الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ الرد على دعوى أن الأئمة قالوا : بجواز التقليد ]

الوجه الخامس والستون : قولكم : " قد صرح الأئمة بجواز التقليد كما قال سفيان : إذا رأيت الرجل يعمل العمل وأنت ترى غيره فلا تنهه ، وقال محمد بن الحسن : يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه ، ولا يجوز له تقليد مثله ، وقال الشافعي في غير موضع : قلته تقليدا لعمر ، وقلته تقليدا لعثمان ، وقلته تقليدا لعطاء " .

جوابه من وجوه : أحدها : أنكم إن ادعيتم أن جميع العلماء صرحوا بجواز التقليد فدعوى باطلة ، فقد ذكرنا من كلام الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في ذم التقليد وأهله [ ص: 184 ] والنهي عنه ما فيه كفاية ، وكانوا يسمون المقلد الإمعة ومحقب دينه ، كما قال ابن مسعود : الإمعة الذي يحقب دينه الرجال ، وكانوا يسمونه الأعمى الذي لا بصيرة له ، ويسمون المقلدين أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل صائح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يركنوا إلى ركن وثيق ، كما قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة ، وكما سماه الشافعي حاطب ليل ، ونهى عن تقليده وتقليد غيره ; فجزاه الله عن الإسلام خيرا ، لقد نصح لله ورسوله والمسلمين ودعا إلى كتاب الله وسنة رسوله ، وأمر باتباعهما دون قوله ، وأمرنا بأن نعرض أقواله عليهما فنقبل منها ما وافقهما ونرد ما خالفهما ; فنحن نناشد المقلدين : هل حفظوا في ذلك وصيته وأطاعوه أم عصوه وخالفوه ؟ وإن ادعيتم أن من العلماء من جوز التقليد فكان ما رأى .

الثاني : أن هؤلاء الذين حكيتم عنهم أنهم جوزوا التقليد لمن هو أعلم منهم هم من أعظم الناس رغبة عن التقليد واتباعا للحجة ومخالفة لمن هو أعلم منهم ، فأنتم مقرون أن أبا حنيفة أعلم من محمد بن الحسن ومن أبي يوسف وخلافهما له معروف ، وقد صح عن أبي يوسف أنه قال : لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا .

الثالث : أنكم منكرون أن يكون من قلدتموه من الأئمة مقلدا لغيره أشد الإنكار ، وقمتم وقعدتم في قول الشافعي : قلته تقليدا لعمر ، وقلته تقليدا لعثمان ، وقلته تقليدا لعطاء ، واضطربتم في حمل كلامه على موافقة الاجتهاد أشد الاضطراب ، وادعيتم أنه لم يقلد زيدا في الفرائض ، وإنما اجتهد فوافق اجتهاده اجتهاده .

ووقع الخاطر على الخاطر ، حتى وافق اجتهاده في مسائل المعادة حتى في الأكدرية ، وجاء الاجتهاد حذو القذة بالقذة ، فكيف نصبتموه مقلدا ههنا ؟ ولكن هذا التناقض جاء من بركة التقليد ، ولو اتبعتم العلم من حيث هو واقتديتم بالدليل وجعلتم الحجة إماما لما تناقضتم هذا التناقض وأعطيتم كل ذي حق حقه .

الرابع : أن هذا من أكبر الحجج عليكم ; فإن الشافعي قد صرح بتقليد عمر وعثمان وعطاء مع كونه من أئمة المجتهدين ، وأنتم - مع إقراركم بأنسكم من المقلدين - لا ترون تقليد واحد من هؤلاء ، بل إذا قال الشافعي وقال عمر وعثمان وابن مسعود - فضلا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن - تركتم تقليد هؤلاء وقلدتم الشافعي ، وهذا عين التناقض ; فخالفتموه من حيث زعمتم أنكم قلدتموه ، فإن قلدتم الشافعي فقلدوا من قلده الشافعي ، فإن قلتم : بل قلدناهم فيما قلدهم فيه الشافعي ، قيل : لم يكن ذلك تقليدا منكم لهم ، بل تقليدا له ، وإلا فلو جاء عنهم خلاف قوله لم تلتفتوا إلى أحد منهم ، الخامس : أن من ذكرتم من الأئمة لم يقلدوا تقليدكم ، ولا سوغوه بتة ، بل غاية ما نقل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة لم يظفروا فيها بنص عن الله ورسوله ، ولم يجدوا [ ص: 185 ] فيها سوى قول من هو أعلم منهم فقلدوه ، وهذا فعل أهل العلم ، وهو الواجب ; فإن التقليد إنما يباح للمضطر ، وأما من عدل عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكنه منه إلى التقليد فهو كمن عدل إلى الميتة مع قدرته على المذكى ; فإن الأصل أن لا يقبل قول الغير إلا بدليل إلا عند الضرورة ، فجعلتم أنتم حال الضرورة رأس أموالكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية