الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما

أتبع خصال المؤمنين الثلاث التي هي قوام الإيمان بخصال أخرى من خصالهم هي من كمال الإيمان ، والتخلق بفضائله ، ومجانبة أحوال أهل الشرك . وتلك ثلاث خصال أولاها أفصح عنه قوله هنا : ( والذين لا يشهدون الزور ) الآية .

وفعل شهد يستعمل بمعنى حضر وهو أصل إطلاقه كقوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) ، ويستعمل بمعنى أخبر عن شيء شهده وعلمه كقوله تعالى : ( وشهد شاهد من أهلها ) .

والزور : الباطل من قول أو فعل وقد غلب على الكذب . وقد تقدم في أول السورة فيجوز أن يكون معنى الآية : أنهم لا يحضرون محاضر الباطل التي كان يحضرها المشركون ، وهي مجالس اللهو والغناء والغيبة ونحوها ، وكذلك أعياد المشركين وألعابهم ، فيكون الزور مفعولا به لـ ( يشهدون ) . وهذا ثناء على المؤمنين بمقاطعة المشركين وتجنبهم . فأما شهود مواطن عبادة الأصنام فذلك قد دخل في قوله : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) . وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأنعام : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) ويجوز أن [ ص: 79 ] يكون فعل ( يشهدون ) بمعنى الإخبار عما علموه ويكون الزور منصوبا على نزع الخافض ، أي لا يشهدون بالزور ؛ أو مفعولا مطلقا لبيان نوع الشهادة ، أي لا يشهدون شهادة هي زور لا حق .

وقوله ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) مناسب لكلا الجملتين .

واللغو : الكلام العبث والسفه الذي لا خير فيه . وتقدم في قوله تعالى : ( لا يسمعون فيها لغوا ) في سورة مريم . ومعنى المرور به المرور بأصحابه اللاغين في حال لغوهم ، فجعل المرور بنفس اللغو للإشارة إلى أن أصحاب اللغو متلبسون به وقت المرور .

ومعنى ( مروا كراما ) أنهم يمرون وهم في حال كرامة ، أي : غير متلبسين بالمشاركة في اللغو فيه ، فإن السفهاء إذا مروا بأصحاب اللغو أنسوا بهم ووقفوا عليهم وشاركوهم في لغوهم فإذا فعلوا ذلك كانوا في غير حال كرامة .

والكرامة : النزاهة ومحاسن الخلال ، وضدها اللؤم والسفالة . وأصل الكرامة أنها نفاسة الشيء في نوعه قال تعالى : ( أنبتنا فيها من كل زوج كريم ) . وقال بعض شعراء حمير في الحماسة :


ولا يخيم اللقـاء فـارسـهـم حتى يشق الصفوف من كرمه



أي : شجاعته ، وقال تعالى : ( وأعد لهم أجرا كريما ) .

وإذا مر أهل المروءة على أصحاب اللغو تنزهوا عن مشاركتهم وتجاوزوا ناديهم فكانوا في حال كرامة ، وهذا ثناء على المؤمنين بترفعهم على ما كانوا عليه في الجاهلية كقوله تعالى : ( وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ) ، وقوله : ( وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ) .

وإعادة فعل ( مروا ) لبناء الحال عليه ، وذلك من محاسن الاستعمال ، كقول الأحوص :


فإذا تزول تزول عن متخمط     تخشى بوادره على الأقران

[ ص: 80 ] ومنه قوله تعالى : ( ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا ) كما ذكره ابن جني في شرح مشكل أبيات الحماسة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية