الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الأول: معنى الملكة الفقهية والألفاظ ذات الصلة.

يشتمل هـذا المبحث على مطلبين، الأول: في معنى الملكة الفقهية، والثاني: في الألفاظ ذات الصلة.

المطلب الأول: معنى الملكة الفقهية

قبل بيان معنى الملكة الفقهيـة باعتبارها لقبا على صفة معيـنة، [ ص: 47 ] لا بد من بيان جزأيها اللذين تركبت منهما، وهما (الملكة) و (الفقهية) ، لأن معناها اللقبي ليس معزل عن معاني ما تركبت منه.

أولا: تعريف الملكة الفقهية باعتبارها مركبا إضافيا

1- تعريف الملكة

الملكة في اللغة: مأخوذة من ملك، وهو -كما قال ابن فارس - أصل صحيح يدل على قوة في الشيء وصحة، فيقال: ملك الشيء ملكا: حازه وانفرد بالتصرف فيه، فهو مالك.. ويقال: أملك العجين ملكا: قوى عجنه وشده.. ويقال: هـو يملك نفسه عند شهوتها: أي يقدر على حبسها.. وهو أملك لنفسه: أي أقدر على منعها من السقوط في شهواتها [1] .

والملكة في الاصطلاح: (صفة راسخة في النفس) [2] , وبعبارة أخرى: (الهيئة الراسخة في النفس) [3] حيث تحصل في النفس هـيئة بسبب فعل من الأفعال، يقال لها (كيفية) أو (حالة) ، فإذا كانت تلك الهيئة سريعة الزوال سميت كيفية أو حالة، أما إذا تكررت [ ص: 48 ] تلك الهيئة ومارستها النفس حتى رسخت فيها، وصارت متعذرة الزوال، أصبحت ملكة: كملكة الحساب، وملكة اللغة، وملكة الكتابة وغير ذلك [4] .

يظهر مما سبق أن الملكة تختص بثلاث خصائص، هـي:

الخاصية الأولى: الملكة صفة في النفس، تطلق على مقابلة العدم [5] . وهي تعين الشخص على سرعة البديهة في فهم الموضوع وإعطاء الحكم الخاص به، والتمييز بين المتشابهات بإبداء الفروق والموانع، والجمع بينها بالعلل والأشباه والنظائر وغير ذلك.

الخاصية الثانية: الملكة صفة مكتسبة وموهوبة، تتحقق للشخص بالاكتساب والموهبة، فاكتسابها يتحقق بالإحاطة بمبادئ العلم وقواعده، كما يرى ابن خلدون ، حيث قال: (إن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هـو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله، وما لم تحصل هـذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن) [6] . في حين [ ص: 49 ] يـرى بعضهم أنها ليست مكتسبة، وإنما هـي هـبـة موروثة لا تكتسب ولا تعلم، فمن وهبه الله ملكة الحفظ كان حافظا، ومن وهبه الله ملكة التخيل كان شاعرا.

والحقيقة أن الملكة تجمع بين الأمرين، فهي هـبة من الله تعالى: تنمو وتزداد بالاكتساب، فقد روي عن الإمام مالك أنه قال: (ليس الفقه بكثرة المسائل ولكن الفقه نور يؤتيه الله من يشاء من خلقه) [7] ، وقال الإمام مالك للإمام الشافعي وهو غلام يطلب العلم: (إن الله ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بالمعصية) [8] .

الخاصية الثالثة: الملكة صفة راسخة كالنبتة التي تظهر في الأرض تنمو وتتجذر بالرعاية والعناية، وكذلك الملكة تبدأ ضعيفة، ثم تتقوى وتترسخ في النفس، فإذا ألقى المدرس على التلميذ أصول مسائل العلم وقواعده العامة حصلت له ملكة لكنها ضعيفة. فإذا توسع في الشرح وذكر الآراء المختلفة تجود ملكته وتقوى، فإذا أصبح قادرا على إدراك العويص المستغلق، وأصبح المدرس لا يترك خفيا إلا وضحه وفتح مغلقه وأعانه على إدراكه، فقد تهيأت لطالب العلم [ ص: 50 ] ملكة راسخة، يقول ابن خلدون : (اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا فقليلا، يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن، هـي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية ضعيفة، وغايتها أنها هـيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هـنالك من الخلاف.. فتجود ملكته، ثم يرجـع به وقد شـذا فلا يترك عويصا ولا مهما ولا مغلقا إلا وضحه، وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته...) [9] .

2- تعريف الفقهية

الفقهية قيد في الملكة لإخراج ما ليس بفقهية: كالملكة النحوية، والملكة الحسابية، والملكة الكتابية.

والفقهية في اللغة: نسبة إلى الفقه وهو مأخوذ من فقه، وهو [ ص: 51 ] يطلق على الفهم والعلم والفطانة [10] .

وقيل: إن الفقه مشتق من (الفقء) وهو الشق والفتح، كما ذكر ابن الأثير [11] لأن الهمزة تتعاقب مع الهاء لاتحاد مخرجهما، وقد أيد هـذا الحكيم الترمذي ، وقرر أن الفقه هـو معرفة بواطن الأمور والوصول إلى أعماقها، فمن لم يعرف من الأمور إلا ظواهرها لا يسمى فقيها، حيث قال: (والفقه مشتق من تفقؤ الشيء، يقال في اللغة: فقأ الشيء إذا انفتح، وفقأ الجرح إذا انفرج عما اندمل، والاسم فقئ والهاء والهمزة تبدلان، تجزي إحداهما عن الأخرى، فقيل: فقيء وفقيه.. والفهم هـو العارض الذي يعرض في القلب من النور، فإذا عرض انفتح بصر القلب فرأى صورة ذلك الشيء. فالانفتاح هـو الفقه، والعارض هـو الفهم) [12] ولا مانع من اعتبار الاشتقاقين لما في الثاني من أثر في الالتزام بالأحكام الشرعية.

فقد بين الحكيم الترمذي أثر ذلك الاشتقاق على التزام المسلم [ ص: 52 ] بالأحكام الشرعية; حيث قال: (... إن الذي يؤمر بالشيء فلا يرى زين ذلك الأمر، وينهى عن الشيء فلا يرى شينه، هـو في عمى من أمره.. فإذا رأى زين ما أمر به وشين ما نهي عنه عمل على بصيرة، وكان قلبه عليه أقوى، ونفسه به أسخى، وحمد على ذلك وشكر.. والذي يعمى عن ذلك فهو جامد القلب، كسلان الجوارح، ثقيل النفس، بطيء التصرف) [13] .. وقال في موضع آخر: (... فمن فقه أسباب هـذه الأمور التي أمر ونهي، بماذا أمر ونهي، ورأى زين ما أمر وبهاءه، وشين ما نهي، تعاظم ذلك عنده، وكبر في صدره شأنه، فكان أشد تسارعا فيما أمر، وأشد هـربا وامتناعا مما نهي.. فالفقه في الدين جند عظيم يؤيد الله تعالى به أهل اليقين، الذين عاينوا محاسن الأمور ومشاينها، ومقدار الأشياء وحسن تدبير الله عز وجل لهم من ذلك بنور يقينهم ليعبدوه على يسر.. ومن حرم ذلك عبده على مكابدة وعسر; لأن القلب -وإن أطاع وانقاد لأمر الله عز وجل - فالنفس إنما تخف وتنقاد إذا رأى نفع شيء أو ضرر شيء، والنفس جندها الشهوات وصاحبها محتاج إلى أضدادها من الجنود حتى يقهرها، وهي الفقه) [14] . [ ص: 53 ]

ومما يؤيد الأخذ بالاشتقاقين أن عمل الفقيه لا يقتصر على العلم بالأحكام الفقهية وفهمها، وإنما يتعدى ذلك إلى الكشف عن علل الأحكام ومآخذها ومقاصدها، وغير ذلك مما يساعد في عملية استنباط الأحكام الشرعية، ولذلك عرف الفقه بأنه: (الإصابة والوقوف على المعنى الخفي الذي تعلق به الحكم) [15] .

والفقه في الاصطلاح: (العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية) [16] وزاده ابن خلدون توضيحا حين قال: (معرفة أحكام الله في أفعال المكلفين بالوجوب والحظر والندب والكراهية والإباحة، وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا استخرجت تلك الأحكام من الأدلة قيل لها فقه) [17] .

ولم يرتض الآمدي إطلاق الفقه على العلم. فقال: (الأشبه أن الفهم مغاير للعلم; إذ الفهم عبارة عن جودة الذهن من جهة تهيئه لاقتناص كل ما يرد عليه من المطالب، وإن لم يكن المتصف بها عالما، كالعامي الفطن) [18] . [ ص: 54 ]

ولا مانع من إطلاق الفقه على العلم والفهم والفطنة، والكشف عن المعاني الخفية.. والفقيه هـو من اتصف بعلم الفقه أو بالاجتهاد، وعرفه البغدادي بأنه: (الضابط لما روى، الفهم للمعاني، المحسن لرد ما اختلف فيه إلى الكتاب والسنة) [19] .

ثانيا: تعريف الملكة الفقهية باعتبارها لقبا

الملكة الفقهية: (صفة يقتدر بها على استنتاج الأحكام من مآخذها) [20] .. وعرفها ابن النجار الفتوحي بقوله: (أن يكون الفقه عنده سجية وقوة يقتدر بها على التصرف بالجمع والتفريق والترتيب والتصحيح والإفساد) ، ثم قال: (فإن ذلك ملاك الفقه) [21] .. وقد فصل القول فيها بعض المعاصرين حينما قال: (القدرة على النظر في الأدلة، وكيفية استنباط الأحكام منها، حتى لا تكاد تعرض عليه حادثة من الحوادث إلا أمكن أن يعطيها ما يليق بها من الأحكام، فضـلا عن أنه بعد ذلك تطمـئن نفسه إلى ما يعـمل به من أحكام أو يفتي به غيـره، أو يقضي به بين النـاس، إذ لا يقـدم على ذلك [ ص: 55 ] إلا وهو يعلم الدليل على ما أقدم عليه) [22] .

يلاحظ على التعريف الثاني أنه غير شامل؛ لأنه يقتصر على تخريج الأحكام على الأصول، والترجيح بين الأقوال في المذهب. ويلاحظ على التعريف الثالث أنه شرح تفصيلي لبعض مفردات الملكة الفقهية.. وأما التعريف الأول فهو غير شامل لجميع مفردات الملكة الفقهية، لأنه يقتصر على استنباط الأحكام من الأدلة.

وأما مفردات الملكة الفقهية فهي:

1- فقه النفس : وهي صفة في النفس جبلية تحقق لصاحبها شدة الفهم لمقاصد الكلام [23] ، كالتفريق بين المنطوق والمفهوم، قال السيوطي : (وفقه النفس لا بد منه، وهو غريزة لا تتعلق بالاكتساب) [24] .

2- القدرة على استحضار الأحكام الشرعية العملية في مظانها الفقهية، وذلك بالإحاطة بمبادئ الفقه وقواعده والوقوف على مسائله، قال ابن خلدون : (الملكة: الإحاطة بمبادئ العلم [ ص: 56 ] وقواعده، والوقوف على مسائله، واستنباط فروعه من أصوله) [25] .

3- القدرة على استنباط الأحكام العملية من الأدلة التفصيلية، وهي صفة مكتسبة تحصل في النفس بالتضلع بالعلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية وغير ذلك مما هـو ضروري للاجتهاد.

4- القدرة على تخريج الفروع على الأصول وتخريج الفروع من الفروع، والترجيح في المذهب.

5- القدرة على الترجيح إذا اختلف الفقهاء في مسألة من المسائل؛ لأن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، فهذه صفة الفقهاء الراسخين في الفقه كما ذكر أبو يوسف [26] .

6- القدرة على التعبير عن مقصود الفقه، ودفع الشبهات الواردة عليه، قال ابن الأزرق : (الشروط الدالة على حصول الملكة في العلم: المعرفة بحصول أي علم كان، وما بني عليه ذلك العلم، وما يلزم عنه، والقدرة على التعبير عن مقصوده، والقدرة على دفع الشبه الواردة عليه فيه) [27] . [ ص: 57 ]

وبناء على ما سبق يمكن وضـع تعريـف للمـلكة الفقهية، وهو أنها: (صفة راسخة في النفس، تحقق الفهم لمقاصد الكلام الذي يسهم في التمكن من إعطاء الحكم الشرعي للقضية المطروحة، إما برده إلى مظانه في مخزون الفقه، أو بالاستنباط من الأدلة الشرعية أو القواعد الكلية) .

التالي السابق


الخدمات العلمية