الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن هذا الباب أيضا شهادة الأجير

وقد ذكر الطحاوي عن محمد بن سنان؛ عن عيسى؛ عن محمد؛ عن أبي يوسف؛ عن أبي حنيفة أن شهادة الأجير غير جائزة لمستأجره في شيء؛ وإن كان عدلا؛ استحسانا.

قال أبو بكر : روى هشام ؛ وابن رستم؛ عن محمد أن شهادة الأجير الخاص غير جائزة لمستأجره؛ وتجوز شهادة الأجير المشترك له؛ ولم يذكر خلافا عن أحد منهم؛ وهو قول عبيد الله بن الحسن؛ وقال مالك : "لا تجوز شهادة الأجير لمن استأجره؛ إلا أن يكون مبرزا في العدالة؛ وإن كان الأجير في عياله لم تجز شهادته له"؛ وقال الأوزاعي : "لا تجوز شهادة الأجير لمستأجره"؛ وقال الثوري : " شهادة الأجير جائزة إذا كان لا يجر إلى نفسه"؛ حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا أبو عمر الحوضي قال: حدثنا محمد بن راشد؛ عن سليمان بن موسى؛ عن عمرو بن شعيب ؛ عن أبيه؛ عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد شهادة الخائن؛ والخائنة؛ وشهادة ذي الغمر على أخيه؛ ورد القانع لأهل البيت؛ وأجازها على غيرهم؛ وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا حفص بن عمر قال: حدثنا محمد بن راشد؛ بإسناده؛ مثله؛ إلا أنه قال: "ورد شهادة القانع لأهل البيت".

قال أبو بكر : قوله: "القانع لأهل البيت"؛ يدخل فيه الأجير الخاص; لأن معناه: "التابع لهم"؛ والأجير الخاص هذه صفته؛ وأما الأجير المشترك فهو وسائر الناس في ماله بمنزلة؛ فلا يمنع ذلك جواز شهادته؛ وكذلك شريك العنان تجوز شهادته [ ص: 244 ] له؛ في غير مال الشركة؛ وقال أصحابنا: كل شهادة ردت للتهمة لم تقبل أبدا؛ مثل شهادة أحد الزوجين للآخر ؛ إذا ردت لفسقه؛ ثم تاب؛ وأصلح؛ فشهد بتلك الشهادة؛ لم تقبل أبدا؛ ومثل شهادة أحد الزوجين للآخر إذا ردت؛ ثم شهد بها بعد زوال الزوجية؛ لم تقبل أبدا؛ وقالوا: لو شهد عبد بشهادة؛ أو كافر؛ أو صبي؛ فردت؛ ثم أعتق العبد؛ أو أسلم الكافر؛ أو كبر الصبي؛ ثم شهد بها؛ قبلت؛ وقال مالك : " إذا شهد الصبي؛ أو العبد بشهادة؛ ثم ردت؛ ثم كبر الصبي؛ أو أعتق العبد؛ وشهدا بها ؛ لم تقبل أبدا؛ ولو لم تكن ردت قبل ذلك فإنها جائزة".

وروي عن عثمان بن عفان مثل قول مالك ؛ وإنما قال أصحابنا: إنها إذا ردت لتهمة لم تقبل أبدا؛ من قبل أن الحاكم قد حكم بإبطالها؛ وحكم الحاكم لا يجوز فسخه؛ إلا بحكم؛ ولا يصح فسخه بما لا يثبت من جهة الحكم؛ فلما لم يصح الحكم بزوال التهمة التي من أجلها ردت الشهادة؛ كان حكم الحاكم بإبطال تلك الشهادة ماضيا؛ لا يجوز فسخه أبدا؛ وأما الرق؛ والكفر؛ والصغر؛ فإن المعاني التي ردت من أجلها؛ وحكم الحاكم بإبطالها؛ محكوم بزوالها; لأن الحرية؛ والإسلام؛ والبلوغ؛ كل ذلك مما يحكم به الحاكم ؛ فلما صح حكم الحاكم بزوال المعاني التي من أجلها بطلت شهادتهم؛ وجب أن تقبل؛ ولما لم يصح أن يحكم الحاكم بزوال التهمة؛ لأن ذلك معنى لا تقوم به البينة؛ ولا يحكم به الحاكم ؛ كان حكم الحاكم بإبطالها ماضيا؛ إذا كان ما ثبت من طريق الحكم لا ينفسخ إلا من جهة الحكم؛ فهذه الأمور الثلاثة التي ذكرناها؛ من العدالة؛ ونفي التهمة؛ وقلة الغفلة؛ هي من شرائط الشهادات ؛ وقد انتظمها قوله (تعالى): ممن ترضون من الشهداء ؛ فانظر إلى كثرة هذه المعاني؛ والفوائد؛ والدلالات على الأحكام التي في ضمن قوله (تعالى): ممن ترضون من الشهداء ؛ مع قلة حروفه؛ وبلاغة لفظه؛ ووجازته؛ واختصاره؛ وظهور فوائده؛ وجميع ما ذكرنا - من عند ذكرنا لمعنى هذا اللفظ؛ من أقاويل السلف والخلف؛ واستنباط كل واحد منهم ما في مضمونه؛ وتحريهم موافقته مع احتماله لجميع ذلك - يدل على أنه كلام الله (تعالى)؛ ومن عنده - تعالى وتقدس -؛ إذ ليس في وسع المخلوقين إيراد لفظ يتضمن من المعاني؛ والدلالات؛ والفوائد؛ والأحكام ما تضمنه هذا القول؛ مع اختصاره؛ وقلة عدد حروفه؛ وعسى أن يكون ما لم يحط به علمنا من معانيه؛ مما لو كتب لطال؛ وكثر؛ والله نسأل التوفيق لنعلم أحكامه؛ ودلائل كتابه؛ وأن يجعل ذلك خالصا لوجهه.

قوله (تعالى) - عز وجل -: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ؛ قرئ: "فتذكر إحداهما الأخرى"؛ بالتشديد؛ وقرئ: "فتذكر إحداهما الأخرى"؛ بالتخفيف؛ وقيل: إن معناهما قد يكون [ ص: 245 ] واحدا؛ يقال: "ذكرته"؛ و"أذكرته"؛ وروي ذلك عن الربيع بن أنس ؛ والسدي ؛ والضحاك .

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو عبيد ؛ مؤمل الصيرفي؛ قال: حدثنا أبو يعلى البصري قال: حدثنا الأصمعي عن أبي عمرو قال: "من قرأ: "فتذكر"؛ مخففة؛ أراد: تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر؛ ومن قرأ: "فتذكر"؛ بالتشديد؛ أراد: من جهة التذكير"؛ وروي ذلك عن سفيان بن عيينة .

قال أبو بكر : إذا كان محتملا للأمرين وجب حمل كل واحدة من القراءتين على معنى؛ وفائدة مجددة؛ فيكون قوله (تعالى): "فتذكر"؛ بالتخفيف؛ تجعلهما جميعا بمنزلة رجل واحد في ضبط الشهادة؛ وحفظها؛ وإتقانها؛ وقوله (تعالى): فتذكر ؛ من التذكير عند النسيان؛ واستعمال كل واحد منهما على موجب دلالتيهما أولى من الاقتصار بها على موجب دلالة أحدهما؛ ويدل على ذلك أيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن"؛ قيل: يا رسول الله; وما نقصان عقلهن؟ قال: "جعل شهادة امرأتين بشهادة رجل فهذا موافق لمعنى من تأول "فتذكر" إحداهما الأخرى على أنهما تصيران في ضبط الشهادة وحفظها بمنزلة رجل؛ وفي هذه الآية دلالة على أنه غير جائز لأحد إقامة شهادة؛ وإن عرف خطه؛ إلا أن يكون ذاكرا لها؛ ألا ترى أن الله (تعالى) ذكر ذلك بعد الكتاب؛ والإشهاد؛ ثم قال (تعالى): أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ؟ فلم يقتصر بنا على الكتاب؛ والخط؛ دون ذكر الشهادة؛ وكذلك قوله (تعالى): ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ؛ فدل ذلك على أن الكتاب إنما أمر به لتستذكر به كيفية الشهادة؛ وأنها لا تقام إلا بعد حفظها؛ وإتقانها؛ وفيها الدلالة على أن الشاهد إذا قال: "ليس عندي شهادة في هذا الحق"؛ ثم قال: "عندي شهادة فيه "؛ أنها مقبولة؛ لقوله (تعالى): أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ؛ فأجازها إذا ذكرها بعد نسيانها؛ وذكر ابن رستم عن محمد - رحمه الله - في رجل سئل عن شهادة في أمر كان يعلمه؛ فقال: "ليس عندي شهادة"؛ ثم إنه شهد بها في ذلك عند القاضي؛ قال: "تقبل منه إذا كان عدلا; لأنه يقول: نسيتها ثم ذكرتها؛ ولأن الحق ليس له؛ فيجوز قوله عليه؛ وإنما الحق لغيره؛ فكذلك تقبل شهادته فيه".

قال أبو بكر : يعني أنه ليس هذا مثل أن يقول المدعي: "ليس لي عنده هذا الحق"؛ ثم يدعيه؛ فلا تقبل دعواه له بعد إقراره; لأنه أبرأه من الحق؛ وأقر على نفسه؛ فجاز إقراره؛ فلا تقبل دعواه بعد ذلك لذلك الحق لنفسه; لأنه قد أبطلها بإقراره؛ وأما الشهادة فإنما هي حق للغير؛ فلا يبطلها قوله: "ليس عندي شهادة"؛ وقوله [ ص: 246 ] (تعالى): أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ؛ يدل على صحة هذا القول.

وقد اختلف الفقهاء في الشهادة على الخط ؛ فقال أبو حنيفة ؛ وأبو يوسف: "لا يشهد بها حتى يذكرها"؛ وهذا هو المشهور من قولهم؛ وروى ابن رستم قال: قلت لمحمد: "رجل يشهد على شهادة؛ وكتبها بخطه؛ وختمها؛ أولم يختم عليها وقد عرف خطه؟"؛ قال: "إذا عرف خطه وسعه أن يشهد عليها؛ ختم عليها أو لم يختم"؛ قال: فقلت: "إن كان أميا لا يقرأ؛ فكتب غيره له"؛ قال: "لا يشهد حتى يحفظ ويذكرها"؛ وقال أبو حنيفة : "ما وجد القاضي في ديوانه لا يقضي به إلا أن يذكره"؛ وقال أبو يوسف: "يقضي به إذا كان في قمطره؛ وتحت خاتمه; لأنه لو لم يفعله أضر بالناس"؛ وهو قول محمد؛ ولا خلاف بينهم أنه لا يمضي شيئا منه إذا لم يكن تحت خاتمه؛ وأنه لا يمضي ما وجده في ديوان غيره من القضاة؛ إلا أن يشهد به الشهود على حكم الحاكم الذي قبله؛ وقال ابن أبي ليلى مثل قول أبي يوسف فيما يجده في ديوانه؛ وذكر أبو يوسف أيضا عن ابن أبي ليلى : "إذا أقر عند القاضي لخصمه فلم يثبته في ديوانه؛ ولم يقض به عليه؛ ثم سأله المقر له به أن يقضي له على خصمه؛ فإنه لا يقضي به عليه"؛ في قول ابن أبي ليلى ؛ وقال أبو حنيفة ؛ وأبو يوسف: يقضي به عليه إذا كان يذكره؛ وقال مالك - فيمن عرف خطه ولم يذكر الشهادة -: "إنه لا يشهد على ما في الكتاب؛ ولكن يؤدي شهادته إلى الحاكم كما علم؛ وليس للحاكم أن يجيزها؛ فإن كتب الذي عليه الحق شهادته على نفسه في ذكر الحق؛ ومات الشهود؛ فأنكر؛ فشهد رجلان أنه خط نفسه؛ فإنه يحكم عليه بالمال؛ ولا يستحلف رب المال"؛ وذكر أشهب عنه؛ فيمن عرف خطه ولا يذكر الشهادة؛ أنه يؤديها إلى السلطان؛ ويعلمه ليرى فيه رأيه؛ وقال الثوري : "إذا ذكر أنه شهد؛ ولا يذكر عدد الدراهم؛ فإنه لا يشهد؛ وإن كتبها عنده ولم يذكر إلا أنه يعرف الكتاب؛ فإنه إذا ذكر أنه شهد؛ وأنه قد كتبها؛ فأرى أن يشهد على الكتاب"؛ وقال الليث : "إذا عرف أنه خط يده؛ وكان ممن يعلم أنه لا يشهد إلا بحق؛ فليشهد؛ وقال الشافعي : "إذا ذكر إقرار المقر حكم به عليه؛ أثبته في ديوانه؛ أو لم يثبته; لأنه لا معنى للديوان إلا الذكر"؛ وقال في كتاب المزني: "إنه لا يشهد حتى يذكر".

قال أبو بكر : قد ذكرنا دلالة قوله (تعالى): أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ؛ ودلالة قوله (تعالى) - بعد ذكر الكتاب -: ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ؛ على أن من شرط جواز إقامة الشهادة ذكر الشاهد لها؛ وأنه لا يجوز الاقتصار فيها على الخط؛ إذ الخط والكتاب مأمور به لتذكر به [ ص: 247 ] الشهادة؛ ويدل عليه أيضا قوله (تعالى): إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ؛ فإذا لم يذكرها فهو غير عالم بها؛ وقوله (تعالى): ولا تقف ما ليس لك به علم ؛ يدل على ذلك؛ ويدل عليه حديث ابن عباس ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا رأيت مثل الشمس فاشهد؛ وإلا فدع"؛ وقد تقدم ذكر سنده؛ وأما الخط فقد يزور عليه؛ وقد يشتبه على الشاهد؛ فيظن أنه خطه؛ وليس بخطه؛ ولما كانت الشهادة من مشاهدة الشيء؛ وحقيقة العلم به؛ فمن لا يذكر الشهادة فهو بخلاف هذه الصفة؛ فلا تجوز له إقامة الشهادة به؛ وقد أكد أمر الشهادة حتى صار لا يقبل فيها إلا صريح لفظها؛ ولا يقبل ما يقوم مقامها من الألفاظ؛ فكيف يجوز العمل على الخط الذي يجوز عليه التزوير والتبديل؟ وقد روي عن أبي معاوية النخعي ؛ عن الشعبي - فيمن عرف الخط والخاتم؛ ولا يذكر الشهادة -: أنه لا يشهد به حتى يذكرها؛ وقوله (تعالى): أن تضل إحداهما ؛ معناه: أن تنساها; لأن الضلال هو الذهاب عن الشيء؛ فلما كان الناسي ذاهبا عما نسيه جاز أن يقال: ضل عنه؛ بمعنى أنه نسيه؛ وقد يقال أيضا: ضلت عنه الشهادة؛ وضل عنها؛ والمعنى واحد. والله (تعالى) أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية