الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثالث: المنهاج الدراسي الأصيل

من المقومات الأساسية للملكة الفقهية وجود منهاج دراسي أصيل يتلقاه المتفقه في مراحل دراسته. ويتمثل في العلوم الأساسية التي ينبغي له أن يدرسها وهي:

أولا: معرفة القرآن وعلومه

القرآن الكريم هـو أقوى شيء في تكوين الملكة الفقهية وبناء الأخـلاق والنفوس. وهو الكتاب الخـالـد، الذي لم تخـلق جـدته ولم تبل نضارته، وهو المفتاح الرئيس لأقفال الحياة، كما قال الشاطبي : (إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة، وعمدة الملكة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخـالفه. وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستـدلال عليه; لأنه معلوم من دين الأمة. وإذا كان كذلك، لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها واللحاق بأهلها أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظرا وعملا لا اقتصارا على أحدهما) [1] . [ ص: 101 ]

وقد كان أكثر الصحابة الملازمين للنبي صلى الله عليه وسلم فقهاء مجتهدين; لأن طريق الفقه فهم خطاب الله وخطاب رسوله وأفعاله، وقد كانوا عارفين بذلك; لأن القرآن نزل بلغتهم وعلى أسباب عرفوها وعلى قصص كانوا فيها، فعرفوا منطوقه ومفهومه، ومنصوصه ومعقوله [2] . قال الإمام الشافعي : (ليس لأحد أن يقول في شيء حـلال وحـرام إلا من جهة العـلم.. وجهة العـلم ما نـص في الكتـاب أو السـنة أو الإجماع أو القياس على هـذه الأصـول) [3] . وقال أيضا: (جميع ما تقـوله الأمـة شرح للسنة، وجميع شرح السنة شرح للقرآن) [4] ثم قال: (وجميع ما حكم النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن) [5] . وقال الشافعي أيضا: (ليست تنزل بأحد في الـدين من نـازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، فإن قيل: من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة ؟ قلنا ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة; لأن كتاب الله أوجب علينا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وفرض علينا الأخذ بقوله) [6] . [ ص: 102 ]

وقد حدد الأصوليون للمجتهد أن يعرف من القرآن الكريم آيات الأحكام. وحددها الغزالي بخمسمـائة آيـة، وحددها غيره بـأكثر من ذلك. ولم يشترطوا حفظها، بل يكتفي بمعرفة مواضعها في القرآن الكريم [7] . وقد اعتبروا ذلك كحد أدنى لتيسير الاجتهاد وتحصيل رتبته.

والحقيقة أنه ينبغي على المتفقه الذي يريد تحصيل الملكة الفقهية عدم الوقوف عند آيات الأحكام، بل يتعدى ذلك إلى جميع آيات القرآن، لأنها لا تخلو من فوائد تتعلق بالأحكام الشرعية، فيشتغل المتفقه بحفظ القرآن الكريم، ويتعمق في تفسيره بالاطلاع على مطولات التفاسير: كتفسير القرآن العظيم لابن كثير ، وتفسير الطبري، ومفاتيح الغيب للرازي ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ، وأحكام القرآن لابن العربي ، وغيرهما; لأن المعاني المأخوذة من كتاب الله كثيرة العدد، يستخرج منها كل عالم بحسب استعداده وقدر ملكته في العلوم [8] . [ ص: 103 ]

فالقرآن الكريم لا يخلق بكثـرة النـظـر، وكلما نظـر الإنسـان فيـه ازداد علما باستنباط أحكام جديدة. قال ابن العـربي في آيـة: ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ... ) (المائدة:6) ، قال بعض العلماء: إن في هـذه الآية ألف مسألة، واجتمع أصحابنا بمدينة السلام فتتبعوها، فبلغوها ثلاثمائة مسألة، ولم يقدروا على أن يبلغوها الألف، وهذا التتبع إنما يليق بمن يريد معرفة طرق استخراج العلوم من خبايا الزوايا [9] . في حين أن كتب البشر العلمية والقانونية تخلق بكثرة الرد، ويمل الإنسان من كثرة النظر فيها.

وينبغي للمتفقه أن يقدم على قراءة التفاسير والاطلاع على علوم القرآن الكريم بما فيها الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول والقراءات. فمعرفة الناسخ والمنسوخ ضرورية للفقيه لئلا يثبت المنفي وينفي المثبت، وقد جمعت الآيات المنسوخة في كتب خاصة يمكن للفقيه الرجوع إليها. ومن هـذه الكتب الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس ، ولأبي بكر ابن العربي، ولمكي بن أبي طالب ، وغيرهم.. وأما معرفة أسباب النزول فهي ضرورية لفهم آيات القرآن [ ص: 104 ] الكريم، قال ابن النجار الفتوحي: (واشترط معـرفة أسباب النزول ابن حمدان من أصحابنا وغيره... ليعرف المراد من ذلك وما يتعلق بها من تخصيص أو تعميم) [10] . وقال ابن القيم عن الشافعي : (إنه اشترط معرفة أسباب النزول، والذي يبدو أن معرفة أسباب النزول مهمة للمجتهد، فكم من آية يظنها الظان عامة، فإذا عرف سبب النزول أحجم وأمسك عن فتواه) [11] .. وأما القراءات فهي ضرورية لمعرفة أسباب اختلاف الفقهاء ومآخذ الأحكام.

مما سبق يتبين أن طالب الفقه يحتاج إلى دراسة المواد التالية: حفظ القرآن، وعلوم القرآن، وتفسيره، وتفسير آيات الأحكام.

ثانيا: معرفة السنة النبوية وعلومها

إذا كان القرآن الكريم هـو الأصل الأول في بناء الملكة الفقهية، فإن السنة هـي الأصل الثاني، وهي لا يستغني عنها الفقيه في فهم القرآن الكريم وشـرح أحكـامه وبسط أصـوله وتكملة تشريعاته، كما قال النووي : (إن شرعنا مبني على الكتاب العزيز والسنن المرويات، وعلى السنن مدار أكثر الأحكام الفقهيات، فإن أكثر الآيات الفروعيات مجملات، وبيانها في السنن المحكمات، وقد اتفق [ ص: 105 ] الفقهاء على أن من شرط المجتهد من القاضي والمفتي أن يكون عالما بالأحاديث الحكميات) [12] .

ويؤيد ذلك قوله تعالى: ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) (النحـل:44) ، وقال تعالى: ( ... وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ) (الشورى:52-53) ، وقوله تعالى: ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (الحشر:7) ، ( وقوله صلى الله عليه وسلم : ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ) [13] .. وقد اتفق العلماء على ذلك واعتبروه من المعلوم من الدين بالضرورة حيث قال الشوكاني : (إن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في الإسلام) [14] .

هذا بالإضافة إلى أن السنة النبوية صادرة عن أفصح الخلق، ومن أوتي جوامع الكلم، فمن نظر فيها استنار قلبه ودبت فيه الحياة وقويت ملكته. [ ص: 106 ]

وقد حدد الأصوليون للمجتهد أن يعرف أحاديث الأحكام، المحصورة في كتب أحاديث الأحكام، ولم يشترطوا حفظها، وإنما يكتفي بمعرفة كتبها ومواضعها، بل يكفيه معرفة مواقع كل باب، فيراجعه وقت الحاجة إلى الفتوى [15] . وقد اعتبروا ذلك كحد أدنى، لتيسير الاجتهاد وتحصيل رتبته.

والحقيقة أنه ينبغي للمتفقه الذي يبغي تحصيل الملكة الفقهية عدم الاقتصار على أحاديث الأحكام، بل يتعدى ذلك إلى معرفة أكبر قدر ممكن من الأحاديث بما فيها العبادات والمعاملات والأخلاق والآداب والسير وغير ذلك، فإنها لا تخلو من فوائد فقهية. فيشتغل المتفقه بحفظ الأحاديث، ويتعمق في فهمها بالاطلاع على شروح الأحاديث: كفتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر ، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني ، وصحيح مسلم بشرح النووي ، وغيرها.

فالاستمرار في مذاكرة الأحاديث والنظر فيها يؤدي إلى استنباط أحكام فقهية جديدة لم تكن تحصل للطالب الذي يكتفي بمذاكرة واحدة للأحاديث. ( قال صلى الله عليه وسلم : فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هـو أفقه منه ) [16] . [ ص: 107 ]

وينبغي للمتفقه أن يقدم على قراءة شروح الأحاديث وعلوم الحديث بما فيها من الناسخ والمنسوخ وأسباب ورود الحديث والجرح والتعديل وغير ذلك; لأن الفقيه كلما كان عالما بالسنن وعلومها كان أحرى بفهم القرآن واستنباط الأحكام ممن هـو جاهل بها.

ومن البدهي أن أقول: إن السنة التي لها هـذه الأهمية في بناء الملكة الفقهية إنما هـي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالطرق العلمية والأسانيد الصحيحة المعروفة عن أهل العلم.

مما سبق يتبين أن طالب الفقه يحتاج إلى دراسة المواد التالية: حفـظ الأحاديـث، وعلوم الحـديـث، وتخريجـه، وشـرح أحـاديث الأحكام.

ثالثا: معرفة مواقع الإجماع في الفقه

اشترط الأصوليون في الكفاءة العلمية للمجتهد أن يكون عالما بمواقع الإجماع حتى لا يفتي بخلافه، ولا يلزمه حفظ جميع مسائل الإجماع، بل يكفيـه عند بحث كل مسألة للإفتـاء فيها أن يعـلم أن فتواه ليست مخالفة للإجماع، لأن ذلك ممنوع شرعا [17] . [ ص: 108 ] والإجماع هـو اتفاق علماء العصر من المجتهدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على حكم الحادثة [18] .

وقد ذكر ابن تيمية اختلاف العلماء في تضليل وتفسيق خارق الإجماع، فمنهم من قال: يضلل ويفسق، وهو مقتضى قول من قال: إن الإجماع حجة قاطعة.. وقال بعض المتكلمين: إنه حجة ظنية، فعلى هـذا لا يكفر ولا يفسق [19] . وقال الجويني : (فشا في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفر، وهذا باطل قطعا، فإن من ينكر أصل الإجماع لا يكفر. والقول في التكفير والتبرؤ ليس بالهين) [20] . وقال الغزالي : (فإن قيل: هـل تكفرون خارق الإجماع ؟ قلنا: لا; لأن النزاع قد كثر في أصل الإجماع لأهل الإسلام.. والفقهاء إذا أطلقوا التكفير لخارق الإجماع، أرادوا به إجماعا يستند إلى أصل مقطوع به من نص أو خبر متواتر) [21] .

والتحقيق في المسألة -كما يظهر من كلام الغزالي- أن اتفاق العلماء على تكفير خارق الإجماع يتعلق بالمجمع عليه إذا كان [ ص: 109 ] معلوما من الدين بالضرورة (أي بالبداهة) فهو كافر، كمن أنكر وجوب الصلاة والزكاة وحرمة الزنا وغير ذلك، وأما إذا أنكر المجمع عليه مما لم يكن معلوما من الدين بالضرورة، وهو يسمى بالإجماع الظني، فلا يكفر ولا يفسق; لأن العلماء مختلفون في حجية هـذا النوع من الإجماع، كما اختلفوا في وقوعه.

رابعا: معرفة علم أصول الفقه

اشترط الأصوليون في المجتهد أن يكون على معرفة بقواعد استنباط الأحكام الشرعية الفرعية، من الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة، من أدلتها الإجمالية، من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما يلحق بها من الأدلة المختلف فيها من الاستحسـان والاستصحـاب والعـرف والمصـلحة المرسلة وغير ذلك مما يطلق عليه علم أصول الفقه [22] ، أو (المنهجية) .. وقد عرفه التهانوي بأنه: (علم يتعرف منه تقرير مطلب الأحكام الشرعية العملية وطرق استنباطها وموارد حججها واستخراجها بالنظر) [23] .

وقد اعتبره الرازي أهم العلوم للفقيه، حيث قال: (إن أهم [ ص: 110 ] العلوم للمجتهد علم أصول الفقه) [24] .. واعتبره ابن جزي الآلة التي يتوصل بها للاجتهاد [25] . وقال ابن الجوزي : (من الموظف على الفقيه اللازم له، طلب الوقوف على حقائق الأدلة وأوضاعها التي هـي مباني قواعد الشرع، وهذا المعنى هـو المعبر عنه بأصول الفقه، له طرفان: أحدهما: إثبات الأدلة على الشرائط الواجبة لها، والثاني: تحرير وجه الاستدلال بها على شرائط الصحة والاحتياط عن مكامن وجوه الزلل وعثرات الوهم عند تعارض الاحتمالات في التفاريع، وهذا الطرف هـو الموسوم بالجدل) [26] .

ولكي تتحقق المعرفة بعلم أصول الفقه عند الفقيه، لا بد أن يحفظ مختصرا من مختصرات هـذا العلم المشتملة على مهمات المسائل: كمختصر المنتهى، أو جمع الجوامع، ثم يشتغل بعد ذلك بشروح هـذه المختصرات، فيطلع على التنقيح والتوضيح والتلويح والمنار والتحرير وغيرها [27] .

خامسا: معرفة علوم اللغة العربية

ينبغي لطالب العلم الشرعي معرفة علوم اللسان العربي من نحو [ ص: 111 ] وصرف وبيان وأدب; ليتمكن من فهم نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية حق الفهم. فالفقيه يحتاج إلى اللغة العربية ليتمكن من استنباط الأحكام الشرعية ومعرفة مقاصد الكتاب والسنة ومعانيهما، وما كان عاما أريد به العموم أو عاما أريد به الخصوص، وليـعـرف المشترك والنـص والظـاهر والمترادف وغير ذلك.. يقول ابن تيمية : (إن تعلم اللغة العربية من الدين، وإنه فرض واجب لفهم مقاصد الكتاب والسنة ومراد الشارع من خطابه، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) [28] .

وقـال الشـاطبي : (إن الشـريعة عربيـة، وإذا كـانت عربـيـة فـلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم; لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز. فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة. والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فيها حجة، كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة، فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل [ ص: 112 ] من قصر فهمه لم يعد حجة، ولا كان قوله فيها مقبولا) [29] .

وقال ابن خلـدون : (ومعرفتـها ضـروريـة على أهل الشريـعة، إذ مآخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب، ونقلتها من الصحابة والتـابعـين عـرب، وشرح مشكلاتها من لغاتهم، فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة) [30] .

وقد اتفق الأصوليون على اشتراط معرفة اللغة العربية في المجتهد; لكنهم اختلفوا في القدر الذي يطلب منه على قولين:

القول الأول: ذهب كثير من الأصوليين، منهم الغزالي والزركشي ، إلى أن القدر المطلوب من الفقيه هـو القدر الذي يتمكن به من فهم الكتاب والسنة، فيعرف غالب المستعمل، ولا يشترط التبحر فيها، كعلم سيبويه والأصمعي والخليل بن أحمد والأخفش . قال الغزالي: (القدر الذي يفهم به كلام العرب وعادتهم في الاستعمال، إلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه [ ص: 113 ] ومقيـده، ونصـه وفحـواه، ولحنه ومفهومه.. والتخفيـف فيـه أنـه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد وأن يعرف جميع اللغة، ويتعمق في التأويل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة، ويستولي به على مواقع الخطاب، ودرك حقائق المقاصد منه) [31] .

والقول الثاني: ذهب الشاطبي إلى أن القدر المطلوب من الفقيه هـو التبحر في هـذا العلم، حيث قال: (فلا بد أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة كالخليل وسيبويه والأخفش والجرمي والمازني ومن سواهم، وقد قال الجرمي: أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس من كتاب سيبويه. وفسروا ذلك بعد الاعتراف به بأنه كان صاحب حديث، وكتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفتيش. والمراد بذلك أن سيبويه وإن تكلم في النحو، فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك، بل هـو يبين في كل باب ما يليق به، حتى إنه احتوى على علم المعاني والبيان ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني) [32] .

والحقيقة أن الفقيه الذي يريد أن يكون الفقه سجية عنده لا بد [ ص: 114 ] أن تكون اللغة العربية عنده ملكة، بحيث يفهم نصوص الشريعة من غير تكلف ولا توقف.

وينبغي لطالب الفقه أن يشرع بدراسة متن من متون النحو: كالألفية لابن مالك وشروحها، ثم ينتقل إلى كافية ابن الحاجب وشروحها، ومغني اللبيب وشروحه حتى تحصل له الملكة في النحو. وينبغي أن يطلع على مختصر من مختصرات المنطق ليفهم ما يورده مصنفو النحو. ثم ينتقل إلى دراسة الصرف، فيحفظ الشافية وشروحها ولامية الأفعال. ثم بعد ذلك ينتقل إلى دراسة كتب المعاني والبيان، فيحفظ متنا من المتون وشرحه. ثم بعد ذلك يطلع على مؤلفات اللغة المشتملة على بيان المفردات كالقاموس واللسان [33] .

فينبغي للجامعات التي تدرس الشريعة الإسلامية، والتي تخرج الفقهاء والمفتين والقضاة والمدرسين، أن لا تستهين بعلوم اللغة العربية، ولا يجوز الاقتصار فيها على مستوى ضعيف أو مجرد مشاركة أو إلمام، قال الشاطبي : (فالحاصل أنه لا غنى بالمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب، بحيث يصير فهم خطابها له وصفا غير متكلف ولا متوقف فيه في الغالب إلا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب) [34] . [ ص: 115 ]

وقال الشوكاني : (وأن يثبت له من كل فن، النحو والصرف والمعاني والبيان، من هـذه ملكة يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه، فإنه عند ذلك ينظر في الدليل نظرا صحيحا، ويستخرج منه الأحكام استخراجا قويا.. ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هـذه الفنون هـو معرفة مختصراتها أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها، فقد أبعد. بل الاستكثار من الممارسة لها، والتوسع في الاطلاع على مطولاتها، مما يزيد المجتهد قوة في البحث وبصرا في الاستخراج وبصيـرة في حصول مطلـوبه.. والحاصل أنـه لا بد أن تثبت له الملكة القوية في هـذه العلوم، وإنما تثبت هـذه الملكة بطول الممارسة وكثرة الملازمة لشيوخ هـذا الفن) [35] .

يتبين مما سبق أن الفقيه يحتاج إلى دراسة المواد التالية: النحو، والصرف، والبلاغة.

سادسا: معرفة مقاصد الشريعة الإسلامية

اشترط الشاطبي في الفقيه المجتهد معرفة مقاصد الشريعة الإسلامية، والإلمام بها، وأن يكون ذلك ملكة عنده، حيث قال: (إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم [ ص: 116 ] مقاصد الشريعة على كمالها. والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها) [36] .. والمقاصد هـي: (المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية والمتـرتبـة عليها، سواء أكانـت تلك المعاني حكما جزئيـة أم مصالح كلية أم سمات إجمالية، وهي تتجمع ضمن هـدف واحد هـو تقرير عبودية الله أو مصلحة الإنسان في الدارين) [37] .

وينقل السيوطي عن الغزالي : (مقاصد الشـرع قبلة المجتـهدين، من توجه إلى جهة منها أصاب الحـق، ولهذا كان مذهب أبي بكر رضي الله عنه التسـوية بين المسلـمين في العـطـاء من غيـر زيـادة ولا نقصان ولا تفضيل بزيادة علم ولا سابقة في الإسلام، وراجعه عمر رضي الله عنه في ذلك فقال: إنما الدنيا بلاغ وإنما فضلهم في أجورهم، فلما رجعت الخلافة إلى عمر كان يقسم على التفاوت) [38] .

ومما لا شك فيه أن المقاصد تعين الفقيه على فهم نصوص الشريعة الإسلامية، وكيفية استنباط الأحكام منها، كما تعينه على الترجيح بين الأدلة المتعارضة والجمع بينها، كما تمكنه من تنزيل الأحكام الشرعية على الواقع، بما فيه من ظروف زمانية ومكانية، [ ص: 117 ] وهو الذي يسمى (تحقيق المناط) .. كما أن المقاصد تجعل من تفكير الفقيه كليا شموليا بحيث يستحضر مجموعة أهداف الشريعة، ويستوعب جوانب المطلب الفقهي بحيث لا يمنعه التعمق في جزئيات الفقه عن رؤية كلياته.

وليعلم الفقيه أن هـذه الشريعة مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد، ومن تتبع الوقائع الكائنة من الأنبياء والقصص المحكية في كتب الله المنزلة، علم ذلك علما لا يشوبه شك ولا تخالطه شبهة.. ومما يزيد فهم مقاصد الشريعة، دراسة كتاب الموافقات للشاطبي ، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام .

سابعا: معرفة فروع الفقه

اختلف الأصوليون في اشتراط معرفة فروع الفقه للمجتهد. فذهب غالبية الأصوليين إلى عدم اشتراطه; لئلا يؤدي إلى الدور; إذ كيف نشترط في المجتهد العلم بفروع الفقه وهو الذي يولدها ويستنبطها [39] ؟! وذهب أبو إسحق الاسفراييني وأبو منصور الماتريدي إلى اشتراط العلم بفروع الفقه [40] . ونسبه الشوكاني إلى [ ص: 118 ] الغزالي ، حيث قال: (واختاره الغزالي، وقال: إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسته، فهو طريق لتحصيل الدربة في هـذا الزمان) [41] .

والحقيـقة أن ما نسبه الشوكـاني إلى الغزالي غير صحيح; لأن نقله عن المستصفى كان مجتزأ، فقد نقل آخر قول الغزالي، ففهم كأن الغزالي يشترط ذلك. والصحيح أنه لم يشترط ذلك. وهذا نص الغزالي في المستصفى: (فأما الكلام -علم الكلام- وتفاريع الفقه فلا حاجة إليهما، وكيف يحتاج إلى تفاريع الفقه وهذه التفاريع يولدها المجتهدون، ويحكمون فيها بعد حيازة منصب الاجتهاد؟ فكيف تكون شرطا في منصب الاجتهاد وتقدم الاجتهاد عليها شرط؟ نعم، إنما يحصل منصب الاجتهاد في زماننا بممارسته، فهو طريق تحصيل الدربة في هـذا الزمان، ولم يكن الطريق في زمان الصحابة ذلك. ويمكن الآن سلوك طريق الصحابة أيضا) [42] .

فإذا كان علم الفقه ليس شرطا من شروط الاجتهاد المطلق، فإنه شرط لبقية أنواع الاجتهاد وتكوين الملكة الفقهية لدى الفقيه، ليكمل ما قد حازه من شرف العلم، ويتم له ما قد ظفر به من بلوغ [ ص: 119 ] الغاية، فإن الفقيه يزداد بذلك علما إلى علمه، وبصيرة إلى بصيرته، وقوة في الاستدلال إلى قوته.

قال ابن حمدان : (وأما المجتـهد في مـذهب إمـامه، فنـظـره في بعض نصوص إمامه وتقريرها والتصـرف فيها كاجـتهاد إمـامه في الكتاب والسـنة... ثم اعـلم أن لـه أربـع حالات، الأولى: أن يكون غير مقلد لإمامه في الحكم والدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى ودعا إلى مذهبه وقرأ كثيرا منه على أهله، فوجده صوابا وأولى من غيره وأشد موافقة فيه وفي طريقه... والثـانية: أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه مستقلا بتقريره بالدلـيل، لكن لا يتعدى أصوله وقواعده مع إتقانه للفقه وأصوله وأدلة مسائل الفقه، عارفا بالقياس ونحوه، تام الرياضة، قادرا على التخريج والاستنباط وإلحاق الفروع بالأصول التي لإمامه... والحالة الثالثة: أن لا يبلغ رتبة أئمة المذهب أصحاب الوجوه والطرق غير أنه فقيه النفس حافظ لمذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريره ونصرته، يصور ويحرر ويمهد ويرجح.. والحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه...) [43] . [ ص: 120 ]

ولا يقتصر طالب الفقه في دراسته على أبواب الفقه الموجودة في الكتب الفقهية القديمة من عبادات ومعاملات وأحوال شخصية، وحدود وقصاص وأقضية وغير ذلك، وإنما يتعدى ذلك إلى دراسة أحكام القضايا المعاصرة التي تتعلق بجميع شئون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والطبية، فيدرس المعاملات المعاصرة التي تتعلق بالمصارف الإسلامية وشركات التأمين، والقضايا الطبية المتعلقة بالتلقيح الاصطناعي والاستنساخ وغير ذلك. وقد تولى مجمع الفقه الإسلامي دراسة هـذه القضايا وغيرها، وأصدر فيها قرارات وفتاوى شرعية، يمكن الرجوع إليها في مجلة مجمع الفقه الإسلامي. هـذا بالإضافة إلى صدور كثير من الكتب التي تتناول هـذه القضايا.

مما سبق يتبين أن طالب الفقه يحتاج إلى المواد التالية: العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، والحدود والجنايات، والجهاد، والقضاء، وطرق الإثبات، والحلال والحرام، والمعاملات المالية المعاصرة، والقضايا الطبية المعاصرة، والسياسة الشرعية، وغيرذلك.

ثامنا: معرفة القواعد الفقهية

القاعدة الفقهيـة هـي: (قضـية شرعية عملية كلية، يتعرف [ ص: 121 ] منها أحكام جزئياتها) [44] .. ودليل شرعيتها أن معظم القواعد الفقهية مستنبطة من نصوص الشريعة الإسلامية في الكتاب والسنة، كقاعدة: (المشقة تجلب التيـسير)

مستنبطة من قـوله تعالى: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (البقرة:185) .

وقـاعـدة: (الأمـور بمقـاصدها) مستنبـطة مـن حـديث: ( إنمـا الأعـمال بالنيات ) [45] .

والقواعد الفقهية ضرورية لتكوين الملكة الفقهية لدى الفقيه:

1- فهي تساعد الفقيه على فهم مناهج الاجتهاد، وتطلعه على حقائق الفقه ومآخذه، وتمكنه من تخريج الفروع على الأصول بطريقة سليمة، وتعينه على استنباط الأحكام للقضايا المستجدة. قال السيوطي : (إن فن الأشباه والنظائر فن عظيم، به يطلع على حقائق الفقه ومداركه ومآخذه وأسراره، ويتمهر في فهمه واستحضاره، ويقتدر على الإلحاق والتخريج، ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة، والحوادث والوقائع التي لا تنقضي على مر الزمان) [46] . [ ص: 122 ]

2- وهي تساعد على إدراك مقاصد الشريعة كما ذكر ابن عاشور أن القواعد الفقهية مشتقة من الفروع والجزئيات المتعددة بمعرفة الربط بينها، ومعرفة المقاصد التي دعت إليها [47] .

3- وهي تسهل حفظ وضبط المسائل الفقهية; لأن القاعدة صيغت بعبارة سهلة جامعة تبين محتواها، كما قال القرافي : (ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات) [48] .

وقد ترك لنا الفقهاء مجموعة من كتب القواعد الفقهية التي تعين الفقيه على أداء مهمته، منها الأشباه والنظائر لابن نجيم ، والأشباه والنظائر للسيوطي ، والمنثور في القواعد للزركشي ، والمجموع المذهب في قواعد المذهب للعلائي ، والفروق للقرافي، وغيرها.

تاسعا: فهم الواقع المعاصر

لا بـد للفقيه أن يكون مـلما بواقـعـه المعـاصر بمـا فيه من علوم عصرية، وتغيرات اجتماعية وسياسية وغيرها، وضرورات يقتضيها العصر. [ ص: 123 ]

1- إلمام الفقيه بعلوم العصر

ظهرت في هـذا العصر علوم ومعارف ومعلومات جديدة تتعلق بالطب والتشريح والفلك والطبيعة والكيمياء وغير ذلك مما لم تكن معروفة من قبل، فعلى الفقيه الإلمام بها والاطلاع عليها، ولا يجوز له بحال من الأحوال تجاهلها والاجتهاد بمعزل عنها.. ولفقهاء العصر في ابن رشد الحفيد قدوة، فقد انتفع بعلوم عصره الطبية والطبيعية والفلكية في الترجيح والاختيار للأقوال والمذاهب، وبناء الفقه على النظر العلمي الصحيح، ومن ذلك تعقيبه على مسألة استمرار العادة الشهرية مع الحمل عند النساء، ومسألة العمل بالحساب الفلكي [49] .

فهذه العلوم تمنح الفقيه القدرة على أن يحكم على بعض الأقوال الفقهية الموروثة بالضعف أو الصحة والرجحان، ومن الأمثلة على ذلك: أن الفقهاء اختلفوا في أقصى مدة الحمل فقالالزهري : تحمل المرأة ست سنين وسبع سنين. وقال عبادة بن العوام : خمس سنين، وقال الليث: ثلاث سنين. وذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمشهور في مذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أنه سنتان [50] . [ ص: 124 ]

وذهب ابن حزم إلى أنه لا يجوز أن يكون حمل أكثر من تسعة أشهر [51] . وقد أثبت الطب الحديث القائم على الملاحظة والتجربة قول ابن حزم، وأنه لا يمكن أن يتأخر الحمل أكثر من شهر زيادة على التسعة أشهر، أما أن يمكث سنة أو سنتين أو ثلاث أو خمس أو سبع فلا يصح علميا، ولأن أقوال الفقهاء لا تستند إلى دليل صريح من الكتاب أو السنة، وإنما هـي مبينة على الأخبار المنقولة عن الناس في حمل النساء، وربما كان حملا كاذبا في بداية المدة [52] .

ويقترح الشيخ أبو الحسن الندوي لتحقيق الإلمام بعلوم العصر أن يكون مجمع علمي إسلامي يؤلف في هـذه العلوم كتبا تجمع بين حدة الاطلاع وغزارة المادة ومتانة البحث، وبين إثبات العقيدة والتوفيق بين العلم والدين [53] .

وأرى أن هـذا الاقتراح صعب التنفيذ في ظل التقدم المستمر والتطور الدائم لتلك العلوم، فهي تتسابق مع الزمن، وكل يوم يأتي العلم بنظريات جديدة، ولكن يمكن أن يوجه الفقيه إلى دراسة اللغة [ ص: 125 ] الإنجليزية، وكيفية استعمال الحاسوب و (الإنترنت) ، فإذا احتاج إلى دراسة قضية من القضايا المعاصرة: كالاستنساخ أو بطاقات الائتمان رجع إلى (الإنترنت) واستخرج منه آخر ما توصل إليه العلم; ليستعين به في تصوير المسألة التي يريد بحثها.

لكن قد يقال: إن هـذه الطريقة لا توجد فقهاء قادرين على مجاراة المتخصصين في العلوم المعاصرة في فهم كثير من الأمور العلمية الدقيقة والمصطلحات المتعلقة بكل علم من العلوم، وبالتالي تصدر عن هـؤلاء الفقهاء آراء فقهية غير ناضجة; لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره.

أقول: إن هـذا التخوف في محله إذا لم يكن الفقيه مؤسسا من الناحية العلمية المتعلقة بتلك العلوم، ولم يكن مستوعبا للمفاهيم العلمية المعاصرة، وهذه هـي الصفة الغالبة لكثير من الفقهاء في هـذا العصر، ولذلك أرى أنه لا بد من اجتماع الفقهاء مع المتخصصين في العلوم المعاصرة عند بحث القضايا الفقهية المعينة، فإذا كانت القضية المراد بحثها تتعلق بالاقتصاد، كبطاقات الائتمان أو الإجارة المنتهية بالتمليك أو المشاركة المنتهية بالتمليك، فلا بد من اجتماع الفقهاء مع الاقتصاديـين، فيبدأ الاقتصاديون بشـرح القضية بكـل ما يحيط بها من ظروف، ويترك المجال للفقهاء للاستفسار والمناقشة [ ص: 126 ] ليتحقق التصور الكامل عن القضية، ثم يحاول الفقهاء استنباط الحكم الشرعي لتلك القضية، وفق أصول الاستنباط المقررة في أصول الفقه.

وإذا كانت القضية المراد بحثها تتعلق بالطب، كالإجهاض أو التلقيح الاصطناعي، اجتمع الفقهاء مع الأطباء، وتولى الأطباء شرح القضية بكل ما يحيط بها من ظروف، ويترك المجال للفقهاء للاستفسار ليتمكنوا من استنباط الحكم الشرعي لتلك القضية، هـذا ما يجري في مؤسسات الاجتهاد الجماعي، كمجمع الفقه الإسلامي، والمؤتمرات والندوات العلمية. وتعتبر هـذه الوسيلة من أجدى الوسائل لتحقيق الاجتهاد المعاصر.

2- الاطلاع على التغيرات الاجتماعية والسياسية وغيرها

ظهرت في هـذا العصر تغيرات كثيرة وخطيرة في مجال الاجتماع والسياسة والاقتصاد وغير ذلك. فعلى الفقيه مراعاة تلك التغيرات عند استنباط الأحكام الشرعية أو النظر في أقوال الفقهاء السابقـين، لأن الفقيه الذي يعيـش عصـره لا بـد له من الإلمام بكل ما يقـدم في المجتـمع من ضلالات ومـؤامـرات تحاك ضد المسلمين، فلا بد للفقيه من الاطلاع على الديمقراطية والعولمة والنظام العالمي الجديد. ولفقهاء هـذا العصر قدوة في شيخ الإسلام ابن تيمية ، فقد [ ص: 127 ] كان ملما بكل ما في عصره من تغيرات وضلالات. وقد مر هـو وتلاميذه مرة على مجموعة من جنود التتار، وهم يشربون الخمر، فأراد بعض التلاميذ أن ينهاهم عن شـرب الخمر، فقـال له: دعهم يشـربـون فإن في شربهم دفع الأذى عن المسلمين. وقد كتب عن الفرق الضالة في عصره.

فهذه التغيرات تساعد الفقيه المعاصر على اختيار بعض الأقوال الفقهية القديمة التي تلائم هـذا العصر، والإعراض عن بعض الأقوال التي لم تعد تلائم الأوضاع الجديدة بحال [54] .

ومن الأمثلة على ذلك:

أ- في المجال الاجتماعي، أفتى الفقهاء المتأخرون أن المرأة الشابة تمنع من الذهاب إلى المسجد للصلاة فيه، فتصلي في بيتها، وعلى أبيها أو زوجها أن يعلمها أمور دينها.

فهذا إن قيل به في العصور الماضية يوم أن كانت المرأة حبيسة بيتها، فلا يجوز أن يقال به اليوم بعد أن خرجت المرأة إلى المدرسة والجامعة والسوق والعمل، وأصبح المكان الوحيد المحرم عليها هـو المسجد. فالمسجد ليس دارا للعبادة فحسب، بل هـو جامع للعبادة [ ص: 128 ] وجامع للعلم ومنتدى للتعارف ومركز للنشاط، يلتقي فيه أبناء البلد أو الحي فيتفقهون ويتأدبون ويتعارفون ويتآلفون.

وإذا كان الفقهاء السابقون قد وكلوا الأب والزوج في تعليم المرأة، وتفقيهها في دينها، فالواقع يقول: إن الآباء والأزواج لم يقوموا بمهماتهم; إما لانشغالهم أو لعدم قدرتهم على ذلك، فلا بد أن يسمح للمرأة أن تذهب إلى المسجد [55] . والحديث الصحيح يؤيد ذلك، ( قال صلى الله عليه وسلم : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) [56] .

ب- وفي مجال التغيرات السياسية، طرأ على النظام السياسي تنظيم حق الشعوب في اختيار حكامها ومحاسبتهم وتقييد سلطتهم وعزلهم إذا خانوا دستور البلاد. وهذا يجعل الفقيه يرجح القول الذي يدعم هـذا المبدأ. ففي اختلاف الفقهاء في كون الشورى ملزمة أو معلمة يمكن ترجيح كونها ملزمة، فلا يجوز للحاكم المسلم أن يستشير أهل الحل والعقد ويضرب بآرائهم عرض الحائط وينفذ ما يراه [57] .

جـ- وفي مجال التغيرات الدولية، فإن العالم قد تقارب حتى [ ص: 129 ] غدا كأنه مدينة واحدة أو قرية كبيرة، وقد ربطت جملة من المواثيق والمعاهدات الدولية السياسية والثقافية والاقتصادية بين دول العالم بعضـها ببـعض، وأصبح الجميع أعضاء في هـيـئـة الأمم المتـحدة، وما يتفرع عنها من مؤسسات.

وهذا يجعل الفقيه المعاصر يرجح القول الذي يدعم هـذا المبدأ، ومن ذلك اختلاف الفقهاء في علاقة المسلمين بغيرهم; هـل هـي السلم أو الحرب ؟ فيرجح الفقيه أن الأصل في العلاقة السلم [58] .

د- وفي مجال التغيرات الاقتصادية، شد أزر الفئات المسحوقة والضعيفة في المجتمع. وهذا يجعل الفقيه المعاصر يرجح القول الفقهي الذي يدعم ذلك المبدأ، ومن ذلك اختلاف الفقهاء في مقدار ما يدفع للفقير من الزكاة. فقيل: يعطى أقل النصاب، وقيل: يعطى ما يكفيه لمدة سنة، وقيل: ما يغنيه طول العمر.. فيرجح الفقيه قول الشافعي ويعطي الفقير ما يغنيه طول العمر [59] لكن بشرط أن تتسع حصيلة الزكاة لذلك. كما أن الفقهاء اختلفوا في مجال الاحتكار. هـل هـو بالأقوات أو في كل ما يضر الناس ؟ فيرجح [ ص: 130 ] الفقيه قول أبي يوسف : إن مجال الاحتكار كل ما يضر الناس حبسه فهو احتكار [60] .

3- مراعاة ضرورات العصر وحاجاته

على الفقيه الذي يجتهد لعموم الناس أن يراعي ضروراتهم وحاجاتهم، فييسر عليهم، ويخفف عنهم في الأحكام العملية،

عملا بقوله تعالى: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (البقرة:185) ، ( وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري ومعـاذ ابن جبل حينما بعثهما إلى اليمن : (يسرا ولا تعسرا ) [61] .

فهذه الضرورات هـي التي جعلت الفقهاء المتأخرين يجيزون أخذ الأجرة على تعليم القرآن والأذان والإقامة، وهي التي جعلت العلماء المعاصرين يجيزون بيع المصحف لحاجة الناس إلى ذلك. وهي التي جعلت العلماء يجيزون للمرأة الحائض طواف الإفاضة بعد تحفظها واحتياطها من نزول شيء من الدم. كما جعلتهم يجيزون رمي الجمرات في اليوم الأخير قبل الزوال نظرا لضرورات الزحام الهائل [62] . [ ص: 131 ]

مما سبق يتبين أن طالب الفقه يحتاج إلى دراسة: اللغة الإنجليزية، والحاسوب، وعلم الأحياء، وعلم الإنسان، والمدخل إلى العلوم القانونية والاجتماعية والاقتصادية، وغير ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية