الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب

في رد الإشراك في العلم

قال تعالى : لا يعلمها إلا هو [الأنعام : 59] المفاتح : جمع مفتح -بالفتح - وهو المخزن ، جعل للأمور الغيبية مخازن يخزن فيها على طريق الاستعارة . أو جمع مفتح -بكسر الميم - ، وهو المفتاح .

والمعنى : عنده خاصة مخازن الغيب ، أو المفاتح التي يوصل بها إلى المخازن ؛ أي : لا علم لأحد من خلقه بشيء من الأمور الغيبية التي استأثر بعلمها .

ويستوي في ذلك الملائكة ، والأنبياء والرسل ، والأولياء ، والجن ، والشياطين ، وغيرهم ، كما يدل على هذا الجملة المستثناة .

فإن هذه الآية الشريفة ، بيان لاختصاص المقدورات الغيبية به تعالى ، من حيث العلم إثر بيان اختصاص كلها من حيث القدرة .

وفي هذه الآية الكريمة ما يدفع أباطيل الكهان ، والمنجمين ، والرمليين ، وغيرهم من مدعي الكشف ، والإلهام ما ليس من شأنهم ، ولا يدخل تحت قدرتهم ، ولا يحيط به علمهم .

ولقد ابتلي الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة ، والأنواع المخذولة ، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق : «من أتى كاهنا ، أو منجما ، فقد كفر بما أنزل على محمد » . [ ص: 409 ]

قال ابن مسعود : أوتي نبيكم كل شيء ، إلا مفاتح الغيب .

قال ابن عباس : إنها الأقدار والأرزاق .

وقال الضحاك : خزائن الأرض ، وعلم نزول العذاب .

وقال عطاء : هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب .

وقيل : هو انقضاء الآجال ، وعلم أحوال العباد من السعادة ، والشقاوة ، وخواتيم أعمالهم .

وقيل : هو علم ما لم يكن ، بعد أن يكون إذ يكون ، كيف يكون ، وما لم يكن ، أن لو كان كيف يكون .

واللفظ أوسع من ذلك، ويدخل فيه ما ذكروه دخولا أوليا .

وعن عمر -رضي الله عنهما - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتح الغيب خمس ، لا يعلمها إلا الله تعالى : لا يعلم ما يكون في غد إلا الله ، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله ، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ، ولا أحد متى يجيء المطر » .

أخرجه البخاري ، وله ألفاظ . وفي رواية : «ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله » .

وليس في هذه الروايات حصر الأمور الغيبية في تلك الأشياء ، بل فيها أنها أصول الغيب .

قال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية الشريفة : إن الله تعالى كما هدى عباده لدرك الأمور الظاهرة إلى سبل ؛ كالعين للبصر ، والسمع للسماع ، والأنف للشم ، واللسان للذوق ، واليد للأخذ ، والعقل للفهم . [ ص: 410 ]

وهذه السبل في اختيار العباد يستعملونها على وفق إرادتهم ، وينتفعون بها حسب مرادهم .

مثلا : إذا أراد القلب أن يبصر شيئا ، فتحوا العين ، وإذا لم يرد ، أغلقوها .

وكذا إذا أرادوا أن يذوقوا شيئا ، ألقوه في الفم ، ولاكوه ، وإذا لم يريدوه ، ما لاكوه ، فكأنه سبحانه أعطاهم مفاتح إدراك هذه الأشياء ، وكل من يكون في يده مفتاح ، تكون الأقفال في اختياره ، فتحها بها متى شاء ، وأغلقها متى شاء .

فالأمور الظاهرة إدراكها إلى العباد ، إن شاءوا أدركوا ، وإن لم يشاءوا لم يدركوا . فكذلك درك الأمور الغيبية شأن الله تعالى ، ليس باختيار أحد من العباد ، لا ولي ، ولا نبي ، ولا جن ، ولا ملك ، ولا شبح ، ولا شهيد ، ولا إمام ، ولا ولد إمام ، ولا خبيث ، ولا جنية .

فإن الله تعالى لم يعط أحدا القدرة على إدراك الغيب بحيث متى شاء أدركه وعلم به . بل إذا أراد أن يخبر أحدا بشيء ، يخبره على قدر الإرادة منه له ، لا على قدر إرادة المريد له ، وعلى حسب اقتراحه .

وقد اتفق لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرات : أنه أراد أن يعلم شيئا ويدركه ، فلم يعلم به ، ولا أدركه ، وإذا أراد الله أن يعلمه به ، أخبره في آن واحد .

مثاله : إن المنافقين قذفوا عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هو صلى الله عليه وسلم في غم عظيم من هذا الأمر ، وكان يحققه إلى أيام معدودة ، فلم يشعر بحقيقة الحال ، والبال قد بلبل ، من القلق ، والهم .

ولكن لما أراد الله أن يطلعه على ذلك، أخبره أن المنافقين لكاذبون ، وعائشة بريئة من قذفهم . فينبغي أن يؤمن بأن مفاتح الغيب عند الله تعالى ، لم يضعها في يد أحد من الخلق ، ولم يجعل أحدا خازنا لها . بل هي في يده الكريمة [ ص: 411 ] يفتح بها ويرزق من يشاء ما شاء ، لا يقدر أحد أن يمسك يده .

التالي السابق


الخدمات العلمية