الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم

العامل في "إذ" قوله: "عفا".

وقرأ جمهور الناس: " تصعدون" بضم التاء وكسر العين من أصعد ومعناه: ذهب في الأرض، وفي قراءة أبي بن كعب: "إذ تصعدون في الوادي" .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والصعيد، وجه الأرض، وصعدة اسم من أسماء الأرض، فأصعد معناه: دخل في الصعيد، كما أن أصبح دخل في الصباح إلى غير ذلك. والعرب تقول: أصعدنا من مكة وغيرها، إذا استقبلوا سفرا بعيدا وأنشد أبو عبيدة لحادي الإبل: [ ص: 389 ]


قد كنت تبكين على الإصعاد فالآن صرحت وصاح الحادي



وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو عبد الرحمن واليزيدي ومجاهد وقتادة: "إذ تصعدون" بفتح التاء والعين، من صعد إذا علا، والمعنى بهذا صعود من صعد في الجبل، والقراءة الأولى أكثر.

وقوله تعالى: "ولا تلوون" مبالغة في صفة الانهزام، وهو كما قال دريد: وهل يرد المنهزم شيء؟ وهذا أشد من قول امرئ القيس:


. . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . .     أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا



وقرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية شبل: "إذ يصعدون ولا يلوون" بالياء فيهما على ذكر الغيب، وقرأ بعض القراء: "ولا تلؤون" بهمز الواو المضمومة، وهذه لغة، وقرأ بعضهم: "ولا تلون" بضم اللام وواو واحدة، وهي قراءة متركبة على لغة من همز الواو المضمومة، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام وحذفت إحدى الواوين الساكنتين، وقرأ الأعمش وعاصم في رواية أبي بكر: "تلوون" بضم التاء، من ألوى وهي لغة، وقرأ حميد بن قيس: "على أحد" بضم الألف والحاء، يريد الجبل، والمعني بذلك رسول الله عليه السلام، لأنه كان على الجبل، والقراءة الشهيرة أقوى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فر الناس عنه، وهذه الحال من إصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم، وروي أنه كان ينادي: "إلي عباد الله"، والناس يفرون.

وفي قوله تعالى: في أخراكم مدح للنبي عليه السلام، فإن ذلك هو موقف الأبطال في أعقاب الناس، ومنه قول الزبير بن باطا: "ما فعل مقدمتنا إذ حملنا [ ص: 390 ] وحاميتنا إذ فررنا"، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، ومنه قول سلمة بن الأكوع: "كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقوله تعالى: "فأثابكم" معناه: جازاكم على صنيعكم، وسمي الغم ثوابا على معنى أنه القائم في هذه النازلة مقام الثواب، وهذا كقوله:


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .     تحية بينهم ضرب وجيع



وكقول الآخر:


أخاف زيادا أن يكون عطاؤه     أداهم سودا أو محدرجة سمرا



فجعل القيود والسياط عطاء، ومحدرجة: بمعنى مدحرجة.

واختلف الناس في معنى قوله تعالى: "غما بغم"، فقال قوم: المعنى: أثابكم غما بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المؤمنين، بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فالباء على هذا باء السبب.

[ ص: 391 ] وقال قوم: المعنى أثابكم غما بالغم الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فالباء على هذا باء معادلة، كما قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال. وقالت جماعة كثيرة من المتأولين: المعنى أثابكم غما على غم، أو غما مع غم، وهذه باء الجر المجرد.

واختلفوا في ترتيب هذين الغمين فقال قتادة ومجاهد: الغم الأول: أن سمعوا: ألا إن محمدا قد قتل، والثاني: القتل والجراح الواقعة فيهم. وقال الربيع وقتادة أيضا بعكس هذا الترتيب، وقال السدي ومجاهد أيضا وغيرهما: بل الغم الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق، والغم الثاني هو إشراف أبي سفيان على النبي ومن كان معه. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى قوم من أصحابه قد علوا صخرة في صفح الجبل فمشى نحوهم، فأهوى إليه رجل بسهم ليرميه، فقال: أنا رسول الله، ففرحوا بذلك، وفرح هو عليه السلام إذ رأى من أصحابه الامتناع، ثم أخذوا يتأسفون على ما فاتهم من الظفر، وعلى من مات من أصحابهم، فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم أبو سفيان من علو في خيل كثيرة، فنسوا ما نزل بهم أولا، وأهمهم أمر أبي سفيان، فقال رسول الله عليه السلام: "ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد" ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة، وأغنى عمر بن الخطاب حتى أنزلوهم.

واختلفت الروايات في هذه القصة من هزيمة أحد اختلافا كثيرا، وذلك أن الأمر هول، فكل أحد وصف ما رأى وسمع، قال كعب بن مالك: أول من ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، رأيت عينيه تزهران تحت المغفر. وروي أن الخيل المستعلية إنما كانت حملة خالد بن الوليد، وأن أبا سفيان إنما دنا، والنبي عليه الصلاة والسلام في عرعرة الجبل، ولأبي سفيان في ذلك الموقف قول كثير، ولعمر معه مراجعة محفوظة، اختصرتها إذ لا تخص الآية. [ ص: 392 ] وقوله تعالى: لكيلا تحزنوا على ما فاتكم معناه: من الغنيمة، ( وما أصابكم ) معناه: من القتل والجرح وذل الانهزام وما نيل من نبيكم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

واللام من قوله: "لكيلا" متعلقة بـ "أثابكم"، المعنى: لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم آذيتم أنفسكم، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما هو مع ظنه البراءة بنفسه. وفي قوله تعالى: والله خبير بما تعملون توعد.

ثم ذكر الله تعالى أمر النعاس الذي أمن به المؤمنين فغشي أهل الإخلاص، وذلك أنه لما ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بحضرة أصحابه المتحيزين في تلك الساعة إليه: "اذهب فانظر إلى القوم، فإن جنبوا الخيل فهم ناهضون إلىمكة، وإن كانوا على خيلهم فهم عامدون إلى المدينة، فاتقوا الله واصبروا" ووطنهم على القتال. فمضى علي ثم رجع فأخبر أنهم جنبوا الخيل وقعدوا على أثقالهم عجالا، فآمن الموقنون المصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألقى الله عليهم النعاس، وبقي المنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يصدقون، بل كان ظنهم أن أبا سفيان يؤم المدينة ولا بد، فلم يقع على أحد منهم نوم، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنياوية. قال أبو طلحة: لقد نمت في ذلك اليوم حتى سقط سيفي من يدي مرارا. وقال الزبير بن العوام: لقد رفعت رأسي يوم أحد من النوم فجعلت أنظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما منهم أحد إلا وهو يميل تحت حجفته. وقال ابن مسعود: نعسنا يوم أحد والنعاس في الحرب أمنة من الله، والنعاس في الصلاة من الشيطان.

وقرأ جمهور الناس "أمنة" بفتح الميم، وقرأ ابن محيصن والنخعي "أمنة" بسكون الميم، وهما بمعنى الأمن، وفتح الميم أفصح، وقوله: "نعاسا" بدل. وقرأ ابن كثير [ ص: 393 ] ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: "يغشى" بالياء حملا على لفظ النعاس بإسناد الفعل إلى الضمير البدل، وقرأ حمزة والكسائي: "تغشى" بالتاء حملا على لفظ الأمنة بإسناد الفعل إلى ضمير المبدل منه. والواو في قوله تعالى: وطائفة قد أهمتهم هي واو الحال، كما تقول: جئت وزيد قائم. قاله سيبويه وغيره، قال الزجاج: وجائز أن يكون خبر قوله: "وطائفة" قوله: "يظنون" ويكون "قد أهمتهم" صفة للطائفة.

وقوله تعالى: قد أهمتهم أنفسهم ذهب أكثر المفسرين قتادة والربيع وابن إسحاق وغيرهم إلى أن اللفظة من الهم الذي هو بمعنى الغم والحزن، والمعنى: أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة قد جلبت إليهم الهم خوف القتل وذهاب الأموال، تقول العرب : أهمني الشيء إذا جلب الهم. وذكر بعض المفسرين أن اللفظة من قولك: هم بالشيء يهم إذا أراد فعله.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والمعنى: أهمتهم أنفسهم المكاشفة ونبذ الدين، وهذا قول من قال: قد قتل محمد فلنرجع إلى ديننا الأول، ونحو هذا من الأقوال.

التالي السابق


الخدمات العلمية