الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص

أحد الجلة الأشراف ، قرشي ، زهري ثقة ، حجة فيما نقل وروى من أثر في الدين ، وقد ذكرنا نسبه عند ذكر جده في كتاب الصحابة ، وأبوه محمد بن سعد بن أبي وقاص قتله الحجاج صبرا لخروجه مع ابن الأشعث .

أخبرني عبد الله بن محمد بن يوسف ، قال : أخبرني أحمد بن محمد بن إسماعيل ، قال : أخبرنا محمد بن الحسن الأنصاري ، قال : أخبرنا الزبير بن أبي بكر الزبيري ، قال : حدثني محمد بن حسن ، عن إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري ، عن الحكم بن القاسم الأويسي ، عن عبد الرحمن بن [ ص: 130 ] أبي سفيان بن حويطب قال ، وفدت على عبد الملك بن مروان أيام قتل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، فدخلت فسلمت ، فقال : يا ابن حويطب ، ما يقول أهل المدينة في قتل عبد الرحمن بن الأشعث ، قال : قلت سرهم ما كان من ظفر أمير المؤمنين ، وما أعطاه الله وأيده ، قال : فقال : أما والله يا ابن حويطب لقد علمت قريش أني أقتلها لها قصعا ، وأعفاها بعد عن مسيئها ، قال : ثم وافينا العشاء ، فأتي بإسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص ، وبعثمان بن عمر بن موسى بن عبيد الله التيمي ، قال : فقال ليحيى بن الحكم : يا يحيى قم فانظر إلى حال هذين الغلامين هل أنبتا ؟ قال : فقام ثم رجع ، فقال : يا أمير المؤمنين ما ذلك منهما إلا مثل خدودهما ، فأقبل عليهما عبد الملك ، فقال : لا رحم الله أبويكما ، ولا جبر يتمكما اخرجا عني ، قال محمد بن حسن : فحدثني عيسى بن موسى الخطمي ، عن محمد بن أبي بكر الأنصاري ، قال : كان الحجاج قتل أبويهما صبرا ، وكانا ممن أسر من أصحاب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث .

قال أبو عمر : روى ابن شهاب ، عن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن سعد بن أبي وقاص حديث المغيرة في المسح على الخفين وحسبك .

[ ص: 131 ] قال البخاري : سمع إسماعيل أباه ، وعامر بن سعد ، ومصعب بن سعد ، سمع منه الزهري ، ومالك ، وابن عيينة .

وذكر الحسن بن علي الحلواني ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن مصعب بن ثابت ، عن إسماعيل بن محمد بن سعد ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره كأني أنظر إلى صفحة خده صلى الله عليه ، فقال الزهري : ما سمعنا هذا من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له إسماعيل بن محمد : أكل حديث رسول الله قد سمعته ؟ قال : لا ، قال : فنصفه ؟ قال : لا ، قال : فاجعل هذا في النصف الذي لم تسمع .

قال أبو عمر : إسماعيل بن محمد هذا يكنى أبا محمد ، سكن المدينة ، ومات بها سنة أربع وثلاثين ومائة في خلافة أبي العباس فيما ذكر الواقدي والطبري .

لمالك عنه في الموطأ من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد يجري مجرى المتصل ، اختلف عن إسماعيل في إسناده ، والمتن صحيح من طرق .

والحديث : مالك ، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص ، عن مولى لعمرو بن العاصي ، أو لعبد الله بن عمرو بن العاصي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : صلاة أحدكم وهو قاعد مثل نصف [ ص: 132 ] صلاته وهو قائم هكذا رواه جماعة الرواة عن مالك لا خلاف بينهم فيه عنه ، ورواه ابن عيينة ، عن إسماعيل بن محمد بن سعد ، عن أنس ، والقول عندهم قول مالك ، والحديث محفوظ لعبد الله بن عمرو بن العاص ، وقد ذكرنا طرقه في باب مرسل ابن شهاب من كتابنا هذا مستقصاة ، وبالله التوفيق .

ومعنى هذا الحديث المقصود بالخطاب إليه الفضل ، يريد أن صلاة أحدكم وهو قائم أفضل من صلاته وهو قاعد مرتين وضعفين في الفضل ، وفضل صلاته وهو قاعد مثل نصف صلاته في الفضل إذا قام فيها ، وذلك والله أعلم لما في القيام من المشقة أو لما شاء الله أن يتفضل به ، وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الصلوات ، فقال : طول القنوت .

والمراد بهذا الحديث ومثله صلاة النافلة ، والله أعلم ; لأن المصلي فرضا جالسا لا يخلو من أن يكون مطيقا على القيام ، أو عاجزا عنه ، فإن كان مطيقا ، وصلى جالسا ، فهذا لا تجزيه صلاته عند الجميع ، وعليه إعادتها ، فكيف يكون لهذا نصف فضل مصل ، بل هو عاص بفعله ، وأما إذا كان عن القيام عاجزا ، فقد سقط فرض القيام عنه إذا لم يقدر عليه ; لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وإذا لم يقدر على ذلك صار فرضه عند الجميع أن يصلي جالسا ، فإذا صلى كما أمر ، فليس المصلي قائما بأفضل منه ; لأن كلا قد أدى ، فرضه على وجهه ، والأصل في هذا الباب أن القيام في الصلاة لما وجب فرضا بقوله : وقوموا لله قانتين وقوله : قم الليل إلا قليلا وقعت الرخصة في النافلة أن يصليها الإنسان جالسا من غير عذر لكثرتها ، واتصال بعضها ببعض .

[ ص: 133 ] وأما الفريضة فلا رخصة في ترك القيام فيها ، وإنما يسقط ذلك بعدم الاستطاعة عليه ، وقد أجمعوا على أنالقيام في الصلاة فرض على الإيجاب لا على التخيير ، وأن النافلة فاعلها مخير في القيام فيها ، فكفى بهذا بيانا شافيا ، وبالله التوفيق .

وهذا الحديث أصل في إباحة الصلاة جالسا في النافلة .

حدثني أبو عثمان سعيد بن نصر ، قال : حدثنا أبو عمر أحمد بن دحيم ، قال : حدثنا محمد بن الحسين بن زيد أبو جعفر ، قال : حدثنا أبو الحسن علان بن المغيرة ، قال : حدثنا عبد الغفار بن داود ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عبد الله بن بابيه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي ، قال : مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أصلي قاعدا ، فقال : أما إن للقاعد نصف صلاة القائم وهذا إسناد صحيح أيضا عند أهل العلم ، وقد روى هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عمران بن [ ص: 134 ] حصين ، والسائب بن أبي السائب ، وأم سلمة ، وأنس ، وفي حديث عمران بن حصين زيادة ليست موجودة في غيره ، وهي " وصلاة الراقد مثل نصف صلاة القاعد " .

وجمهور أهل العلم لا يجيزون النافلة مضطجعا ، وهو حديث لم يروه إلا حسين المعلم ، وهو حسين بن ذكوان ، عن عبد الله بن بريدة ، عن عمران بن حصين ، وقد اختلف أيضا على حسين المعلم في إسناده ولفظه اختلافا يوجب التوقف عنه ، وإن صح حديث حسين عن ابن بريدة ، عن عمران بن حصين هذا ، فلا أدري ما وجهه ، فإن كان أحد من أهل العلم قد أجاز النافلة مضطجعا لمن قدر على القعود أو القيام ، فوجه ذلك الحديث النافلة ، وهو حجة لمن ذهب إلى ذلك ، وإن أجمعوا على كراهية النافلة راقدا لمن قدر على القعود أو القيام فيها ، فحديث حسين هذا إما غلط وإما منسوخ ، وقد روي بألفاظ تدل على أنه لم يقصد به النافلة ، وإنما قصد به الفريضة ، وهو الذي تدل عليه ألفاظ من يحتج بنقله له .

[ ص: 135 ] قال : أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا محمد بن بكر بن داسة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن سليمان الأنباري ، قال : حدثنا وكيع ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن حسين المعلم ، عن أبي بريدة ، عن عمران بن حصين ، قال : كان بي الناسور ، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب .

قال أبو عمر : هذا يبين لك أن القيام لا يسقط فرضه إلا بعدم الاستطاعة ثم كذلك القعود إذا لم يستطع ، ثم كذلك شيء شيء ، يسقط عند عدم القدرة عليه حتى يصير إلى الإغماء ، فيسقط جميع ذلك ، وهذا كله في الفرض لا في النافلة ، وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي في هذا الباب فإنما هو في النافلة ، والدليل على ذلك أن في نقل ابن شهاب له أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يصلون في سبحتهم قعودا ، فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال ذلك القول ، والسبحة عند أهل العلم النافلة ، ودليل ذلك أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم - في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة [ ص: 136 ] عن ميقاتها صلوا الصلاة لوقتها ، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة يعني نافلة ، وفرض القيام في الصلاة المكتوبة ثابت من وجهين : أحدهما إجماع الأمة كافة عن كافة في المصلي فريضة وحده أو كان إماما أنه لا تجزيه صلاته إذا قدر على القيام فيها وصلى قاعدا ، وفي إجماعهم على ذلك دليل واضح على أن حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي المذكور في هذا الباب معناه النافلة على ما وصفنا ، والوجه الثاني قوله عز وجل : وقوموا لله قانتين أي قائمين ، ففي هذه الآية فرض القيام أيضا عند أهل العلم لقوله عز وجل وقوموا ولقوله قانتين ، يريد قوموا قائمين لله يعني في الصلاة ، فخرج على غير لفظه لأنه أعم في الفائدة لاحتمال القنوت وجوها كلها تجب في الصلاة .

والدليل على أن القيام يسمى قنوتا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ سئل أي الصلاة أفضل ؟ قال : طول القنوت ، يعني طول القيام .

وزعم أبو عبيد أن القنوت في الوتر ، وهو عندنا في صلاة الصبح ، إنما سمي قنوتا ; لأن الإنسان فيه قائم للدعاء من غير أن يقرأ القرآن ، فكأنه سكوت وقيام إذ لا يقرأ فيه ، وقد يكون القنوت السكوت ، روي عن زيد بن أرقم أنه قال : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت ، وليس في هذا الحديث رد لما ذكرنا ; لأن الآية يقوم منها هذان المعنيان وغيرهما ، لاحتمالهما في اللغة لذلك ; لأن القنوت في اللغة له وجوه منها أن القنوت الطاعة ، دليل ذلك قول الله عز وجل : كل له قانتون أي مطيعون ، وقوله : إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين [ ص: 137 ] أي مطيعا لله ، وهذا كثير مشهور ، ومنها أن القنوت الصلاة فيما زعم ابن الأنباري ، واحتج بقول الله يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي ثم بقول الشاعر :


قانتا لله يتلو كتبه وعلى عمد من الناس اعتزل

وقال : تحتمل هذه الآية وهذا البيت جميعا عندي معنى الطاعة أيضا ، والله أعلم ، ومنها أن القنوت الدعاء ، دليل ذلك القنوت في الصلاة ، وقولهم : قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرا يدعو ، ومثل هذا كثير ، وبالله التوفيق .

واختلف الفقهاء في كيفية صلاة القاعد في النافلة ، وصلاة المريض ، فذكر ابن عبد الحكم عن مالك في المريض أنه يتربع في قيامه وركوعه ، فإذا أراد السجود تهيأ للسجود فسجد على قدر ما يطيق ، وكذلك المتنفل قاعدا ، وقال الثوري : يتربع في حال القراءة والركوع ، ويثني رجليه في حال السجود فيسجد ، وهذا نحو مذهب مالك ، وكذلك قال الليث ، وأحمد ، وإسحاق ، وقال الشافعي : يجلس في صلاته كلها كجلوس التشهد ، في رواية المزني ، وقال البويطي عنه : يصلي متربعا في موضع القيام ، وقال أبو حنيفة وزفر : يجلس كجلوس الصلاة في التشهد ، وكذلك يركع ويسجد ، وقال أبو يوسف ومحمد : يكون متربعا في حال القيام وحال الركوع ، وقد روي عن أبي يوسف أنه يتربع في حال القيام ويكون في حال ركوعه وسجوده كجلوس التشهد .

[ ص: 138 ] قال أبو عمر : روي عن ابن مسعود أنه كره أن يتربع أحد في الصلاة ، قال عبد الرزاق : يقول إذا صلى قائما ، فلا يجلس للتشهد متربعا ، فأما إذا صلى قاعدا فليتربع ، وروي عن ابن عباس أنه كان يكره التربع في صلاة التطوع ، قال شعبة : فسألت عنه حمادا ، فقال : لا بأس به في التطوع وروي عن إبراهيم ، ومجاهد ، ومحمد بن سيرين ، وأنس بن مالك أنهم كانوا يصلون في النافلة جلوسا متربعين ، ومالك أنه بلغه عن عروة ، وسعيد بن المسيب أنهما كانا يصليان النافلة وهما محتبيان ، ومعمر ، عن أيوب أن ابن سيرين كان يصلي في التطوع محتبيا ، قال معمر : ورأيت عطاء الخراساني يحتبي في صلاة التطوع ، وقال : ما أراني أخذته إلا من ابن المسيب ، ومعمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب أنه كان يحتبي في آخر صلاته في التطوع ، وذكر الثوري ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن ابن المسيب مثله ، قال : فإذا أراد أن يسجد ثنى رجليه وسجد ، وكان عمر بن عبد العزيز يصلي جالسا محتبيا ، فقيل له في ذلك ، فقال : بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى كان أكثر صلاته وهو جالس صلوات الله عليه ، وسيأتي القول فيمن صلى بعض صلاته مريضا ثم صح فيها ، في باب هشام بن عروة إن شاء الله عز وجل ، وصلى الله على محمد .

التالي السابق


الخدمات العلمية