الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ المعدوم الذي تعلق العلم بوجوده مأمور ]

                                                      المعدوم الذي تعلق العلم بوجوده مأمور عندنا بالأمر الأزلي خلافا للمعتزلة .

                                                      وأصل الكلام في هذه المسألة : أن أصحابنا لما أثبتوا الكلام النفسي وأن الله تعالى لم يزل آمرا ناهيا مخبرا . قيل عليهم من قبل الخصوم القائلين [ ص: 99 ] بحدوثه : إن الأمر والنهي بدون المخاطب عبث ، فاضطرب الأصحاب في التخلص من ذلك على فرقتين :

                                                      إحداهما : قالت : إن المعدوم في الأزل مأمور على معنى تعلق الأمر به في الأزل على تقدير الوجود ، واستجماع شرائط التكليف لا أنه مأمور حال عدمه ، فإن ذلك مستحيل بل هو مأمور بتقدير الوجود بمعنى أنه يجوز أن يكون الأمر موجودا في الأزل ، ثم إن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك يصير مأمورا بذلك الأمر .

                                                      وهذا مفرع على إثبات كلام النفس ، ولم يقل به إلا الأشاعرة هكذا نقلوه عن الشيخ أبي الحسن منهم ابن القشيري .

                                                      قال إلكيا : تعلق الأمر على تقدير الوجود معه الأكثرون وجوزه الأشعري بل أوجبوه ، لأن أمر الله قديم ولا مخاطب أزلا . وأنكره المعتزلة مستمسكين بأن الأمر طلب ، ولا يعقل الطلب من المعدوم ، فقيل : هذا الطلب لا متعلق له ، فإن المعدوم يستحيل أن يكون مخاطبا أو متعلقا ، فإنه نفي ، وإذا قلت : النفي متعلق فكأنك قلت : لا متعلق ، فقيل لهم : المعدوم كيف يكون مأمورا به ، ولا يجوز أن يكون متعلقا ؟ قلنا : هذا مبني على أصلنا فقيل : هذا أمر ولا مأمور .

                                                      قلنا : هو بتقدير أمر فإن الطلب من الصفات المتعلقة فلا يثبت دون متعلقه أصلا ، كالعلم لا يثبت دون معلوم والكلام الأزلي ليس تقديرا .

                                                      قال : وأصحاب الشيخ يقولون : معنى قولنا : " إنه في الأزل آمر " أنه صالح لأن يكون خطابا للموجود بعد وجوده كالقدرة والعلم وغيرهما من [ ص: 100 ] الصفات ، وإنكار بعضها بهذا الطريق يجر إلى ما سواه . ا هـ . وقد عظم النكير في هذه المسألة على الأشعري حتى انتهى الأمر إلى انكفاف طائفة من الأصحاب عن هذا المذهب منهم أبو العباس القلانسي ، وجماعة من القدماء ، فقالوا : كلام الله في الأزل لا يتصف بكونه أمرا أو نهيا ووعدا أو وعيدا ، وإنما تثبت هذه الصفات عند وجود المخاطبين فيما لا يزال ، وجعل ذلك من صفات الأفعال كالخالق والرازق ، وهذا ضعيف ، لأنه إثبات لكلام خارج عن أقسام الكلام ، وهو يستحيل ، ولئن جاز ذلك فما المانع من المصير إلى أن الصفة الأزلية ليست كلاما أزلا ، ثم يستحيل كونها فيما لا يزال ؟

                                                      وسهل الطرطوشي أمر هذا الخلاف ، فقال : ليس خلافا في معنى ، وإنما خلاف عائد إلى لغة لاتفاقهما على وجود المعنى في النفس ، وامتناع القلانسي من تسمية الله تعالى في الأزل آمرا ناهيا وتسمية كلامه أمرا ونهيا لم يمتنع من أجله أن يقول : إن هذا الاقتضاء قائم بذات البارئ تعالى في الأزل ، وإنما قال : لا أطلق عليه آمرا ولا على كلامه أمرا حتى يتعلق بمتعلقه ، فحينئذ أسميه آمرا من غير أن يتجدد في القديم شيء وهذا قريب .

                                                      وعند هذا نقول : الأقوى أنه يطلق عليه آمر قبل التعليق ، كما يطلق عليه تعالى قادر قبل وجود المقدور . ا هـ .

                                                      وما ذكرناه من أن الشيخ لم يرد تنجيز التكليف ، وإنما أراد قيام التعلق العقلي ، وهو قيام الطلب بالذات من المعدوم إذا وجد ، صرح به ابن الحاجب أيضا من المتأخرين . ونازعه بعضهم . وقال : الحق أن الأشعري إنما أراد التنجيز ، والتعلق عنده قديم ، ولا يلزم من التنجيز تكليف [ ص: 101 ] المعدوم بأن يوجد الفعل في حال عدمه بل تعلق التكليف به على صفة ، وهي أنه لا يوقعه إلا بعد وجوده واستجماع الشرائط ، وذلك لا يوجب عدم التنجيز بل التنجيز واقع ، وهذا معناه . ومن ظن أنه يلزم كونه مأمورا في العدم أن يوجد في العدم فقد زل ، فإن إتيانه به في العدم كما يستدعي الإمكان كذلك يستدعي أن يؤمر به على هذا الوجه ، والأمر لم يقع كذلك بل على صفة أن الفعل يكون بعد استجماع شرائطه التي فيها الوجوب .

                                                      وأقرب مثال لذلك : الوكالة فإن تعليقها باطل على الذهب ، ولو نجز الوكالة وعلق التصرف على شرط جاز ، وهو الآن وكيل وكالة منجزة ، ولكنه لا يتصرف إلا على مقتضاها ، وهو وجدان الشرط .

                                                      الفرقة الثانية : قالت : إنه كان في الأزل آمر من غير مأمور ، ثم لما استمر وبقي صار المكلفون بعد دخولهم في الوجود مأمورين بذلك الأمر ، وضربوا لذلك مثالا : وهو أن الإنسان إذا قرب موته قبل ولادة ولده ، فربما يقول لبعض الناس : إذا أدركت ولدي ، فقل له : إن أباك كان يأمرك بتحصيل العلم .

                                                      فهاهنا قد وجد الآمر ، والمأمور معدوم حتى لو بقي ذلك الأمر إلى أوان بلوغ ذلك الصبي لصار مأمورا به .

                                                      قال صاحب " التنقيحات " : وفيه بحث إذ الكلام فيما ليس هناك مأمور ولا من ينهى إليه .

                                                      وأجاب بعضهم على أصل الأشاعرة بأن كلام الله إنما هو الخبر ، والخبر في الأزل واحد لكنه يختلف إضافته بحسب اختلاف الأوقات ، وبحسب ذلك [ ص: 102 ] تختلف الألفاظ الدالة عليه كما في العلم فإنه صفة واحدة تختلف باختلاف المعلومات .

                                                      ولعل الأشاعرة إنما ذهبوا إلى انحصار كلام الله في الخبر . لهذا الغرض والقائلون بجواز أمر المعدوم اختلفوا كما قاله القاضي أبو بكر . فذهب الفقهاء إلى أن الأمر قبل وجود المأمور أمر إنذار وإعلام ، وليس بأمر إيجاب على الحقيقة . وذهب المحققون إلى أنه أمر إيجاب على شرط الوجود ، فإن ما يتحاشى من الإيجاب يلزم مثله في الإعدام ، وكما يتعذر إلزام المعدوم شيئا يتعذر إعلامه .

                                                      وحكى إمام الحرمين في " التلخيص " عن بعض من لا تحقيق له أن الأمر يتعلق بالمعدوم بشرط أن يتعلق بموجود واحد فصاعدا ، ثم يتبعه المعدومون على شرط الوجود وسقوط هذا واضح .

                                                      قلت : وهو يضاهي قول الفقهاء : يصح الوقف على المعدوم تبعا لموجود كوقفت على ولدي فلان وعلى من سيولد لي .

                                                      وأما المعتزلة فأنكروا خطاب المعدوم وتوصلوا بزعمهم إلى إبطال الكلام النفسي ، وعلى ، هذا فهم يقولون : إن أوامر الشرع الواردة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، تختص بالموجودين ، وأن من بعدهم تناوله بدليل .

                                                      وحكى أبو الخطاب الحنبلي في " الهداية " عن الغزالي وأكثر الحنفية اختيار مذهب المعتزلة : أن الأمر لا يتناول المعدومين وأنه يختص بالموجودين .

                                                      قال : وفائدة الخلاف : أنه إذا احتج علينا بأمر أو خبر يلزمنا على الحد الذي كان يلزمنا لو كنا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، موجودين من غير قياس إن قلنا الأمر يتناول المعدوم ، وإن قلنا : لا يتناوله فيحتاج إلى قياس أو دليل آخر لإلحاق الموجود في هذا الزمان بالموجود في ذلك الزمان . [ ص: 103 ]

                                                      واختار إمام الحرمين في " الشامل " مذهب الشيخ وأشار في " البرهان " إلى الميل إلى مذهب المعتزلة .

                                                      وقال القاضي : وعلى قضية هذا الاختلاف اختلف الصائرون إلى قدم كلام الرب تعالى وأن كلامه هل يتصف في أزله بكونه أمرا أو نهيا أم يتوقف ثبوت هذا الوصف على وجود المكلفين وتوفر شرائط التكليف ؟ فمن جوز أمر المعدوم صار إلى أن كلام الرب تعالى لم يزل أمرا ، ومن أنكر ذلك جعل كونه أمرا من الصفات الآيلة إلى الفعل ، وهذا كما أن الرب سبحانه وتعالى لم يتصف في أزله بكونه خالقا ، فلما خلق وصف بكونه خالقا .

                                                      قال : والذي نرتضيه جواز أمر المعدوم على التحقيق بشرط الوجود ، وأنكرته المعتزلة قاطبة .

                                                      وقال ابن برهان في " الأوسط " الذي عليه أصحابنا أن المعدوم مأمور ، ونقل عن بعض أصحابنا أنه مأمور بشرط الوجود وهو قول فاسد ، لأنه إن أراد الخطاب بعد الوجود فليس أمر معدوم ، وإن أراد خطابه حالة العدم فذلك ، فقد تقدم المشروط على الشرط .

                                                      قال : وهذه المسألة فرع أصل عظيم ، وهو إثبات كلام النفس للبارئ ، فعندنا أن كلام الله صفة قديمة أزلية قائمة بذاته أبدا ، وهو يتصف بكونه أمرا ونهيا خبرا واستخبارا ، فإذا ثبت هذا الأصل فقد ثبت أنه أمر للمعدوم ، لأن كلامه في الأزل اتصف بكونه أمرا ونهيا ، ونحن معدومون إذ ذاك لا محالة .

                                                      وأما المعتزلة فصاروا إلى أن كلامه مخلوق حادث بخلقه إذا أمر أو نهى وهو عبارة عن الأصوات والحروف فلا أمر ولا نهي قبل المأمور . [ ص: 104 ]

                                                      ونقل عن القلانسي من أصحابنا أنه قال : البارئ تعالى متكلم بكلام قديم أزلي قائم بذاته أزلا وأبدا إلا أن كلامه لا يتصف بالأمر والنهي والخبر والاستخبار إلا إذا أمر ونهى ودخل المكلفون وحدث المخاطبون وهو قول باطل .

                                                      وقال المازري : من هذه المسألة قالت المعتزلة بخلق القرآن ، لأنهم أحالوا وجود أمر ولا مأمور ، ولم يكن مع الله أحد في الأزل حتى يأمره وينهاه فيستحيل حصول الأمر لاستحالة الكلام .

                                                      ودهش لهذا بعض المتقدمين من أئمتنا القلانسي وغيره حتى ركب مركبا صعبا فأنكر كون كلام الله في الأزل أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا ، فخلص بهذا من إلزامهم ، لأنه إذا نفى الأمر في الأزل لم تجد المعتزلة سبيلا إلى الطعن على مذهبه في قدم القرآن ، لكنه استبعد أمرا وفر منه ، فوقع في آخر أبعد منه ، لأنه أثبت كلام الله سبحانه قديما في الأزل على غير حقائق الكلام من كونه أمرا ونهيا . وإثبات كلام ليس بأمر ولا نهي ولا خبر . ولا استخبار إلى غير ذلك من أقسام الكلام غير معقول ، فكأن مثبته لم يثبت كلاما ، وإنما أثبت صفة أخرى غير كلام .

                                                      فالحاصل : صعوبة هذه المسألة ، فإنه إما أن ينشأ عنها نفي قدم الكلام كالمعتزلة وإما إثبات قدم الكلام ، وفيه إثبات قدم الخلائق المأمورين أو إثبات أمر ولا مأمور ، وإما إثبات كلام قديم عارض حقائق الكلام ، فأما شيخ المذهب الأشعري فلم يستبعد إثبات أمر في الأزل ولا مأمور لأنا نجد من أنفسنا أمر الغائب ، وإنما يتوجه عند حضوره .

                                                      وأجاب إمام الحرمين بأن الذي نجده من أنفسنا تقدير أمر إذا حضر لا نفس الأمر الحقيقي ، وكلام الله وأوامره لا يصلح فيها التقدير . [ ص: 105 ] واستدل شيخنا بأن الفعل المعدوم يأمر به . تقول به : زرني غدا ، وبأن الخلق إلى يومنا لم يزالوا مأمورين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال المازري : والحق في هذه المسألة إنما يصفو بعد تصور أحكام التعلقات ومتعلقاتها ، وصرف التعيين إلى المتعلقات لا المتعلق ، وهو من الغوامض .

                                                      وأهل الحق أثبتوا هذه التعلقات أزلية ، لأن نفيها عن الباري سبحانه في الأزل محال .

                                                      وقال المقترح في تعليقه على البرهان " : التقدير هاهنا ليس عائدا إلى الباري سبحانه فإن التقدير حادث ويستحيل قيام الحادث بذاته تعالى ، وإنما هو عائد إلى المكلف بمعنى أنه يقدر في نفسه احتمال وجود هذا المعدوم ، واحتمال أن لا يوجد ، فعلى تقدير وجوده يكون مأمورا قال : وإن صدقنا وحققنا قلنا : الأمر لم يتعلق بالمعدوم وإنما يتعلق بالموجود المتوقع كما أن العلم الأزلي يتعلق بالموجود الذي سيكون ، كذلك المطلوب الأزلي متعلق بالتكليف الذي سيكون ، فالأمر إذن يتعلق بالموجود ، أو يتعلق الطلب بالموجود بالمعدوم ، فإن نفي التنجيز يشعر بذلك .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية