الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون "بل "؛ هنا؛ للإضراب الانتقالي; ينتقلون بقولهم من فرية إلى فرية؛ يحسبونها أقوى صدا؛ ثم إلى أقوى منها؛ انتقلوا من فرية السحر إلى فرية أضغاث الأحلام؛ إلى فرية أنه افتراه على الله؛ إلى فرية أنه شاعر؛ ثم ينتهون إلى أنهم لا يرضون بهذه الآية الدالة على أنه مرسل من عند الله؛ كالآيات التي كانت للأنبياء السابقين؛ من المعجزات الحسية؛ كالعصا؛ وإبراء الأكمه والأبرص؛ و "الأضغاث "؛ جمع "ضغث "؛ وهو القبضة من الريحان؛ والحشيش؛ أو الحطب؛ أو قضبان النبات؛ كما قال (تعالى): وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ؛ وشبهت بها الأحلام المختلطة التي لا تتبين حقائقها ولا تستبين عند الحالم؛ انتقلوا من ادعاء أن القرآن سحر ساحر إلى أنه تخاليط أحلام؛ سيطرت على عقل النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ هي أخلاط؛ كالأحلام؛ ليس فيها حق يدرك. [ ص: 4830 ] ثم انتقلوا من هذا الادعاء إلى ادعاء آخر أوغل منه في الرد؛ في زعمهم؛ فقالوا: بل افتراه أي: اخترعه من عنده اختراعا؛ فهو قول مفترى؛ وهذا هو لب تكذيبهم؛ وإن لم يقصدوا إليه ابتداء؛ فهم مكذبون له في كل الأحوال؛ ثم انتقلوا إلى ادعاء أنه قول ساحر؛ ولم يقولوا: إنه شعر؛ لأنهم يعلمون الشعر في حقيقته؛ ويفرقون بذوقهم البياني بين القرآن؛ والشعر؛ ولقد ادعوا أن محمدا شاعر؛ وأنه من أفانينه؛ وإن لم يكن شعرا؛ والشاعر يتفق في القول نثرا؛ أو سجعا؛ أو شعرا؛ وكل هذا باطل؛ وذلك التردد في القول دليل على حيرتهم في الرد؛ ودليل على لجاجتهم في الجحود؛ فقالوا مرة: ساحر؛ ومرة: أضغاث أحلام؛ ومرة: افتراه؛ ومرة: إنه شاعر؛ وهنا يجيء سؤال: أليسوا في كل أقوالهم يدعون الافتراء؟ فلماذا خص الافتراء بالذكر؟ ونقول: إنهم في الثلاثة الأخر غير الافتراء؛ يتكلمون في النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وفي الافتراء يتجهون إلى القرآن نفسه؛ ولقد قال في ذلك الإمام الزمخشري : هم أضربوا عن قولهم: هو سحر؛ إلى أنه تخاليط أحلام؛ ثم إلى أنه كلام يفترى؛ ثم إلى أنه قول شاعر؛ وهكذا الباطل لجلج؛ والمبطل متحير؛ رجاع غير ثابت على قول واحد؛ ويجوز أنه يكون تنزيلا من الله (تعالى) لأقوالهم في درج الفساد؛ وأن قولهم الثاني أفسد من الأول؛ والثالث أفسد من الثاني؛ والرابع أفسد من الثالث.

                                                          وهذا الذي اخترناه؛ ونحن رأينا ابتداء أن هذه الإضرابات الانتقالية حكاية من الله (تعالى) لغيهم.

                                                          وخلاصة أقوالهم أنهم لا يعدون القرآن آية دالة على أنه رسول من عند الله; ولذا طلبوا آية حسية؛ كالأنبياء السابقين؛ فقال: فليأتنا بآية كما أرسل الأولون الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ أي: فرتب على جحودهم بالقرآن آية - قولهم: ليأتنا بآية حسية باهرة قاهرة حسية؛ كما أرسل الأولون بآيات حسية - التشبيه بين ما يريدون من آيات وآيات الرسل الأولين. [ ص: 4831 ] وقد بين - سبحانه - أن هذه الآيات جاءت كما طلبوا ولم يؤمنوا بها؛ فقال (تعالى):

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية