المطردة والقانون الناظم الذي يحكم الحياة والأحياء، على ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، فالسنة منهج حياة كامل.. لذلك فإن فقه تقويم الحاضر بقيم الدين في ضوء الظروف المحيطة والإمكانات المتاحة يتطلب إدراك السنة أو المنهج السنني، فلكل شيء سنة، ومن ثم القدرة على [ ص: 24 ] وضع الحاضر في موقعه المناسب من مسيرة السنة (السيرة النبوية) للاهتداء إلى كيفية التعامل معه في ضوء هـدايات الوحي. وهذا الإدراك المطلوب لفضاء مصطلح الفقه هـو الذي يعيد للحياة انسجامها وتوازنها وضبط نسبها، وللمعرفة تكاملها، ولمعرفة الوحي مكانتها في هـداية العقل، ويعيد الوئام بين الدين والعلم، ويحول دون الانشطار الثقافي والمعرفي بين العلم الديني والعلم المدني. هذا الانشطار الثقافي أو التعليمي أو المعرفي -إن صح التعبير- هـو الذي حول الأوهام والظنون والخيالات وردود الفعل في بعض صور التدين إلى حقائق، فحاصر العقل وعطله، باسم الانتصار للوحي أو لمعرفة الوحي، دون إدراك أن العقل مناط التكليف ووسيلة فهم الوحي، وآلية الوحي في الاجتهاد والامتداد والتنزيل.. وهو الذي أخرج معرفة الوحي اليقينية المعصومة بالمقابل من دائرة العلم، فأدى ذلك إلى ضلال العقل وتعطيل عطاء الوحي. لذلك نرى أن من أبجديات الفقه والاجتهاد إيقاظ العقل مناط التكليف والنظر، واسترداد عقلية الاجتهاد، والتحقق بفقه الوحي وضوابطه، وإدراك مكانته وموقعه من العقل بدقة. ولعل من الأمور المطلوب التأكيد عليها باستمرار، لتبقى حاضرة في الذهنية الإسلامية، لتمثل الجذوة المتقدة، والهاجس الدائم، الباعث [ ص: 25 ] على النمو والارتقاء، ومسوغ التقويم والمراجعة والتصويب، ومحرك التجديد والاجتهاد والتأهيل لحمل أمانة المسئولية، ما يكاد يعتبر مسلمة من المسلمات المحسومة على مستوى الوحي، مصدر المعرفة المعصومة والعقل معا، هـي أن الرسالة الإسلامية خاتمة الرسالات السماوية،

يقول تعالى: ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ... ) (الأحزاب:40) ، وهـذه السمة ( الخاتمية ) ، التي تعني فيما تعني توقف خطاب السماء إلى البشر، يترتب على استيعابها والإيمان بها عدة قضايا، تأتي في مقدمتها قضية فقه الخطاب الإلهي -الوحي في الكتاب والسنة- والاجتهاد في تنزيله على واقع الناس المستمر، وتقويم هـذا الواقع بقيمه، والامتداد به، لأن النصوص تتناهى والحوادث لا تتناهى، فالاجتهاد والامتداد والاستمرارية من لوازم الخاتمية.

كما أن من مقتضيات الخاتمية وتوقف التصويب والتقويم لمسيرة الحياة من السماء، أن يتم التجديد والعودة إلى الينابيع الأولى في الكتاب والسنة، ونفي نوابت السوء من التقاليد والبدع والمنكرات، وإعادة معايرة الواقع بمعايير الوحي -وهو من عمل العقل المجتهد الذي يتحمل مسئولية التجديد والتصويب والمعايرة- وعدم التقديم بين يدي الله ورسوله، والقدرة على تجريد النص من حدود الزمان والمكان [ ص: 26 ] وتوليده للأحكام في كل زمان ومكان.. وتحديد هـذه المهمة والمسئولية وتحملها ليس اجتهادا وإنما نصا يحمل إخبارا وتكليفا معا. ( فقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) ) (أخرجه أبو داود في الملاحم) ، يحمل في طياته الإخبار بالحماية وامتداد العطاء السليم للخطاب الإلهي، حيث لا يصح عقلا ولا شرعا مخاطبة الناس وتكليفهم بنصوص منحولة وغير صحيحة، ومن ثم محاسبتهم على ذلك؛ لأنه من مقتضى المسئولية سلامة التكليف وضمان حفظه.. كما يقتضي تكليفا بمداومة التقويم، والمراجعة، والفحص، والاختبار للواقع،

ومعايرته بالقيم المحفوظة: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9) ، والتطبـيـق المعصـوم بتصـويب وتسديد الوحي -فترة النبوة (القدوة) - حتى لا تحل التقـاليد الاجتمـاعية والعـادات محـل التعـاليم والقيم الشرعية. وهذا التكليف يقتضي استشعار مسئولية التجديد والاجتهاد، كما يقتضي استشعار مسئولية التأهيل لممارسة الاجتهاد والتجديد بصفة دائمة، حتى لا يكون التوقف والاستنقاع الثقافي والحضاري. ومن مقتضيات الخاتمية أيضا ولوازمها الخلود.. والخلود -يعني [ ص: 27 ] فيما يعني- أن الرسالة الإسلامية خالدة مجردة عن قيود الزمان والمكان، وتمتلك إمكانية الهداية والإصلاح لكل زمان ومكان وإنسان.

وبعبارة أخرى: الخلود يعني أن الرسالة الإسلامية قادرة على إنتاج النماذج القائمة على الحق في المجالات المتعددة، المجسدة لقيم الوحي على مختلف المستويات القادرة على تقديم الحلول والأحكام الشرعية لكل المشكلات الإنسانية، ورسم المسار السليم في كل زمان ومكان لحركة الإنسان، فردا كان أو جماعة.. وتحقيق هـذا الخلود والامتداد وتوليد الأحكام للحوادث والمشكلات المستجدة، لا يكون إلا بالاجتهاد ، الذي يعني إعمال العقل في نصوص الوحي لاستنباط الأحكام، لذلك يمكن القول: بأن التوقف عن الاجتهاد والعطاء وتوليد الأحكام يعني محاصرة الخلود، وتعطيل الشريعة، والسماح بامتداد (الآخر) لمعالجة مشكلاتنا، والحكم بتاريخية الرسالة الإسلامية وعدم خاتميتها وخلودها.

لذلك نرى أن توقف الاجتهاد، أو قفل باب الاجتهاد، على الرغم من أنه اجتهاد غير ملزم، فإنه مناقض لخاتمية الشريعة وخلودها وتجديد فهمها في ضوء معطيات العصر، وتخاذل عن حمل أمانة المسئولية، والمساهمة السلبية بفصلها عن الحياة من حيث الواقع، مهما كانت دعاوانا عريضة بأن الشريعة خالدة وصالحة لكل زمان ومكان، على [ ص: 28 ] مستوى الشعارات؛ لأننا عمليا بإغلاقنا باب الاجتهاد مهدنا للوقوع في شرك أعداء الإسلام، وحكمنا بتاريخية الإسلام، وأنه إنما جاء لمعالجة مشكلات عصر معين، انقضى ذلك العصر وانقضت معه الحلول ووسائل العلاج التي لم تعد تصلح، وأن الحياة المعاصرة تقتضي علاجا آخر مناسبا لها.

وأعتقد أن مسوغات إغلاق باب الاجتهاد عند من اجتهد في ذلك، سدا للذرائع بحجة فساد الزمان وانعدام الأهلية، والخوف من دخول الساحة من يحسن ومن لا يحسن، ومن يملك المؤهل والشروط ومن لا يملكها، هـو فوق كونه اجتهادا يلغي اجتهادا، فإنه محل نظر من الناحية الشرعية، وحكم مسبق على الأمة المعصومة، التي أخبر عنها الصادق المصدوق أنها لا تجتمع على خطأ، بالعقم والعجز، وتعطيل للخلود -كما أسلفنا- وإلغاء للشريعة من مواقع متعددة، وكأن الله الذي أنزل الشريعة الخاتمة الخالدة، وجعل الاجتهاد من مصادر تشريعها ومن لوازم خاتميتها وخصائص خلودها، لا يعرف تقلب الزمان والمكان وفساد العصور -والعياذ بالله!!- وكأننا هـنا بإغلاق باب الاجتهاد نساهم بشكل سلبي في إلغاء الخاتمية ومحاصرة الخلود باجتهاد ظني،

وقد قال تعالى: ( وخاتم النبيين ) ،

ونوقف عمليات التجديد والتصويب، ونؤذن بعودة الجاهلية، ودخلوها الساحة من جديد [ ص: 29 ] بخروجنا منها، بذرائع غير مقنعة وحالات استثنائية نعممها على الزمان والمكان.

أما ذريعة أن فتح باب الاجتهاد سوف يسمح بممارسة الاجتهاد لمن يحسنه ومن لا يحسنه -وهذا أمر طبيعي في كل المجالات- فالقضية محل نظر، حيث لا يستطيع أحد أن يملك توقيف عقول الناس وحجرها ومنعها من النظر والاجتهاد الفقهي والفكري؛ لأن العقل سوف يواجه مشكلات لا بد أن يتعامل معها بصورة من صور التعامل.

ومن ناحية أخرى، فإن إغلاق باب الاجتهاد منعا لذريعة الفساد والعبث، لم يمنع من الاجتهاد وتوليد الأحكام وخاصة في مجال الفتاوى السياسية، أو فقه السلطان، وتفصيلها على الأحوال السياسية المتناقضة والرغبات والأهواء المتقلبة، حتى أصبحت أشبه بما يسمى: (فتاوى تحت الطلب) ، بحيث أصبح الكثير ممن يمارس مثل هـذا النوع من الاجتهاد والفتوى، يحاول أن يتعرف قبل أن يتورط عن رغبة السلطان، ليتم تفصيل الفتوى على المقاس المطلوب.. هـذا من جانب، ومن جانب آخر فإنه في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح.

إن مجال الاجتهاد مثل سائر المجالات يدخله الغث والسمين، والمؤهل ومدعي التأهيل، لكن الكثير من الاجتهادات سوف تطرد من الساحة ولا يكتب لها الصمود والبقاء والتطبيق لتهافتها وسقوطها.. [ ص: 30 ]

فوعي الأمة وعصمتها كفيل بإسقاط كل فتوى واجتهاد لا تصيب الصواب ولا يتحقق صاحبها بالعلم والصلاح.. ولا تتلقى الأمة إلا عن أهل الثقة والخبرة، فكم من العبث تاريخيا مورس على الأحكام الإسلامية ولم يكتب له الحياة والاستمرار.. فالله يحمي دينه ويحفظه، ويهيئ من يدفع عنه، ويوفق ويكتب القبول لمن ينصره.

لذلك أعتقد أن الخوف من دخول ساحة الاجتهاد من لا يحسن ذلك مبالغ فيه جـدا، ولا يجوز أن ينتـهي إلى الحـكم بإغـلاق بـاب الاجتهاد، لأن الحـق والصواب قادر على هـزيمة الباطل.. والشر من لوازم الخير.. والتدافع بين الحـق والبـاطل من سـنن الحـياة.. ولا يصـح إلا الصحيح.

فليجتهد الناس بحسب إمكاناتهم.. وإذا كان الإنسان غير مؤهل للنظر والاجتهاد فسوف يكون مرفوضا من أهل العلم والخبرة والمجتمع بعامة، لأنه يحمل عملة رديئة مزيفة لا تشتري شيئا.. فوعي الأمة كفيل بمحاصرة الخروج والانحراف.

والإسلام دين حياة كامل.. والمسلم معرض بقدر علمه واستطاعته لقدر من النظر في الحل والحرمة لممارساته، بعيدا عن الكهانات الدينية، فالقضية قضية علم يحاصر الجهل مهما ادعى الجاهل أنه عالم. ونحن هـنا لا ندعو لأن يدخل الساحة من يحسن ومن [ ص: 31 ] لا يحسن، وإنما نقول: بأن الذي لا يحسن سوف يخرج عمليا من الساحة لأن بضاعته مزجاة.. وبعض ما يمكن أن يترتب على دخوله من مخاطر وإصابات، قد تكون مطلوبة ليأخذ الناس حذرهم، وهذه الإصابات لا يمكن أن تعادل المفاسد والإصابات الكبرى التي تترتب على إقفال باب الاجتهاد .

وناحيـة أخرى لا بد مـن التـوقف عنـدها في هـذا المجـال، وهي ما تواضع عليه العلماء من أدوات الاجتهاد وشروطه المطلوب توافرها فيمن يقدم على عملية الاجتهاد.

وفي ضوء أن هـذه الشروط في معظمها اجتهادية، شأنها شأن الكثير من القواعد الأصولية، وحيث إنه لم يتوفر لها إجماع يمنحها قدرا من القطعية، لذلك تبقى باستمرار محلا للنظر والاجتهاد، حيثما تطورت أدوات البحث.. ذلك أن بعض الشروط التي قد تبدو ضرورية في عصر له أدواته العلمية والمعرفية، قد تتراجع أهميتها وقيمتها في عصر آخر، إضافة إلى أن الأمة جميعها مخاطبة ببذل الجهد والاجتهاد لإقامة الأحكام الشرعية والتعبد لله، كل بقدر استطاعته العلمية والجسمية والمالية، وأن التشاور والحوار والمناقشة والمثاقفة والمجادلة كفيلة إلى حد بعيد بتصفية الاجتهادات الواهية والمغرضة والمنحازة والمذهبية والطائفية، وهكذا، وسوف لا يمكث في الأرض إلا الصالح [ ص: 32 ] الذي ينفع الناس.

ونحن هـنا لا نقول بإطلاق الحبل على الغارب، وإشاعة الفوضى، وإلغاء قيمة التخصص التي نلح دائما على توفرها، وإنما نرى أن فتح المجال للفكر والاجتهاد المحكوم بقيم الكتاب والسنة، وعصمة عموم الأمة وغيرتها وحرصها على دينها، ومدافعة العلماء العاملين مصداقا ( لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (يحمل هـذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ) ) (أخرجه البيهقي ، وصححه الإمام أحمد والعلائي ) ، يشكل سدا أمام العابثين، وسوف لا يحمل من المخاطر ما يحمله إغلاق باب الاجتهاد، حيث لم يغلق عمليا إلا على أهل التقوى والصلاح والخوف، أما أولئك الذين احترفوا كسر الحواجز وتوهين القيم والعبث بتراث الأمة، وتحريف الكلم عن مواضعه والتأويل الفاسد، فلم يمنعهم شيء من علم أو دين. والواقع شاهد على ذلك، وقد تكون المشكلة أننا نرفض الكهانات في الإسلام ويمارسها بعضنا عمليا.

ولسنا بحاجة إلى معاودة القول: بأن إغلاق باب الاجتهاد يلغي عقل الأمة ويحد من مسيرتها، ويحاصر خلود الشريعة من الامتداد بأحكامها، ويفسح المجال لامتداد (الآخر) ، ويشيع من الرعب الفكري ما يشل الحركة الذهنية بشكل عام، علما بأن إغلاق الباب أيضا لم [ ص: 33 ] يحل دون التحريف والانحراف، الذي ما كان ليكون لو ملئت الساحة بالخير والصواب، فتغييب الخير يعني الإيذان بحضور الشر.

وقد يكون من المطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، وقد حصل من التقدم في مجال الاتصالات ووسائلها ما لم يخطر على البال حتى في عصر الخيال العلمي، لدرجة أن الإنسان أصبح يرى ويسمع العالم من مكانه، كما حصلت ثورة معلوماتية هـائلة وتطور في أدوات ووسائل الحصول على المعلومة وحفظها واسترجاعها، إضافة إلى عمليات التصنيف والأرشفة التي تجعل الإنسان في الصورة المحيطة لكل ما يريد، قد يكون المطلوب إعادة النظر في شروط الاجتهاد ، التي اجتهد العلماء في وضعها في عصور معينة في ضوء رؤيتهم، وظروف عصرهم، وأدواتهم المعرفية، ودرجة تدوين العلوم، ووسائلهم في الحفظ، وما كان من أهمية الاعتماد على الذاكرة.

وأعتقد أن الوضع قد يكون تغير كليا اليوم، فاللغة مدونة بمفرداتها ومعانيها ومجازاتها وقواعدها، فمعاجمها ومصطلحاتها موجودة ومسهلة لدرجة كبيرة، وأية مسألة من مسائلها ومفردة من مفرداتها يمكن الحصول عليها والوصول إليها بسهولة، والقرآن محفوظ بالصدور والسطور، وأشكال الحفظ والاستدعاء لا تحصى، وهي ما تزال تتطور يوميا، ومؤلفات الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، وأسباب [ ص: 34 ] النزول ، وما إلى ذلك من العلوم كلها متوفرة أمام الباحث، لدرجة أنها أصبحت مكشوفة وميسرة لعموم المتعلمين، والحديث استقر وميز صحيحه من ضعيفه وموضوعه، وحسنه ومتواتره، والبحوث في هـذا المجال استوفت التوثيق من حيث الرواية ودرجة الحديث، وبالإمكان اليوم بضغطة (زر) الحصول على نص الحديث ودرجة صحته ومصدره في الكتب المعتمدة (كتب الصحاح) ، وما على الباحث إلا النظر والدراية، وهكذا الكثير من الشروط الاجتهادية المطلوبة للاجتهاد ، أفلا يقتضي ذلك كله إعادة النظر بهذه الشروط التاريخية، التي جاءت ثمرة لرؤية خاصة، في عصر معين له أدواته المعرفية وظروفه الفكرية ؟!

وبالإمكان القول: إن هـذه الشروط التي تكاد تكون مستحيلة التوفر، وإن بدا أنها تسدد الطريق إلى الصواب، فإنها ساهمت بغلق باب الاجتهاد، ولم تؤد إلى تذليل طريقه، فهي أقرب للاستحالة، والحكم على عقل الأمة بالعطالة والإلغاء منها إلى المساعدة على النمو والامتداد.

ويمكن أن نقول: بأن الإسلام أصيب ولا يزال على يد أبنائه والمنتسبين إليه أكثر من إصابته من الخارج أو من (الآخر) ، بل لعلنا نحن الذين ساهمنا بسذاجة بتقوية أعداء الإسلام وتقويض الكيان الإسلامي، وحال المخلصين منا شبيه بحال الأم التي تحول بين الطبيب [ ص: 35 ] وابنها المريض حتى لا يتـألم من تناول الـدواء، فيؤدي الأمر إلى موته أو إلى استمرار مرضه.

وقضية أخرى في هـذا السياق; وهي: أن التشعب المعرفي حتى في المجال والموضوع الواحد، وشيوع الاختصاص الذي أصبح سمة العصر، لم يعد يسمح، ولا يمكن معه لأي إنسان بالغا من الذكاء ما بلغ، بالغا من العمر ما بلغ، أن يدعي الإحاطة بكل شيء، والإجابة عن كل شيء، والاجتهاد في كل شيء.. والذي يدعي معرفة كل شيء والإجابة عن كل شيء نخشى أن نقول: (لا يعرف شيئا) ! والذي لم يؤدبه الإسلام فلتؤدبه المعرفة وأخلاقها، حتى لا يقفو ما ليس له به علم.

لذلك فإن قضية المجتهد المطلق والرجل الملحمة ولى عهدهما، وبالتالي لا بد من إعادة النظر بالشروط العامة، والتحول إلى الشروط الخاصة والمطلوبة لكل شعبة من شعب العلوم والمعارف. إضافة إلى أن إمكانية النظر الفردي تبقى قاصرة وغير محيطة; حيث لا بد من الاجتهاد الجماعي الذي يجتمع له الخبراء المتخصصون والفقهاء المتمرسون بمعرفة الوحي، ويغيب عنه المتحمسون غير المتخصصين؛ لأن مجالهم آخر.

وقد تكون الإشكالية الذهنية أو الثقافية -إن صح التعبير- أن بعض الذين يدافعون عن شروط الاجتهاد التعجيزية، ويصرون [ ص: 36 ] على عدم إعادة النظر فيها، بالرغم من تطور أدوات الاجتهاد، هـم أنفسهم يرضـون لأنفسهم أن يتطـاولوا على قضايا ليـست من اختصـاصهم ولا حتى من اهتمامهم، ولا تتوفر فيهم أدنى شروطها، بل لعل الكثير منهم يغادر اختصاصه النوعي، من طب وصيدلة وهندسة وعلوم، الذي يمكن أن يكون في خدمة الفقه -بالمعنى العام- ليتحول إلى واعظ أو باحث أو خطيب متحمس في قضايا قد لا يختلف فيها كثيرا عن المتلقين، الأمر الذي أثمر العجز والتخاذل والمراوحة في الموقع الواحد، والاجترار والإعادة للقضايا لأكثر من نصف قرن دون أي قدرة على المراجعة والتقويم، وحتى الإفادة من التجربة الذاتية.

وبالإمكان القـول: إن الفـقـه التـشريعي والفقـه العبـادي وكـل ما يتعلق بقضايا الحلال والحرام قد استبحر وأنضج وقورن ورجح وأصل، حتى إنه لم يدع استزادة لمستزيد، وأنه استقر واستمر.. وهذا الفقه التشريعي والعبادي هـو الذي يشكل المحور الأساس للتدين والسلوك، أما فيما وراء ذلك من الفقه التربوي والسياسي والاجتماعي والدولي فيما يسمى بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، أو المعرفي بشكل عام، فهو أقرب إلى الفقه الفكري أو الرؤية الفكرية التي تكاد تتطور يوميا بإيقاع سريع في ضوء المعطيات المعاصرة والمشكلات الاجتماعية والتربوية وإلغاء الحدود وكمية التبادل المعرفي الذي يرتكز على [ ص: 37 ] التجارب الميدانية التي تتعاظم وتتسع فيها معارف العقل المستهدي بالوحي، فلا نعتقد أنها بحاجة للضوابط والشروط الاجتهادية نفسها.

لذلك ففتح باب الاجتهاد على مصراعيه اليوم، بات لا يشكل خطورة على قيم الشـرع، وإنما يساهم بإطلاق العقل من قيوده الموهومة باتجاه تحقـيق الرؤية الإسلامية في العـلوم الاجتماعية، واستشعار أهمية التخصصات في شعب المعرفة جميعا، وأن تحصيل هـذه التخصصات التي تعتبر من الفروض الكفائية الغائبة هـو دين واجتهاد فكري مثاب عليه صاحبه، وبذلك يعود الارتباط المفقود بين العلم والدين، وتنضبط المسيرة العلمية بضوابط الوحي وأهدافه، ويقبل المسلم على اكتساب المعارف، والاجتهاد في توليد الرؤى الشرعية بدافع الثواب ووازع العقيدة والدين، ويصبح خطابه في مجال اختصاصه مقنعا ومسموعا.

في ضوء هـذه الرؤية لقضية الاجتهاد، ومجالاته، وأبعاده، وأهدافه التي تقتضي إعادة النظر في الشروط الاجتهادية والأدوات المطلوبة التي قدمها العلم للمجتهد، يمكن إعادة النظر أيضا في مناهج وشروط بناء الملكة الفقهية، أو ملكة الاجتهاد، حيث لا بد أن يسبق الفكر الفعل، والنية العمل. فما هـي المجالات التي سوف نرتادها ونجتهد فيها، وما هـي الأهداف التي نريد تحقيقها، وما هـي الكيفية التي نتوصل بها [ ص: 38 ] إلى تحقيق الأهداف، وما الشروط والمعارف المطلوب توفيرها للفقيه المفكر في كل اختصاص، إلى جانب الشروط العامة المطلوبة لشعب المعرفة جميعا؟؟

ذلك أنه من المؤلم والمحزن حقا أن الدراسات الفقهية والشرعية بشكل عام تعاني، لأنها تخرج حفظة وحملة فقـه في الأعم الغـالب، ولا تخرج فقهاء.. تخرج نقلة يمارسون عملية الشحن والتفريغ والتلقين، ولا تخرج مفكرين ومجتهدين يربون العقل وينمون التفكير.. تخرج من لا يستطيعون تجاوز المثال الذي أتى به الأقدمون، إلى تنزيل القاعدة على واقع جديد، أو توليد حتى مثال معاصر غير القديم.

وليست الدراسات العليا في معظمها -والأصل فيها أنها قائمة على البحث والدراسة والمقارنة والتقويم والترجيح- بأحسن حالا؛ لأنها امتداد لعقلية النقل والشحن والتفريغ، بعيدا عن الإبداع والتفكير والابتكار.

فالناظر إلى الكثير من رسائل وبحوث الماجستير والدكتوراة في الجامعات الشرعية الإسلامية بشكل عام، يجد أطنانا من الورق، يعظم كمها ويتضاءل كيفها، لم تحرك ساكنا، ولم تحقق رؤية تغير من واقع الأمة، وإن كانت ترتقي بالمواقع المادية وأحيانا الاجتماعية لأصحابها، الذين أصبحوا حملة الألقاب العلمية! هـذا إن لم تكن في بعض الأحيان وسيلة توبيخ مستمرة لحملتها.. ويكفي استعراض الكثير من [ ص: 39 ] العناوين والمضامين لهذه الرسائل التي قد تبلغ عشرات الألوف للدلالة على عقـل الأمة وحـالها.. فإذا كنا لا نستطيـع تجاوز المثـال بعـد، ولا نمتلك إمكانية التقويم الثقافي والفقهي، فكيف تبني مؤسساتنا ومناهجنا ملكات فقهية؟! وهذا لا يعني بالطبع عدم وجود إبداعات أو إضاءات وفتاوى أنارت للأمة الطريق واحتفظت بالأمل.

لذلك فمشكلة المعاهد الشرعية، ودورها في تخريج الفقهاء والعلماء، والمساهمة في تنمية وبناء الملكة الفقهية، ذات أبعاد متعددة ومثيرة ليس أقلها ما تعانيه من غربة الزمان والمكان، وذلك على أهمية دورها التاريخي في حفظ العلم الشرعي ونقله، والحفاظ على الهوية والأصالة، بكل مقوماتها، والاحتفاظ بالأمة، والآمال المعقودة عليها.

فقد انتهت إلى حالة لم تستطع معها أن تفكر في تطوير مناهجها وخططها لتواكب مستجدات العصر، بحيث تستطيع أن تؤهل الطالب للتعامل والاجتهاد في قضايا عصره، من خلال رؤية ومرجعية شرعية متينة، بل بقيت مقتصرة على الطريقة القديمة ذاتها بمناهجها وموادها التعليمية، وقد تستهلك وقت الطالب وعقله في شرح المختصرات واختصار الشروح والمطولات، وحفظ الأراجيز، وبذل الجهد الذهني الكبير في فك رموز العبارات ومستغلقاتها، وصرف الجهود على قضايا لم تبق لها سوى القيمة التاريخية إن بقيت، وعدم ملاحظة [ ص: 40 ] -أثناء العملية التعليمية- نمو مدارك الطالب وتطور ملكاته وتوافق المعلومة مع إمكاناته العقلية وحاجاته العملية، واعتماد طريق التلقين والتلقي بعيدا عن التفكير والمشاركة، بل لعل المنافسة والمشاركة والمقارنة الفقهية تشكل سببا في نبذ الطالب وتأنيبه.

وعلى العموم، فقد بقيت طرائق التعليم وأساليبه ومعلوماته تدور في هـوامش عقل المؤلف أو الشيخ، ونظراته الفقهية ومذهبه، أي أن الحركة التعليمية كل مدارها عقل آخر لا يجوز أن يخرج عنه، لذلك فهي في أحسن الأحوال تنتج نسخا مكررة مقلدة يمكن أن تغني عنها النسخ الأصلية.. وغالبا ما يسود العملية التعليمية في معاهد التعليم الشرعي الاستغراق في الفروع والمسائل الجزئية، بعيدا عن تكوين المنهج وتشكيل النظرة الكلية وبناء الملكة الفقهية القادرة على النظر، على الرغم من أن بعض أسماء هـذه المعاهد: (كليات) ، لكنها تفتقر إلى النظرة الكلية والرؤية المنهجية.

إضافة إلى أن بعض الدارسين في هـذه المعاهد يعاني من غربة المكان، فأقل ما يمكن أن يقال: إنه لم يؤهل لعصره، ولم يسلم مفاتيح التعامل مع الواقع من الناحية الشرعية.. فقد يحمل الفقه المكتوب ويحفظ متونه، لكنه لا يفقه شيئا عن الواقع، فهو خارج المجتمع الذي يعيش فيه.. وجهله لمشكلاته وقضاياه ومداخله وثقافته قد يجعل [ ص: 41 ] مداخلته ساذجة وسطحية في كثير من الأحيان، ويجعل خطابه (صيحة في واد) .. حتى العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تشكل الرؤية المطلوبة ودليل العمل للوصول إلى الأمة وتوصيل رسالة الإسلام لها، قد لا تشعر بعض المعاهد بأهميتها! ذلك أن أمر استيعابها وتدريسها قد يحتاج إلى جهود، وترافقه احتمالات الخطأ، وهذه مشكلات لا تحتاجها عمليات التعليم القائمة على الشحن من كتب السابقين والتفريغ على رءوس المعاصرين.

وقد أدت هـذه الغربة عمليا إلى لون من الانشطار الثقافي، وخروج بعض معاهد العلم الشرعي من قلب المجتمعات لتعيش على هـوامشها غير الفاعلة، وساهم إلى حد بعيد بتدعيم مؤسسات التعليم الذي يصطلح على تسميته بالتعليم المدني، الذي أبصر المجتمع وخطط لاحتلاله، وهيأ الطالب لوظائفه ومسئولياته، الأمر الذي انعكس بدوره أيضا على مدخلات المعاهد الشرعية، حيث أصبح لا يقبل عليها في غالب الحال إلا أصحاب المعدلات المتدنية، الذين لم يجدوا مكانا لهم في مؤسسات التعليم المدني، إلا من رحم الله من المتميزين القادرين على اجتياز العقبة وإدراك أهمية الفقه في الدين، وإبصار عاقبة الأمور، على الرغم من أنه قد يصاب هـؤلاء مع الأسف ببعض النماذج من القائمين على أمر التعليم الشرعي دون مؤهلات صحيحة فيسيئون إلى [ ص: 42 ] تطلعاتهم، ويحبطون عقولهم، ويقتلون طموحهم، ويساهمون بعجزهم وتفتيت معارفهم، وبعثرة قدراتهم، والقضاء على ملكاتهم. وبـذلك تصـبح مخرجـات المعاهـد الشرعـيـة (ضغـثا على إبـاله) ، كما يقول المثل.

وهذا الكتاب، يتناول موضوعا، أو يطرح قضية على غاية من الأهمية، ويفتح ملفها، ويستدعيها للبحث والمناقشة والدرس بعد أن كادت تغيب عن الذهنية الإسلامية المعاصرة بشكل عام، ومعاهد التعليم الشرعي الإسلامي -محاضنها الطبيعية- بشكل خاص، في هـذه الحقبة الثقافية التي بدأ يكثر فيها المتحمسون ويقل فيها الفقهاء والخبراء المتخصصون.

وهو محاولة، استعرضت وجهات النظر المتعددة، منهجيا ومذهبيا، ولغويا واصطلاحيا، في تعريف الملكة الفقهية، وكيفية تنميتها، ورعايتها، وإعادة بنائها.. ولعل الإشكالية أنه على الرغم من الانفجار المعرفي والثورة المعلوماتية، وتدفق المعلومة وسرعة الحصول عليها وحفظها واسترجاعها، والتقدم بأدوات ومناهج البحث، فإن استقراء الواقع العلمي والعملي لا يشير إلى أن الإنتاج الفقهي والظهور كان بمستوى تلك الأدوات ولا بموازاتها، الأمر الذي يشكل إدانة لوسائلنا ومؤسساتنا التعليمية، ويؤكد الخلل في مناهجنا وطرائقنا التربوية. [ ص: 43 ]

لذلك فإن هـذه القضية التي أعاد الباحث -جزاه الله خيرا- فتح ملفها، ما تزال تستدعي مزيدا من التوسع والنظر والنقد والتقويم لشروط الاجتهاد وأدواته، بعد هـذا التطور الرهيب في تصنيف العلوم بحسب موضوعاتها، وتقدم وسائل الحفظ والاسترجاع، لإحياء قدرات الأمة وشحذ فاعليتها وبعث روح التفكير والاجتهاد، والتدريب عليه، ليصبح مناخا ثقافيا يعيد حراك الأمة، وينفخ فيها روح الحياة، ويحقق المعاصرة لمؤسساتها، ويسترد العطاء العلمي الإسلامي، الذي يطلق العقل للاجتهاد والنظر في ضوء هـدايات ومعارف الوحي، ويفك قيود العزلة، ويلغي حواجز الاغتراب، ويعيد للفقه مفهومه الشمولي لشعب المعرفة جميعا، ويساهم في بناء الملكة القادرة على النظر في العواقب والمآلات، استجابة ( لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس الذي يشكل حافزا لكل مسلم: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) (أخرجه أحمد ) ، ونزوعا إلى استرداد خيرية الأمة التي تكتسبها بسبب فقهها في الدين: ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) (أخرجه البخاري ) ، واستنفارها لتحصيل الاختصاص، وإشاعة إحياء الفروض الكفائية، وربط مسيرة العلم وضبط وجهته بالإيمان، لتقلع الأمة من جديد.

والله المستعان. [ ص: 44 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية