الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 348 ] باب ثبوت النسب ( ومن قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فتزوجها فولدت ولدا لستة أشهر من يوم تزوجها فهو ابنه وعليه المهر ) أما النسب فلأنها فراشه ، لأنها لما جاءت بالولد لستة أشهر من وقت النكاح فقد جاءت به لأقل منها من وقت الطلاق فكان العلوق قبله [ ص: 349 ] في حالة النكاح والتصور ثابت بأن تزوجها وهو يخالطها فوافق الإنزال النكاح والنسب يحتاط في إثباته ، وأما المهر فلأنه لما ثبت النسب منه جعل واطئا حكما فتأكد المهر به [ ص: 350 - 351 ] ( ويثبت نسب ولد المطلقة الرجعية إذا جاءت به لسنتين أو أكثر ما لم تقر بانقضاء عدتها ) لاحتمال العلوق في حالة العدة لجواز أنها تكون ممتدة الطهر ( وإن جاءت به لأقل من سنتين بانت من زوجها بانقضاء العدة ) وثبت نسبه لوجود العلوق في النكاح أو في العدة فلا يصير مراجعا لأنه يحتمل العلوق قبل الطلاق ويحتمل بعده فلا يصير مراجعا بالشك ( وإن جاءت به لأكثر من سنتين كانت رجعة ) لأن العلوق بعد الطلاق ، والظاهر أنه [ ص: 352 ] منه لانتفاء الزنا منها فيصير بالوطء مراجعا .

التالي السابق


( باب ثبوت النسب ) أعقبه العدة لأنه مما وجبت له العدة تعرف حال الرحم من الحمل فيثبت نسبه وتثبت مواجبه وعدمه فينصرف كل عن الآخر في الحال : أي في حال معرفة عدم الحمل على وجه الاحتياط وذلك عند تمام العدة ( قوله ومن قال : إن تزوجت فلانة أو امرأة فهي طالق فتزوج فجاءت بولد لستة أشهر من يوم تزوجها ) لا أقل ولا أكثر ( فهو ابنه وعليه المهر ) يريد من وقت تزوجها لأنه قرن اليوم بفعل لا يمتد ، وقد نبه المصنف على هذه الإرادة ; لأنه لما علل ثبوت نسبه بأنها فراشه قال في إثبات كونها فراشا لأنها لما جاءت به لستة أشهر من وقت النكاح ولم يقل من يوم النكاح فأفاد أن المراد بلفظ اليوم الوقت ، وهذا لأن الطلاق جزاء الشرط فيتأخر عنه لا بزمان وإن لطف كما قيل لأنه لا يتخلل بينهما آن خال بل أول آنات تعقب وجود الشرط يثبت فيه الجزاء من غير افتقار إلى تحقق زمان يسع التلفظ بأنت طالق كما حققناه في الطلاق ; لأنه ثبوت حكمي ، وإذن فيكون العلوق مقارنا للنكاح فيثبت [ ص: 349 ] النسب ، وتصور العلوق مقارنا للنكاح ثابت بأن تزوجها وهو يخالطها وطئا وسمع الناس كلامهما فوافق الإنزال النكاح ، والأحسن تجويز أنهما وكلا به فباشر الوكيل وهما كذلك فوافق عقده الإنزال .

وحاصله أن الثبوت يتوقف على الفراش وهو يثبت مقارنا للنكاح المقارن للعلوق فتعلق وهي فراش فيثبت نسبه ، وقد يقال الفراشية أثر النكاح : أعني العقد فيتعقبه فيلزم سبق العلوق على الفراش . نعم إذا فسر الفراش بالعقد كما عن الكرخي وهو يخالف تفسيرهم السابق له في فصل المحرمات بكون المرأة بحيث يثبت نسب الولد منها إذا جاءت به ، فإن هذا الكون إنما يثبت بعد العقد ، إلا إن قلنا : إن العلة مع المعلول في الخارج وكلامهم ليس عليه . وتقرير قاضي خان أن العلوق يكون بعد تمام النكاح مقارنا للطلاق قبل الدخول فيكون حاصلا قبل زوال الفراش فيثبت النسب : يعني أن زوال الفراش بعد الطلاق قبل الدخول لا معه ، لأن زواله أثره . لا يقال مقتضاه أن تكون جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت النكاح ، إذ لا بد من كون مدة الحمل ستة أشهر ، وقد عينوا الثبوت نسبه أن لا يكون أكثر من ستة أشهر من النكاح ولا أقل . لأنا نقول : إنما لم يثبتوه في الأقل لأن العلوق حينئذ من زوج آخر قبل النكاح .

وأما في الزيادة فلاحتمال حدوثه بعد الطلاق ، وهو منتف هنا لأنه لم يزد على ما بعد الطلاق بما يسع وطئا بالفرض فيجب استثناء هذا القدر ويجب تقديره كذلك ، ولا يخفى أن نفيهم النسب فيما إذا جاءت به لأكثر من ستة أشهر في مدة يتصور أن يكون منه وهو سنتان ، ولا موجب للصرف عنه ينافي الاحتياط في إثباته واحتمال كونه حدث بعد الطلاق فيما إذا جاءت به لستة أشهر ويوم في غاية البعد ، فإن العادة المستمرة كون الحمل أكثر منهما ، وربما تمضي دهور لم يسمع فيها ولادة لستة أشهر فكان الظاهر عدم حدوثه وحدوثه احتمال ، فأي احتياط في إثبات النسب إذا نفيناه لاحتمال ضعيف يقتضي نفيه وتركنا ظاهرا يقتضي ثبوته ، وليت شعري أي الاحتمالين أبعد ؟ الاحتمال الذي فرضوه لتصور العلوق منه ليثبتوا النسب وهو كونه تزوجها وهو يطؤها وسمع كلامهما الناس وهما على [ ص: 350 ] تلك الحالة ثم وافق الإنزال العقد ، أو احتمال كون الحمل إذا زاد على ستة أشهر بيوم يكون من غيره ، ولاستبعاد هذا الفرض قال بعض المشايخ : لا يحتاج إلى هذا التكلف بل قيام الفراش كاف ، ولا يعتبر إمكان الدخول بل النكاح قائم مقامه كما في تزوج المشرقي بمغربية .

والحق أن التصور شرط ، ولذا لو جاءت امرأة الصبي بولد لا يثبت نسبه ، والتصور ثابت في المغربية لثبوت كرامات الأولياء والاستخدامات فيكون صاحب خطوة أو جنيا ، وأما لزوم المهر كاملا فلأنه لثبوت النسب منه جعل واطئا حكما فعليه المهر . وما قيل : لا يلزم من ثبوت النسب منه وطؤه لأن الحبل قد يكون بإدخال الماء الفرج دون جماع فنادر ، والوجه الظاهر هو المعتاد . وفي النهاية وفي القياس وهو رواية أبي يوسف مهر ونصف ، أما النصف فللطلاق قبل الدخول ، وأما المهر فللدخول انتهى . وعبارة أبي يوسف في الأمالي على ما نقله الفقيه أبو الليث : ينبغي في القياس أن يجب على الزوج مهر ونصف ; لأنه قد وقع الطلاق عليها فوجب نصف المهر ومهر آخر بالدخول ، قال : إلا أن أبا حنيفة استحسن وقال : لا يجب إلا مهر واحد لأنا جعلناه بمنزلة الدخول من طريق الحكم فتأكد ذلك الصداق واشتبه وجوب الزيادة انتهى . وهذه العبارة للمتأمل لا توجب قوله بلزوم مهر ونصف ، بل ظاهرة في نفيه ذلك لأن الاستحسان مقدم على القياس فلا تسوغ الرواية عنه بذلك .

وإنما اشتبه وجوب الزيادة ; لأنها مبنية على وقوع الطلاق قبل الدخول ، ولا يحكم بذلك وإلا لم يثبت النسب لأن الوطء حينئذ في غير عصمة ولا عدة ، بل يحكم بأنه مقارن له أو للنكاح ، فأقل الأمر كونه قبله أو لا مشتبه ذلك وضمير " به " في قوله فتأكد المهر به لثبوت النسب .

واعلم أنه إذا كان الأصح في ثبوت هذا النسب إمكان الدخول وتصوره ليس إلا بما ذكر من تزوجها حال وطئها المبتدإ به قبل التزوج وقد حكم فيه بمهر واحد في صريح الرواية يلزم كون ما ذكر مطلقا ومنسوبا وقدمناه في باب المهر من أنه لو تزوجها في حال ما يطؤها عليه مهران : مهر بالزنا لسقوط الحد بالتزوج قبل تمامه ، ومهر بالنكاح لأن هذا أكثر من الخلوة ولا يصير به محصنا مشكلا لمخالفته لصريح المذهب ، وأيضا الفعل واحد ، وقد اتصف بشبهة الحل فيجب مهر واحد به ، بخلاف ما لو قال : إن تزوجتها فهي طالق ونسي فتزوجها ووطئها حيث يجب مهر ونصف ; لأن الطلاق قبل الوطء ، أما هنا الطلاق مع الوطء الحلال في فعل متحد فصار الفعل كله له شبهة الحل وقد وجب المهر فلا يجب غيره .

وفي شرح أبي اليسر قال : إن تزوجتها فهي طالق ثلاثا فتزوجها ودخل بها ينبغي أن لا يجب عليهما الحد ويجب مهر المثل ، وقالوا : يجب عليهما ، قال : قد كنت أفتيت بالوجوب على الحالف وهو الظاهر [ ص: 351 ] من مذهب أصحابنا ومن مال إليه لم يكن مخطئا ، ولو جاءت بولد ورثه منصوص عن أصحابنا وإن حرمت عليه بالثلاث فلم يبق بنكاح ولا عدة ، ولكن لما كان فصلا مجتهدا فيه لم ينقطع النسب .

( قوله ويثبت نسب ولد المطلقة الرجعية إذا جاءت به لسنتين أو أكثر ) ولو عشرين سنة أو أكثر ( ما لم تقر بانقضاء عدتها ) فإن أقرت بانقضائها والمدة تحتمله بأن تكون ستين يوما على قول أبي حنيفة وتسعة وثلاثين يوما على قولهما ثم جاءت بولد لا يثبت نسبه إلا إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار فإنه يثبت نسبه للتيقن بقيام الحمل وقت الإقرار فيظهر كذبها ، وكذا هذا في المطلقة البائنة والمتوفى عنها زوجها إذا ادعت بعد أربعة أشهر وعشر انقضاءها ثم جاءت بولد لتمام ستة أشهر لا يثبت نسبه من الميت وإن جاءت به لأقل منها ثبت نسبه منه .

أما ثبوت نسب ولد الرجعية إذا جاءت به لأقل من سنتين فظاهر ، وأما ثبوته إذا جاءت به لأكثر منهما فلاحتمال العلوق في عدة الرجعي لانتفاء الحكم بزناها أو بوطئها بشبهة لجواز كونها ممتدة الطهر بأن امتد إلى ما قبل سنتين من مجيئها به أو أقل ثم وطئها فحبلت ، وعن هذا حكمنا بأنها إذا جاءت به لأكثر من سنتين تكون زوجة بالرجعة الكائنة بالوطء في العدة للمطلقة الرجعية ، بخلاف ما إذا جاءت به لأقل من سنتين لا تثبت رجعتها ، فإن العلوق يحتمل أنه كان في العصمة كما يحتمل أنه كان في العدة وإحالة الحادث إلى أقرب الأوقات إذا لم يعارضه ظاهر آخر ، والظاهر الوطء في العصمة لا العدة لأنه هو المعتاد ، وما قضت به العادة أرجح من إضافة الحادث إلى الزمن القريب مع ما فيه من مخالفة السنة في الرجعة ومخالفة العادة أيضا فيها ، إذ معتاد الناس في الرجعة أن يراجعوا باللفظ .

فإن قيل : هنا احتمال آخر وهو كونها [ ص: 352 ] تزوجت وجاءت به من الزوج الآخر . قلنا : الفرض أنها لم تكن أقرت بانقضاء العدة ، وما لم تقر بذلك وما لم يظهر تزوجها فالظاهر أنها في العدة ولأن فيه إنشاء نكاح وإبقاء الأول أسهل وأخف .




الخدمات العلمية