الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          مسألة : شرب الدم ، وأكل الخنزير ، والميتة ؟ قال أبو محمد رحمه الله : أنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا [ ص: 381 ] عبد الرزاق نا ابن جريج ، قلت لعطاء : رجل وجد يأكل لحم الخنزير ، وقال : اشتهيته - أو مرت به بدنة فنحرها ، وقد علم أنها بدنة - أو امرأة أفطرت في رمضان - أو أصاب امرأته حائضا - أو قتل صيدا في الحرم متعمدا - أو شرب خمرا فترك بعض الصلاة فذكر جملة ؟ فقال عطاء : ما كان الله نسيا ، لو شاء لجعل ذلك شيئا يسميه ، ما سمعت في ذلك بشيء - ثم رجع إلى أن قال : إذا فعل ذلك مرة ليس عليه شيء ، وإذا عاود ذلك : فلينكل - وذكر الذي قبل امرأته ، والذي أصاب أهله في رمضان .

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ، قال : إذا أكل لحم الخنزير ، ثم عرضت له التوبة ، فإن تاب وإلا قتل .

                                                                                                                                                                                          به - إلى معمر عن الزهري في رجل أفطر في رمضان ، فقال : إذا كان فاسقا من الفساق : نكل نكالا موجعا ، ويكفر أيضا - وإن كان فعل ذلك انتحالا لدين غير الإسلام ، عرضت عليه التوبة .

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى عبد الرزاق عن سفيان الثوري في أكل لحم الخنزير في كل ذلك : حد كحد الخمر .

                                                                                                                                                                                          والذي نعرفه من قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأصحابهم ، وأصحابنا : أنه يعزر فقط .

                                                                                                                                                                                          فهذه في الخنزير خمسة أقوال : قول فيه : الحد كحد الخمر - وقول فيه : أنه لا شيء فيه أصلا - وهو قول سفيان الثوري - وأول قولي عطاء -

                                                                                                                                                                                          والثالث : أنه يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل - وهو قول قتادة

                                                                                                                                                                                          والرابع : أنه لا شيء عليه في أول مرة ، فإن عاد عزر .

                                                                                                                                                                                          وقولة خامسة : أنه يعزر ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فنظرنا فيما يحتج به من رأى أن في ذلك حدا ؟ فلم نجد لهم شيئا إلا القياس ، فلما كانت الخمر مطعومة محرمة ، فيها حد محدود : وجب أن يكون كل مطعوم محرم ، فيه حد محدود كالخمر ، قياسا عليها - وهذا أصح قياس .

                                                                                                                                                                                          في العالم إن صح قياس يوما ما .

                                                                                                                                                                                          وطائفة قالت : لم يفرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الصحابة أجمعت على فرضه فصار واجبا بالإجماع . [ ص: 382 ]

                                                                                                                                                                                          وطائفة قالت : إنما فرضت قياسا على حد القذف ; لأنها تؤدي إلى السكر ، فيكون فيه القذف .

                                                                                                                                                                                          فأما الفرقة التي قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض حد الخمر ، فمن أصلهم أن يقاس المسكوت عنه على المنصوص عليه ، وهؤلاء يقيسون مس الدبر على مس الذكر ; لأن كليهما عندهم فرج ؟ ولا يشك ذو حس سليم أنه لو صح القياس ، فإن قياس شرب الدم ، وأكل الخنزير ، والميتة ، على شرب الخمر أصح من قياس الدبر على الذكر ؟ وكلهم يقيسون حكم ماء الورد ، والعسل ، تموت فيه الفأرة ، أو القطاة ، فلا تغير منه لونا ولا طعما ولا ريحا ، على السمن تموت فيه الفأرة - وقياس الخنزير ، والدم ، والميتة ، على الخمر أصح من كل قياس لهم ، ولو صح يوما ما .

                                                                                                                                                                                          وأما القطاة فليست كالفأرة ; لأن القطاة تؤكل ، والفأرة لا تؤكل ، والقطاة تجزي في الحل والإحرام ، ولا يحل قتلها هنالك - والفأرة لا تجزي ، ويحل قتلها هنالك .

                                                                                                                                                                                          وكذلك ماء الورد والعسل ، ليس كالسمن ; لأن العسل عند بعضهم فيه الزكاة ، والسمن لا زكاة فيه ، وماء الورد لا ربا فيه عند بعضهم ، والسمن فيه الربا عند جميعهم - فظهر تركهم القياس الذي به يحتجون ، وأنهم لا يحسنونه ، ولا يطردونه .

                                                                                                                                                                                          وأما الطائفة التي تقول : إن الصحابة رضي الله عنهم فرضوا حد الخمر ، والقياس أيضا لازم لهم ، كما لزم الطائفة المذكورة .

                                                                                                                                                                                          وأما الطائفة التي قالت : إن حد الخمر إنما فرض قياسا على حد القذف ، والقياس لهؤلاء ألزم ; لأنه كما جاز أن يفرض حد الخمر قياسا على حد القذف ، فكذلك يفرض حد أكل الخنزير ، والميتة ، وشرب الدم ، قياسا على حد الخمر - وجمهورهم يجيزون القياس على المقيس .

                                                                                                                                                                                          فوضح ما قلناه من فساد أقوالهم .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في قول من قال : يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل ، فوجدناه قد حكم له بحكم الردة عنده - وهذا خطأ ; لأنه قول بلا برهان ، ولا يجوز أن يحكم على مسلم بالكفر من أجل معصية أتى بها إلا أن يأتي نص صحيح ، أو إجماع متيقن ، على أنه [ ص: 383 ] يكون بذلك كافرا ، وأن ذلك الفعل كفر ، وليس معنا نص ، ولا إجماع ، على أن آكل الخنزير ، والميتة ، والدم غير مستحل لذلك : كافر ، ولكنه عاص ، مذنب ، فاسق ، إلا أن يفعل ذلك مستحلا له ، فيكون كافرا حينئذ ; لأن معاندة ما صح الإجماع عليه من نصوص القرآن ، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر لا خلاف فيه - فسقط هذا القول لما ذكرنا ، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله } .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية