الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرآن القرآن

                                                                                                          131 حدثنا علي بن حجر والحسن بن عرفة قالا حدثنا إسمعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن قال وفي الباب عن علي قال أبو عيسى حديث ابن عمر حديث لا نعرفه إلا من حديث إسمعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقرأ الجنب ولا الحائض وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم مثل سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق قالوا لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئا إلا طرف الآية والحرف ونحو ذلك ورخصوا للجنب والحائض في التسبيح والتهليل قال وسمعت محمد بن إسمعيل يقول إن إسمعيل بن عياش يروي عن أهل الحجاز وأهل العراق أحاديث مناكير كأنه ضعف روايته عنهم فيما ينفرد به وقال إنما حديث إسمعيل بن عياش عن أهل الشأم وقال أحمد بن حنبل إسمعيل بن عياش أصلح من بقية ولبقية أحاديث مناكير عن الثقات قال أبو عيسى حدثني أحمد بن الحسن قال سمعت أحمد بن حنبل يقول ذلك

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( والحسن بن عرفة ) ابن يزيد العبدي أبو علي البغدادي ، صدوق من العاشرة ، مات سنة سبع وخمسين ومائتين وقد جاوز المائة ، قاله الحافظ ، وقال الخزرجي : وثقه ابن معين وأبو حاتم وكان له عشرة أولاد بأسماء العشرة .

                                                                                                          ( نا إسماعيل بن عياش ) ابن سليم العنسي أبو عتبة الحمصي صدوق في روايته عن أهل بلده ، مخلط في غيرهم ، قاله الحافظ ، وقال الخزرجي في ترجمته : عالم الشام وأحد مشايخ الإسلام ، وثقه أحمد وابن معين ودحيم والبخاري وابن عدي في أهل الشام ، وضعفوه في الحجازيين ، مات سنة 181 إحدى وثمانين ومائة .

                                                                                                          قوله : ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن ) أي لا القليل ولا الكثير ، والحديث يدل على أنه لا يجوز للجنب ولا للحائض قراءة شيء من القرآن ، وقد وردت أحاديث في تحريم [ ص: 347 ] قراءة القرآن للجنب ، وفي كلها مقال ، لكن تحصل القوة بانضمام بعضها إلى بعض ومجموعها يصلح لأن يتمسك بها .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن علي ) قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم نكن جنبا ، رواه الخمسة ، وهذا لفظ الترمذي وحسنه ، وصححه ابن حبان ، كذا في بلوغ المرام . وقال الزيلعي في نصب الراية : روى أصحاب السنن الأربعة من حديث عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه أو لا يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح . ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وصححه قال : ولم يحتجا بعبد الله بن سلمة ، ومدار الحديث عليه ، انتهى . قال الشافعي : أهل الحديث لا يثبتونه ، قال البيهقي لأن مداره على عبد الله بن سلمة بكسر اللام ، وكان قد كبر وأنكر حديثه وعقله ، وإنما روى هذا بعد كبره ، قاله شعبة . انتهى كلامه ، هذا آخر كلام الزيلعي ، وقال الحافظ : والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة .

                                                                                                          وفي الباب أيضا عن جابر أخرجه الدارقطني بنحو حديث ابن عمر وهو ضعيف .

                                                                                                          قوله : ( حديث ابن عمر لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة . . . إلخ ) وأخرجه ابن ماجه أيضا من هذا الطريق ، والحديث ضعيف لأن إسماعيل بن عياش قد وثقه أئمة الحديث في أهل الشام ، وضعفوه في الحجازيين ، وهو روى هذا الحديث عن موسى بن عقبة وهو من أهل الحجاز ، قال البيهقي في المعرفة : هذا حديث ينفرد به إسماعيل بن عياش وروايته عن أهل الحجاز ضعيفة لا يحتج بها ، قاله أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما من الحفاظ ، وقد روي هذا عن غيره وهو ضعيف . انتهى ، وقال ابن أبي حاتم في علله : سمعت أبي وذكر حديث إسماعيل بن عياش هذا فقال أخطأ إنما هو من قول عمر ، كذا في نصب الراية .

                                                                                                          قوله : ( قالوا لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئا إلا طرف الآية ) أي بعضها فلا [ ص: 348 ] بأس لهما قراءة بعض الآية أو حرف أو حرفين أو نحو ذلك ، وأما قراءة الآية بتمامها فلا يجوز لهما ألبتة .

                                                                                                          قال الخطابي : في الحديث من الفقه أن الجنب لا يقرأ القرآن وكذلك الحائض لا تقرأ ؛ لأن حدثها أغلظ من حدث الجنابة ، وقال مالك في الجنب : إنه لا يقرأ الآية ونحوها . وقد حكي أنه قال : تقرأ الحائض ولا يقرأ الجنب; لأن الحائض إن لم تقرأ نسيت القرآن لأن أيام الحيض تتطاول ومدة الجنابة لا تطول ، وروي عن ابن المسيب وعكرمة أنهما كانا لا يريان بأسا بقراءة الجنب القرآن ، وأكثر العلماء على تحريمه ، انتهى .

                                                                                                          قلت : قول الأكثر هو الراجح يدل عليه حديث الباب ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                          تنبيه : اعلم أن البخاري عقد بابا في صحيحه يدل على أنه قائل بجواز قراءة القرآن للجنب والحائض ، فإنه قال : باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت ، وقال إبراهيم : لا بأس أن تقرأ الآية ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأسا ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه . وذكر آثارا أخرى ، ثم ذكر فيه حديث عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج ، فلما جئنا سرف حضت . . . الحديث ، وفيه : ( فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ) ، قال الحافظ في الفتح : قال ابن بطال وغيره : إن مراد البخاري الاستدلال على جواز قراءة الحائض والجنب بحديث عائشة ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستثن من جميع مناسك الحج إلا الطواف ، وإنما استثناه لكونه صلاة مخصوصة ، وأعمال الحج مشتملة على ذكر وتلبية ودعاء ولم تمنع الحائض من شيء من ذلك ، فكذلك الجنب ؛ لأن حدثها أغلظ من حدثه ، ومنع القراءة إن كان لكونه ذكر الله فلا فرق بينه وبين ما ذكر ، وإن كان تعبدا فيحتاج إلى دليل خاص ، ولم يصح عند المصنف -يعني البخاري - شيء من الأحاديث الواردة في ذلك ، وإن كان مجموع ما ورد في ذلك تقوم به الحجة عند غيره ، لكن أكثرها قابل للتأويل ولهذا تمسك البخاري ومن قال بالجواز غيره كالطبري وابن المنذر وداود بعموم حديث : كان يذكر الله على كل أحيانه; لأن الذكر أعم من أن يكون بالقرآن وبغيره ، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة بالعرف ، والحديث المذكور وصله مسلم من حديث عائشة ، ثم قال الحافظ : وفي جميع ما استدل به نزاع يطول ذكره ، لكن الظاهر من تصرفه ما ذكرناه .

                                                                                                          واستدل الجمهور على المنع بحديث علي : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة ، رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان وضعف بعضهم بعض رواته ، والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة ، لكن قيل في الاستدلال به نظر ؛ لأنه فعل مجرد فلا يدل على تحريم ما عداه ، وأجاب الطبري عنه بأنه محمول على الأكمل جمعا بين الأدلة ، وأما حديث ابن عمر [ ص: 349 ] مرفوعا : " لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن " فضعيف من جميع طرقه . انتهى كلام الحافظ . وقال في التلخيص بعد ذكر حديث ابن عمر ما لفظه : وله شاهد من حديث جابر رواه الدارقطني مرفوعا ، وفيه محمد بن الفضل وهو متروك ، وموقوفا وفيه يحيى بن أبي أنيسة ، وهو كذاب ، وقال البيهقي : وهذا الأثر ليس بالقوي ، وصح عن عمر أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب ، وساقه عنه في الخلافيات بإسناد صحيح . انتهى ، وقال العيني في عمدة القاري : وربما يعضدان -أي حديث ابن عمر وحديث جابر - بحديث علي ، ولم يصح عند البخاري في هذا الباب حديث فلذلك ذهب إلى جواز قراءة الجنب والحائض أيضا . انتهى .

                                                                                                          قوله : ( قال وسمعت ) أي قال الترمذي : وسمعت .

                                                                                                          ( قال ، وإنما حديث إسماعيل بن عياش عن أهل الشام ) أي قال البخاري : حديث إسماعيل بن عياش الذي هو صحيح وصالح للاحتجاج إنما هو ما يرويه عن أهل الشام ، قال في الخلاصة : إسماعيل بن عياش العنسي الحمصي عالم الشام وثقه أحمد وابن معين ودحيم والبخاري وابن عدي في أهل الشام وضعفوه في الحجازيين ، وقال في التقريب : صدوق في روايته عن أهل بلده مخلط في غيرهم .

                                                                                                          ( وقال أحمد بن حنبل إسماعيل بن عياش أصلح من بقية ) كذا قال الترمذي ، وقال الذهبي في الميزان في ترجمة إسماعيل بن عياش : قال عبد الله بن أحمد : سئل أبي عن إسماعيل وبقية فقال بقية أحب إلي ، وقال في ترجمة بقية : قال أحمد هو أحب إلي من إسماعيل بن عياش . انتهى ، فهذا مناقض لما قال الترمذي .




                                                                                                          الخدمات العلمية